سحر النـّوْبـَـنـَـة
الفنأفريقانية المصرية في مشهد حسّان الفنان
رُبّ صدفة و رُبّ وعْـد...
الزمان: أبريل 1999
المكان: الصالة الرئيسية للسوق العالمي لكتب الاطفال بمدينة بولونيا ( ايطاليا ).
الحدث : المعرض التشريفي لرسامي كتب الاطفال الافارقة.
دخلنا باتريسيا و أنا و الاطفال، و نحن نتحرك وسط الخلق و السحنات المتنوعة التي تجول في الصالة. و قبل أن نشرع في مشاهدة المعرض لمحته فجأة، و هو في عمق الصالة متأبطا" بورتفوليو" كبير ( مثل معظم المتجولين في المعرض) لا بد أنه يضم مشاريع للنشر ، ذلك أن معرض بولونيا هو " سوق " بالمعنى التجاري للعبارة يلتقي فيه الناشرون و الكتاب و الرسامون و تقنيو الطباعة و التربويون المهتمون بثقافة الطفل. قلت لباتريسيا:
" الزول الواقف هناك دا سوداني و أنا بعرفه"
.فاستغربت قولي واحتجت:
" انت كل ما تشوف زول أفريقي تقول دا سوداني"،
قلت لهاأن للسودانيين أسلوب في الحركة و في السكون يميزهم عن الكثيرين من خلق الله ( هذا باب للريح في أدب الجسد أسدّه مؤقتا حتى أخلص من حكاية حسان) ، وناديت بالصوت العالي :
" يا حسان".فالتفت مندهشا و أشرق وجهه بضحكة فتعانقنا وسط الصالة و تبادلنا التحايا و الاشواق و السؤال عن الاحوال بعربية جهيرة وسط زحمة الرطانات الاخرى و لم نبال ، ذلك أن انقطاعتنا كانت قد طالت لحوالي عقدين من الزمان.
عرفت منه أنه حضر قبلنا بيوم ليشارك في المعرض الذي يضم نماذج لأعمال 176 رساما أفريقيا ممن نشرت لهم كتب أطفال بين أفريقيا و أوروبا و أمريكا.تجولنا في المعرض و بعدها اقترحت عليه ان نعرض مشاريعه على ناشر " قراندير" الذي نشر لي كتبي، و كان حاضرا في المعرض. فذهبنا كلنا و عرّفنا حسان على" آلين" و" روني تورك" ،( و هم أصدقاء أعزاء يُعتدُّ بهم في كل معاني العبارة).قالت لي "آلين":" لقد لفت نظرنا عمله المعروض و حين وجدنا أنه من السودان تساءلنا عمّا اذا كنت تعرفه".
و نبهني حديث "آلين" الى تلك الايام في مطلع السبعينات حيث كانت دوائر الشبان و الشابات المهتمين بالفنون تتداخل بين كلية الفنون و معهد الموسيقى و المسرح و المسرح القومي و جامعة الخرطوم و نادي السينما و المعارض التشكيلية الخ.كان تداخل الغوايات و الحساسيات يطبع الحراك الثقافي في مجمله فقد كنا في كلية الفنون نباشر التشكيل كنشاط محوري دون أن تمنعنا محورية التشكيل من الانشغال بالمسرح و الموسيقى والفلسفة الخ.و كان الاصدقاء الوافدون من معهد الموسيقى و المسرح(محمد بلة ،و السني و تماضر والسر و عثمان علي الفكي و عكود و آخرين) يساهمون في حواراتنا التشكيلية و نشاطاتنا المسرحية بعفوية كبيرة دون أن يخطر ببال أحد التنبيه على تجاوز هؤلاء أو أولئك للحدود الرسمية بين فضاءات الخلق.في تلك الفترة عرفنا حسان بين نفر من طلاب جامعة الخرطوم( محمد عمر بشارة و صلاح حسن أحمد و الشقليني(بيكاسو) و صلاح حسن الجرّق و آخرين) من الذين انخرطوا بكليتهم في دروب الممارسة التشكيلية بالتوازي مع غوايات فكرية و ثقافية أخرى.و كنا نساهم في المعارض الجماعية و في الندوات و في العروض المسرحية و السينمائية الخ بطريقة جعلت منا شبكة واسعة مركّبة من الذوات المتضافرة على صيانة عصب الحداثة الثقافية كأسلوب في المعارضة السياسية.
صورة الفنان كعصامي
و كون حسان، كتشكيلي، لم يخرج من كلية الفنون فذلك أمر ما كنا نعيره أهمية أبدا.ذلك أننا خبرنا في كلية الفنون نفر من " الجماعة الطيبين" الذين قتلوا السنوات الطوال على مقاعد الدرس في كلية الفنون دون أن يعود عليهم ذلك بنفع أو بضرر يذكر،كما كان بيننا نفر من زملاءنا من " مطاريد " كلية الفنون الذين جعلهم الفصل التعسفي(السياسي) من الكلية أكثر حمية في الانشغال بشاغل الفن(هاشم م صالح و علاء الجزولي و آخرين).و خلاصة الامر هو أن حسان بيننا فنان تشكيلي قبل كل شيء ـ و ان كان يحمل بكالوريوس كلية الاقتصاد من جامعة الخرطوم (1976) و دبلوم عال من معهد التخطيط القومي بالقاهرة(1986) كمان ـ و الناظر في أعماله التشكيلية يجد نفسه في حضور مبدع كبير، تشهد أعماله عن تجربة جمالية غنية بالمباحث المتنوعة على أصعدة الخامات و الادوات و المساند التشكيلية.أو كما قال مرة ، في حوار له بجريدة" الخرطوم":
" الرسم و التلوين عندي تجربة ذاتية ، غير معزولة عن الهموم الحياتية الاخرى، و هي حوار و جدل بين ما أشاهده و ما أحسه، فهي اشكالية جدلية بين معرفتي و طريقة تعبيري. و لا تبدأ لوحتي من أفكار مسبقة و انما تنطلق من صور، و قد تبدأ بمساحات أو بقع لونية، خطوط متشابكة أو غير متشابكة، و تتطور من واقع الصراع مع الخامة و السطح حتى تصير شكلا.."( أنظر كتالوج " حسان علي أحمد 1980 ـ 1996" ).
و عبارة " واقع الصراع مع الخامة" هي بحق واحدة من العبارات المفاتيح في تجربة حسان التشكيلية.فجل أعماله تشهد عن هذا الصراع المحموم المتصل الذي يخوضه حسان بسبيل اكتشاف امكانات الخامة و قوانين الأدوات و تطويعها جميعا في خدمة غايات التصميم و تقعيد" الصورة" ، صورة الخيال ، على مسند الواقع المادي.و حسان يعي تماما أن " واقع الخامة" ينطوي على تاريخ طويل يمتد لقرون من التجارب التشكيلية لتشكيليين مختلفي المشارب. هذا الوعي يطرح على الفنان أكثر من تبعة جمالية و تقنية تجاه تاريخ الخامة و الاداة.و تلك مسؤولية كبيرة تصدى لها حسان ـ و ما زال يفعل ـ بمنطق البحث المضني المتصل الذي لا يغفل عن أي شاردة أو واردة يمكن أن تخصّب عمله التشكيلي.
و من واقع انشغاله بالتشكيل كبحث في الخامات و المساند و الادوات يدخل حسان على تصميم كتب الاطفال مسلحا بتجربته الطويلة الثرة كتشكيلي عصامي، و العصاميون في منطقة البحث المعرفي قوم يطرحون على أنفسهم أسئلة معينة و يتفرعون بكليتهم للبحث عن الاجابة المناسبة. و بحث العصامي ينمسخ في لحظة ما الى نوع من تحامل شخصي يتجاوز الاشتطاط ليدخل في منطقة الهوس المرضي ، ذلك لأن الباحث العصامي يتحرك ، منذ البداية ، في مساحة حرية بلا حدود.و على خلاف البحّاث النظاميين فالباحث العصامي غير ملزم بحدود برنامج مدرسي يرسم للتلاميذ النظاميين آفاق المبحث ضمن حدود برنامج المرحلة الدراسية. و قد أشار مولانا " امبيرتو ايكو" مرة ـ احسبها في " حرب الزيف" ـ ( مجموعة مقالات صدرت بالفرنسية تحت عنوان"
Umberto Eco
La Guerre du Faux, Grasset 1985/
الى الحظوة المميزة للبحاث العصاميين الذين يتمخض عنهم عصر التقنية الالكترونية.فالحاسوب يبذل للباحث المعاصر الجزء الاكبر من حصيلة المعلومات التي كانت في السابق وقفا على المؤسسات المدرسية .و يموضعه أمام كافة الاحتمالات التي يمكن أن يتطور عليها بحثة ( بما فيها احتمال اعادة اختراع العجلة). و قد أشار" ايكو" الى أن هذه الوضعية الجديدة للبحاث العصاميين المعزولين المنتثرين عبر شبكة النيت تطرح خطر احتمال انهيار الثقافة المنمّطة من خلال المؤسسات التعليمية الجمعية كالمدارس و الجامعات التي تصوغ المعارف بشكل يثبت في التجربة الجمعية جملة من المراجع و المناهج المشتركة بما يسوّغ لافراد المجتمع الاعتقاد بكونهم يتقاسمون نفس الثقافة.و هكذا يقدم ايكو الباحث العصامي الحر الذي يعمل خارج الاطر المدرسية النظامية كنوع من " بُعْبُع" منفلت من كل رقابة و قمين باجتراح ما قد يتهدّد تماسك و اتساق الثقافة الجمعية المنمطة التي توارثناها عبر المؤسسات التعليمية النظامية منذ قرون طويلة .و في نهاية تحليل ما ، تبدو الوضعية العصامية قدرا لا فكاك منه حتى بالنسبة لمن تخرجوا في المؤسسات التعليمية النظامية، ذلك أن مسارالباحث المتفرد الخلاق القادر على التطور لا بد أن ينتهي به الى دروب البحث الى تلك الارض البكر التي لم يرسم خرائطها أحد بعد.و هناك، حيث كل شيء جديد، يشعر الباحث الخلاق بوحشة لا تطاق و بعزلة قاتلة، لا عزاء منها الا في ثقة الباحث في كفاءة منهجه و في ايمانه( الديني) بصلاح غايته و جدواها.و لعل في هذا المصير" الموحش" بعض التفسير للواقع الذي يجعل اغلب البحّاث المدرسويين ينكصون عن البحث بمجرد انتهاء سنوات الدراسة النظامية ، و نيل الشهادة الأكاديمية (المبرّءة للذمة الطبقية.. و هيهات). و من هذا أخلص الى ان كل باحث متفرّد هو في النهاية عصامي مستوحش، مقيم على برزخ، بين ما كان و ما سيكون ، و" عسى أن تكرهوا شيئا..".
الهيروغلوفية الشخصية :
.ولعل مداومة حسان والحاحه المستميت على شاغل الخامة هو أهم ملمح يعقله المشاهد في تجربة حسان التشكيلية.و أنا لا أشتط حين أقول أن هَمْ استقصاء الخامة هو الذي أنقذ حسان من خطر الانزلاق في فخ الـ " فَـلْـكَرَة" السعيدة ( لو جازاشتقاقي من مادة فولكلور)
Folklorisation
و " الفلكرة" فخ مريح عامر بالمنافع و الامتيازات( السياسية) المهلكة التي محقت تجربة فنانين واعدين ممن حفّزتهم السلطات السياسية على الانخراط في مولد استلهام التراث القومي المحلي.و تنويهي لا يقتصر على حواريي" مدرسة الخرطوم" وحدهم ،أو على ذوي قرباهم الجمالية كالحروفيين العرب و العجم. فمدرسة الخرطوم ليست سوى حالة بين حالات عديدة في مناطق الموسيقى و الأدب و المسرح الخ. حيث يصطنع الفنان لنفسه سجنا وهميا، حيطانه العالية المصنوعة من تراث الاسلاف العرقيين، تحجب عنه مواريث الآخرين و منجزات العصر.واذا كان البحث المُـعَـرْقَـنْ ، في الخامة و في الصورة الايقونية ،ينمسخ عند الاستلهاميين" التقاليديين" لنوع من" نهاية مطاف" جمالي ، عنده يكرّس الفنان ذاته كحارس لتمائم الاسلاف العرقيين، فان البحث الحر الطليق يصبح عند حسان ثغرة ينفذ منها لفضاء الاختراع التشكيلي الرحيب.و حسان في هذا الموقف، موقف الباحث الأصيل، كمثل غول نهم واسع الاطلاع، يلتهم كل ما يطاله فضوله التشكيلي البصير و يهضمه و ينساه ليخرجه في صياغة شخصية متفردة و جديدة . و المتأمل لأعماله يكاد يقرأ عبرها جملة المصنفات التقنية والمراجع الايقونية المبذولة من فجر حركة الحداثة الاوروبية( كاندنسكي و بول كلي وماكس ارنست و شاغال و آخرين) لمحاولات التشكيليين العرب( المصري عبد الهادي الجزار و آخرين) والتشكيليين السودانيين ( صلحي و تاج السر و حسين شريف و كمالا و عبد الجابر بدري و آخرين) ، مرورا بالمصنفات و المراجع الشعبية الأوروبية و العربية و النوبية و الزنجأفريقانية و خلافه.و في " خلافه" أجد نوعا من الموتيفات الشعبية التي اختلقها حسان و ولّفها توليفا، من محض خياله التشكيلي، و دون أن يتمكن أحد من احالتها الى أي تقليد شعبي معروف، و هي الموتيفات التي لاحظها كل من" جوليا" و" توم كواش" من شعبة الفنون البصرية في الجامعة الامريكية بالقاهرة ضمن مقالتهما عن معرض حسان المنشورة في "مصر اليوم"
ووصفاها بكونها:" نوع من خربشات لغة أفريقية منسية أو ربما هي نسخة الفنان من هيروغلوفيتة الشخصية.."
(Julia & Tom Coach in Egypt Today, Jan. 1996)
.و هذه المنطقة الغميسة، منطقة" الهيروغلوفية الشخصية"، في فضاء حسان التشكيلي تظل عاطلة في عتمة الزاوية العمياء لنظر نقاده الاستلهاميين التقليديين، الذين ينطلقون في نقدهم عادة من معرفتهم المسبقة بحسان كشخص سوداني نوبي الاصل، ليرددوا نفس المفاهيم و الافكار" الكليشيهات" التي يمكن أن تسري على كل نوبي على الاطلاق.و هي في الغالب أفكار لا تخلو من شبهة الجمالية المعرقنة .
الفنأفريقانية المصرية :
و ربما كان لهذا الامر علاقة بصورة افريقيا في خيال المثقفين المصريين. ولـ " النوبة" في الخاطر الرمزي المصري مساحة أفريقانية عامرة بالاوهام و الاحلام التي تتمازج مع قدر من الحقائق و الهواجس التاريخية،و التي لابد أن البحاث، المصريون و النوبيون و غيرهم ، سينبرون لها حين يتوفر لهم براح للتأني عند صورة النوبي في سيكلوجية المجتمع المصري الحديث .و وراء صورة الفنان النوبي في الثقافة المصرية اشكالية" فنأفريقانية" و بلاوي عرقية يشيب لهولها الولدان، و الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه. و لأستاذنا و صديقنا ،الباحث المصري حلمي شعراوي، له دراسة شيقة ـ غير منشورة ـ بعنوان:
" صورة الافريقي لدى المثقف العربي ،
محاولة تخطيطية لدراسة ثنائية " قبول/استبعاد".( ورقة قدمت في مؤتمر الجمعية العربية لعلم الاجتماع ـ تونس ، سبتمبر 1996 ) . في هذه الدراسة يتقصّى حلمي شعراوي ظروف تأسيس صورة الافريقي في الخاطر العربي من خلال ثنائية " الصراع / الاستبعاد" ، و ثنائية "القبول/ الاستبعاد" في عصر الامبراطورية العربية الاسلامية ،وصولا لمرحلة الدولة الحديثة و التحرر الوطني من خلال ثنائية "التوافق / الاستبعاد " .و ديمومة محور" الاستبعاد" على تواتر "الصراع" و"القبول" و" التوافق " تجد بعض تفسيرها، عند حلمي شعراوي، في مفهوم " الفراغ " الحضاري الافريقي المترسّخ في خاطر معظم "المستفرقين" العرب. و "المستفرقين" تخريج موفّـق من حلمي شعراوي كونه يؤسس لقرابة أيديولوجية بين جمهرة من الافريقانيين العرب و آبائهم من المستشرقين الاوروبيين. هذا ال" فراغ الحضاري " الافريقي يعتبر عند نفر من المستفرقين المصريين المعاصرين بمثابة دعوة لمصر، " أم الدنيا"، لتؤدي دورها في قيادة القارة المظلمة نحو النور. و يكتب حلمي شعراوي عن ثنائية " التوافق / الاستبعاد" في عصر الاستقلال الوطني و حركة التحرر" أن الثورة الوطنية للاستقلال و التحرر في العالم العربي ارتبطت{ بالمواجهة مع الغرب} و{ الاستقواء ببلدان الجنوب }، و فرض ذلك { اعادة بناء الذات العربية} لكنها لم تفرض { اعادة النظر } في صورة الغرب أو صورة بلدان الجنوب" ( ص 43).و هكذا ظل" الطين في طينه و العبد في تركينه" عند ابناء الفلاحين الذين ورثوا جاه الخديوي.و يلاحظ حلمي شعراوي التضخم الاعلامي الذي لازم صعود الدولة الوطنية بعد الحرب العالمية الثانية في صدد موضوعات " الدور " و " الرسالة الحضارية" و" الواجب التحريري"." و هي ـ في تعبير حلمي شعراوي ـ مقابل بسيط للتبليغ" و " الرسالة الخاتمة" و " اقامة دار الاسلام بالجهاد ". و اقتضى ذلك عند بناة الذات العربية الصاعدة بناء صورة للآخر الافريقي" الفاقد للذاكرة".." و التابع لقوى أخرى حاليا ..".
" و في عام 1957 يصدر كتيب" فلسفة الثورة" عن قائدها في مصر ، متحدثا عن رسالة مصر في نقل الحضارة الى مجاهل القارة المظلمة و تحريرها من سيطرة خمسة مليون من البيض." (ص 44).
و يمضي شعراوي في تعرية المخازي العرقية لدى مستفرقي الطبقة الوسطى المصريةمن خلال مثال المؤرخ " حسين مؤنس" الذي يطرز على كانفا الزعيم ، عبر" كتابه الشهير " مصر و رسالتها" (1955)،و الذي طبع خمس طبعات بعد ذلك حتى عام 1975 ". يقول حسين مؤنس:
"ان مصر أم الدنيا و رسالتها هي نشر النور و السلام .. و فتحها فتح حضارة لا فتح سياسة ".."و قد كانت مصر دائما منبع الحضارة الافريقية و مصدرها.. فمن اتصل بمصر تحضّر و تقدّم ، و من لم يتّصل بقي في مكانه"( حسين مؤنس: مصر و رسالتها، مطبوعات الشعب ، الطبعة الحامسة ، القاهرة 1976 ، ص 47).
و يرى شعراوي أن" غياب انثروبولوجيا عربية محايثة" سوّغ لـ "مدرسة التاريخ" المحافظة و المرتاحة على حجر السلطات"من أن تتغول على أرض الدراسات الافريقية و تعيث فيها فسادا بلا رقيب أو حسيب، سيّما و تواطؤها السياسي يكسب لها قدرا معتبرا من " النفوذ في الثقافة العربية بمصر" .و يورد شعراوي (ص 45) نص حسن ايراهيم حسن عام 1957 عن الشعوب الزنجية التي استقبلت الرسالة:
" أما عن الثقافة الاسلامية فانه يمكننا أن نقول في اطمئنان أن هذه الثقافة كان طابعها عربيا صرفا، لم تداخله أي تأثيرات أخرى. و السبب واضح ،هو أن هذه الشعوب الزنجية، التي اعتنقت الاسلام و تشرّبت ثقافته العربية، لم تكن لها تقاليد ثقافية مثل تقاليد الايرانيين و الاغريق التي أثرت في الثقافة العربية في بيئات الشرق الادنى".." لكن هنا حـُملت الثقافة الى بلادهم و تقبلوها كما هي". و يقول حسن ابراهيم حسن في موضع آخر:
"ان الاسلام جاء بحضارة جديدة أتاحت للشعوب الزنجية طابعا حضاريا متميزا لا زال واضحا حتى اليوم و مؤثرا في نظمهم السياسية و الاجتماعية". ذلك أن الاسلام حمل الحضارة الى القبائل المتبربرة ... و أتاح للزنجي الاسود الفرصة لأن يصبح مواطنا حرا في عالم حر "( حسن ابراهيم حسن، انتشار الاسلام و العروبة في ما يلي الصحراء الكبرى شرقي القارة الافريقية و غربها، معهد الدراسات العربية، القاهرة 1957 ).
حين يرد حلمي شعراوي مثالب ما أسماه بـ " المدرسة التاريخية"، في أدب الاستفراق المصري الحديث، الى " غياب انثروبولوجيا عربية محايثة" ، فهو يكشف عن قدر معتبر من حسن الظن و من التفاؤل بقوم هم في حقيقتهم الفكرية مفارقين لهم البحث "فُراق الطريفي لجمله" ، بل هم على بعد فراسخ لا تحصى من موقف المؤرخ المحافظ الكلاسيكي. "مدرسة" ايه و" تاريخ" ايه يازول؟ ، ديل ناس ارزقية بيتعملوا بيزنيس الزيانة (السياسية) على رؤوس اليتامى في مجاهل جيوبوليتيك مصر الافريقانية.واذا كان وزنهم الاخلاقي صفر كبير، على يسار القيم الانسانية الكريمة التي يقوم عليها المجتمع المصري المقهور، فان وزنهم السياسي و حظوتهم داخل آلة البروباغاندا الرسمية تمكنهم من تسميم الرأي العام المصري ـ و أحيانا العربي ـ بمفاهيم و مقوّلات عجيبة معجونة بأوهام الاستعلاء العرقي العربسلامي.و هي مفاهيم تلقي بظلالها السلبية على صورة الافريقي الاسود في خاطر قطاع مهم من المصريين الخاضعين لتأثيرات البروباغاندا الرسمية.و لعل ابلغ مثال على حقيقة التأثير السلبي للبروباغاندا الرسمية على المصريين ،هو ما حدث أبان اعتصام اللاجئين السودانيين في ميدان حديقة مصطفى محمود بالقاهرة. و هو الاعتصام السلمي الذي انتهى بقتل قوات الشرطة المصرية للعشرات من اللاجئين العزل و اطفالهم، في هجمة بربرية غير مبررة على الاطلاق.و قد لاحظ المراقبون الحملة الاعلامية الخبيثة التي شنتها أجهزة الاعلام الرسمية على المعتصمين. و هي حملة لم تكن تهتم كثيرا بتمويه أبعادها العرقية مما لاحظه الكثيرون.جاء في بيان أصدرة " مركز الدراسات الاشتراكية " بالقاهرة( نشر في موقع سودان للجميع بتاريخ 31 ديسمبر ضمن بوست للتضامن مع اللاجئين السودانيين بمصر):
" لقد غذت الصحافة، و غذى النظام المصري النزعة العنصرية ضد السودانيين.حاولوا ، و للأسف نجحوا الى حد كبير، أن يبموا سدا منيعا بين السودانيين الذين يعانون الاضطهاد و بين المصريين الذين يعانون الفقر و القمع و الذل.".."حتى قوى المعارضة و نشطاء التغيير، سقط كثير منهم في الامتحان و لم يفعلوا ما يتوجّب على أي مناضل من أجل الحرية فعله: التضامن مع كل مضطهد ".
و ضمن هذا المشهد لا ينج الشخص النوبي ، مصريا كان او سودانيا، من شبهة النظر المستريب من طرف المواطنين العاديين المتأثرين بتربية آلة البروباغاندا السياسية الغاشمة.و ذلك لمجرد كونه حاضر بسحنته الافريقية و بهيئته المتواضعة.
. فالنوبي في مشهد مصر الطبقة الوسطى الحضرية يتمتع بوضعية " الآخر" بكل ما تنطوي عليه صفة الآخر من اسقاطات لصورة الكائن الافريقي" الاكزوتي" الغريب غير المفهوم و الضحيةو المظلوم، وقيل المشبوه المثير للمخاوف أحيانا .و بذريعة "النوبي" يختزل القوم كل تنوّع المبدع النوبي المعاصر،و يلخصونه كنوع من ناطق رسمي باسم التراث التشكيلي المفقود لثقافة أفريقية عريقة ابتلعها يم الحداثة الى الابد .أو قل هو مجرد ممثّـل للباقين من فلول أهله الذين بعثرهم الشتات التراجيدي المعاصر ايدي سبأ ألخ .. و هي، في نهاية تحليل ما، محاولة بائسة لنفي المبدعين ذوي الاصل النوبي لخارج دائرة المبادرة الثقافية المعاصرة،و ذلك على زعم ساذج فحواه أن النوبيون، كأقلية عرقية ظاهرة في مصر، هم بالضرورة " ناس في حالها" ،أي في شغل شاغل عن حال العالم كونهم عاكفين على شؤونهم الخاصة لا يتدخلون فيما لا يعنيهم ولا يزعجون أحدا(اقرأ لا يزعجون السلطات) . و قد يسمونهم" ممثلين" لأفريقيا كما حدث قبيل " مهرجان الثقافة السوداء"( فيستاك) بنيجيريا في 1976 ، حيث سعى بعض المسؤولين بوزارة الثقافة المصرية لتكوين الوفد المصري لمهرجان " فيستاك" لاغوس من اغلبية نوبية.و في ما وراء الاشكالية الثقافية التي يطرحها الحضور النوبي في الخيال الاجتماعي المعرقن لمصر الطبقة الوسطى ، فان مسعي تحميل النوبيين المسئولية الرمزية للقارة المظلمة ـ بذريعة السحنة السوداء ـ ينطوي على رغبة سرية غايتها اخراج مصر( البيضاء؟) من أفريقيا، و هي ستراتيجية عرقية قديمة أسسها نفر من المؤرخين العرقيين بالتضامن مع بعض الأفريقانيين الأوروبيين المحافظين ، الذين استكثروا على أفريقيا واقع التعدد الحضاري الذي يحشر الفراعنة في جملة الافارقة.و قد انخرط في هذا النزاع نفر من العلماء و المؤرخين السود البواسل ممن دفعوا بسواد الفراعنة و بينهم السنغالي" شيخ آنتا ديوب" و الامريكي" مارتن بيرنال"( أثينا السوداء)،
Martin Bernal ,Black Athena, the afroasiatic roots of classical civilization,Rutgers University Press, 1987.
. و هو نزاع يستحق التأني ضمن براح أوسع من هذه السطور التي أكتبها في تصاوير حسان.أقول قولي هذا و أقفل الاقواس في صدد سواد المصريين الذي يروّع الكثيرين بين سدنة النيوكولونيالية المتعولمة الذين يحسبون ألف حساب من عواقب انخراط مصرالاخرى، مصر التقدمية، بكل طاقاتها في حركة المقاومة و الاستقلال (الاقتصادي) ضد غيلان العولمة في" حرب القطن" المستعرة حاليا في أروقة " منظمة التجارة الدولية" في هونغ كونغ بين مزارعي القطن في افريقيا و مزارعي القطن في أمريكا( و من وراءهم تحالف الامبرياليات الشمال أمريكية و الاوروبية و الآسيوية).
و حين يكتب المؤرخ المصري،حسين مؤنس،في كتابه " مصر و رسالتها" أن " مصر منبع الحضارة الافريقية و مصدرها" فهو يتخذ سيماء المصري العربي المسلم الابيض الذي يحتل الارض الافريقية التي أخلاها المستعمر الاوروبي، و يفتحها" فتح حضارة" لينشر فيها" النور و السلام".يعني بالعربي حسين مؤنس يرث من المستعمرين خرافة " عبء الرجل الابيض" ليفصلها على مقاس الطموح السياسي لدولة الطبقة الوسطى المصريه في القارة الافريقية و يجعل منها خرافة جديدة اسمها " عبء الرجل المصري".و موقف حسين مؤنس من المسألة الافريقية يحرم مصر من صفتها الطبيعية كبلد" أفريقي" ليمسخها الى مجرد بلد" مستفرق" يتحدث عن الافارقة بضمير الغائب، و الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، و اسمعني يا خواجة يا محترم، مصر دي افريقية، و أهلها، سواء كانوا من نسل العرب أ والقبط أو النوبة أوالشوام أو الاتراك أو الاغريق أ و الطليان أو الهكسوس أو العرقسوس هم، في نهاية التحليل، افارقة أقحاح و ان تلونت جلودهم بتلاوين شتى.طبعا الخواجة المصري" حسين مؤنس" بعيد كل البعد من موقف السنغالي" الشيخ آنتا ديوب" و مصره الفرعونية السوداء.و الخلاف بين مصر آنتا ديوب و مصر حسين مؤنس يتعذر فهمه من زاوية التعارض بين وجهتين للنظر تحمل كل منهما رؤية تاريخانية متميزة.و ذلك لسبب بسيط يمكن تلخيصه في كون آنتا ديوب و حسين مؤنس لا يتحدثان عن نفس الموضوع.فآنتاديوب الباحث المؤرخ يتحدث على مشهد الدراسات التاريخية بينما حسين مؤنس يتحدث على مشهد البروباغاندا السياسية للنظام المصري الذي( كان؟) يطمح لقيادة القارة الافريقية ( بعد قيادة الامة العربية) من الظلمات الى النور.و في مقابلة ذكية بين المعارضة التي لقيتها أطروحات آنتا ديوب" المصرية" و القبول الذي حظيت به اطروحات ليوبولد سنغور " الزنوجية" المعادية للعرب،وسط الدوائر المصرية الرسمية، يكشف حلمي شعراوي عن البعد الجيوبوليتيكي المركب لاشكالية صورة الافريقي في مصر الطبقة الوسطى العربسلامية.
لاحظ " حلمي شعراوي"، في دراسته عن " صورة الافريقي لدى المثقف العربي"،
أن دراسة قبول و استبعاد شخصية مثل سنغور، وفق قبول العرب أو استبعادهم للسياسة الغربية في أفريقيا،جديرة بأن تكشف لنا عن ظروف آلية صناعة الصورة السياسية عند العرب لهذا " الآخر " أو ذاك، وفق حالة تحررهم او تبعيتهم.ففي مقابل سنغور كان الموقف من الشيخ آنتا ديوب و التعامل مع نظريته في " الاصول الافريقية للحضارة الفرعونية. لقد لاقى الانتاج الفكري لهذا المفكر ـ المعارض الوطني لسنغور ـ قبولا محدودا في مصر ، رغم ترسيخه للعلاقات الحضارية بين شعب مصر و شعوب غرب أفريقيا، على النحو الذي أورد في كتابه ، مهما اختلف عليه.و وضح ان ذلك انما يرجع للقبول الواسع لسنغور بسبب نفوذه الفرانكفوني الذي يلقى ، مع الديجولية ، ترحيبا مستمرا في العواصم العربية أواخر الستينات، الى درجة منحه درجة الدكتوراة الفخرية في مصر و ترجمة بحثه الرئيسي عن " الافريقانية و العروبة". و لم يشأ أحد من أصحاب المدرسة التاريخية أن ينتبه الى عملية الفصل التي يقيمها سنغور بين الثقافات الافريقية و الثقافة العربية، بل و اعتباره أن الثقافة العربية بلورة للقطع مع التراث الافريقي، مطالبا بصيغة جديدة تجمع العرب و البربر و اليهود و الافارقة في " كلية " جديدة، يساعدها على التقدم لقاؤها باللاتينية، ثقافة العقل" الشمالية".و في مرحلة لاحقة من الثمانينات ، أقامت له القاهرة و الدوائر الفرانكوفونية جامعة باسمه في الاسكندرية، بينما أقام السنغاليون جامعة الشيخ آنتا ديوب في داكار.
و في معركة صحفية أحدث( مايو 1996)، وُوجهت الكتابة حول نظرية الشيخ آنتا ديوب عن " الاصول الافريقية للحضارة الفرعونية"،".."بانزعاج ملحوظ من الدوائر الاكاديمية و الصحفية، في وقت تتجه الموجة ـ هذه المرة ـ للمتوسطية بالأساس.
هل يفيد ذلك في درس انتاج و اعادة انتاج الصور لاعتبارات تتعلق بالبنية الداخلية لا الخارجية؟" ( ص 49).مندري، بيد أن كل ذلك يفيد في الوعي بطبيعة النفسية الطبقية التي يصدر عنها خطاب النوبنة المصري في شأن فنان كحسان على الاقل.
و يفسد مختار العطّار ما يصلحه الدهر
قلت : أقول قولي و أقفل الاقواس( و هيهات) ، و أعود لأولوية مبحث الخامات و الادوات، على غيره من المباحث، عند حسان علي أحمد.و عند النظر في الملاحظات النقدية و عروض المعارض الصحفية التي خطتها أقلام النقاد و الصحفيين العرب(والعجم) في خصوص أعمال حسان التشكيلية استوقفني التلخيص المتكرر لعمل حسان كنوع من شهادة توثق لحضور ثقافي نوبي بوسيلة التشكيل المعاصر.و هو تلخيص جائر في حق حسان لانه يسوّغ وضع كل الفنانين النوبيين في سلة واحدة لمجرد كونهم نوبيين و بدون اعتبار فوارق الموهبة والعلم و الخبرة. و قد برع نفر من نقاد التشكيل العرب( على درب نقاد التشكيل" العجم" طبعا) في هذه الصناعة السهلة التي تعفيهم من مشقة التأني عند الفرادة الابداعية لكل مبدع بصرف النظر عن طبيعه ميراثه الثقافي أو العرقي.أقول : " الصناعة السهلة " كون الخطاب النقدي المعرقن يبقى حبيس قاموس هويولوجي ضيق محدود بالعبارات الجاهزة من صنف " التراث" ، " البيئة المحلية " " الجذور "،" المنابع"، "الأرض"،"الذاكرة"، " الاغتراب"، " الشتات"، " الاسطورة " و" الطقوس"( الافريقية غالبا). هذا النوع من الادب هو كمثل " قميص عامر" الذي خاطوه في الفاشرو قدّوه ليوسف، من دبر، في القاهرة و ارسلوه لعثمان بمكة وكلّه صابون.كتب مختار العطار ناقد مجلة " المصور" المصرية (1987) تحت عنوان" الفن النوبي الحديث" مقالة، طويلة نوعا، في الاحتفاء بعمل حسان علي أحمد، الذي عرّفه بـ " الرسام النوبي الشاب":
"الا أن ما يرسمه حسان من مواضيع أو مناظر أو طبيعة صامتة ليس سوى استجابة لمثيرات في البيئة المادية ، أو الثقافية أو الذكريات الدفينة في أعماق النفس"..و " معظم لوحاته لا نتبين فحواها الا بعد قليل من التأمل، تبدو كبقايا فنجان القهوة، و سرعان ما تتشكل في عيون المتلقي و تتجسد الرؤى: كما أرادها الفنان أو تخيلها المتلقي. أما ملامس الصخور التي يسعى الى اظهارها بجد و اجتهاد فلا شك أنها عالقة في ذاكرته منذ كان في النوبة القديمة حيث ترتمي النجوع في أحضان التلال و الرمال".
و حسان، بعد أن يقعّده العطار في مشهد" النجوع" اياه، يقضي سحابة يومه يجتر ذكريات الاسلاف و أساطيرهم.أو كما قال: هو فنان " يحيا مع الذكريات و الاساطير وحكايات أبوزيد الهلالي الذي يطلقون اسمه على صورة أسد يحمل سيفا يرسمونه على واجهات البيوت ليحميها، رسمه حسان منزوع السلاح ، رمز التسليم و قلة الحيلة".
انتهت عبارة العطاربـ "قلة حيلة" حسان، و هذا وجه من وجوه" قلة حيلة "هذا العطار الذي يفسد كل ما يصلحه الدهر. "قلة حيلة" بتاعة فنيلتك يا خواجة؟ الزول ده أشطر منك و عارف بالتشكيل و العلوم السياسية و علم الاجتماع اكتر منك و كمان بتكلم تلاتة لغات نوبية و عربية و انجليزية. و لو هفّتْ ليهو يطلّع ليك البرق العبّادي زاتو من كم جلابيتو ممكن يطلّعو في اي لحظة،بعد دا كلّو تقوم تطلع ليه بالنجوع و أسد ابوزيد و و التسليم و قلة الحيلة؟
يا راجل أختشي، و لو كلامي دا وقع ليك أحسن تمشي تشوف ليك تشاشة في سوق العطارين تتعيّش منها بدل ما تقعد تشيل حال الناس بالفارغة. ولا شنو؟
و قد جرّت صفة " الفنان النوبي" على حسان وضعيات رمزية غريبة. فماري تيريز عبد المسيح ،ناقدة " الاهرام الاسبوعي"(الاهرام ويكلي) تقول في مقال عن حسان ، جزء منه منشور في كتالوج " حسان علي أحمد 1980ـ 1996" . تقول ماري تيريز في تعليق لها على معرض " ذاكرة فرس المفقودة"( القاهرة ، يناير 1996 ) :" حسان لا يوثـّق لتجربة الشتات النوبي". و رغم اعتراضها على قراءة تصاوير حسان كتوثيق لتجربة الفقد و الشتات التي كابدها المجتمع النوبي عقب بناء السد العالي، فهي تراها كـ "تجريد لتجربته مع النوبة بما يكسبها واقعية أكثر و يصون حسه بالهوية".
“Hassan is not transcribing the Nubian experience of loss, dispersion- the diaspora. His Nubian reminiscences of landscape, colour and the Farras murals , are not translated into trite symbolic elements,but rather are transformed into feelings which become alive on paper and canvas.He abstracts his experience of Nubia to make it more real, to restore his sense of identity.There are today fewer Nubian houses whose walls could be painted, but canvas and paper can be carried anywhere.Perhaps there is not much Nubian land left. But there will always be a Nubian space to be probed, to be brought alive with Nubian colour, anywhere and everywhere”
Marie Therese AbdelMessih, Cairo University, AlAhram Weekly, 1996
ومن ظاهر هذا التقرير المتفائل يفهم القاريء للوهلة الاولى كما لوكانت ماري تيريز عبد المسيح تحرر حسان من نير التوثيق المباشر للتراجيديا النوبية ، لكنه لدى النظر المتأني يتكشف عن رغبة ملتوية في سجن حسان الى الابد داخل سجن نوبي المعمار، جدرانه العالية ملونة و مزخرفة بالموتيفات النوبية البديعة. سجن يستمر حتى و ان اختفت الارض النوبية و المنازل النوبية اياها..لقد مات سيزيف النوبي غرقا يوم تواطأ رجال الامن شمالي و جنوبي الوادي على اعتقاله و ربطه على صخرة قبل أن يرموا به في عمق بحيرة ناصر( باسم الصالح العام طبعا). هذه التراجيديا المعاصرة ليست بحال نوبية، انها تراجيديا نيوكولونيالية، و من الجور التعامل معها كما لوكانت شأنا يخص النوبيين وحدهم.و لو في زول عاجباه" عتالة" صخور الهويولوجيا العبثية ( نوبية أوغيرها) بطريقتو، خليه يمشي يشيلها براهو بدل ما يعمل منها فرض كفاية اذا قام به النوبيون سقط عن الباقين.
قبل فترة، و بمناسبة معرض لي في لشبونة( عن فن الدياسبورا الافريقية) سألني خواجة من منظماتية جمعية " سلطة الثقافة" الهولندية
The power of culture(powerofculture.nl/uk/current/2005/march/bothways.html)
:” In which ways do you think you are contributing to the development of arts in your home country, even though you are not living there?”
أذكر انني سألت للخواجة المشفق على التنمية الفنية في " ماي هوم كانتري":
:” In which ways do you think you are contributing to the development of arts in my home country, even though you are not living there?”
وصهين الرجل، و أظنه اعتبر سؤالي خارج الموضوع كما يعتبر نفسه خارج " ماي هوم كانتري" و هيهات..و ستين هيهات..
آخر الموهيكان
و فخ الخطاب المعرقن" المُـنَوبََنْ" ( لو جازت ترجمتي لعبارة
Nubianisé)
واسع و مريح،و لا يقتصر على المصريين وحدهم من نقاد حسان، فقد كتبت " جوليا" و " توم كواش" في تعليقهما عن معرض حسان" ذاكرة فرس المفقودة"(من الجذور النوبية) في
Egypt Today, Jan. 1996
"تحكي الاساطير عن حضارة الاطلانتيس القديمة الراقية التي ابتلعها فيضان عظيم غامض.وكثيرون يعتقدون ان هناك ثقافة عظيمة ما، انقبرت تحت المياه مع غرق الاطلانتيس.و ربما لم يكن الغرق الذي أدرك الحياة الحقيقية للنوبة، بعد بناء السد العالي، يتمتع بنفس الوزن الأسطوري للأطلانتيس لكنه بالتأكيد أكثر مأساوية. حصيلة آلاف السنوات من فن الشعب الفريد بعمارته و صناعاته الحرفية تقبع الآن في أعماق بحيرة ناصر.و خلافا لمصير الاطلانتيس،فلحسن حظنا، ما زالت هناك بعض القطع الفنية من تراث النوبة محفوظة في المتاحف، بينما تتبدّى شذرات و أشتات من الثقافة النوبية على السطح عبر الاحلام و الذكريات و من خلال أعمال الفنانين النوبيين المُهجَّرين من نوع حسان علي أحمد"
فـ " جوليا" و " توم كواش" رغم حصافة نظرتهما لعمل حسان الا أنهما لم يقاوما اغراء تحميل حسان مسئولية انقاذ آثار النوبة.كما لو كانت آثار التراث الثقافي النوبي مضمنة في الشفرة الجينية البيولوجية(دي ان آي) للأشخاص النوبيين .و لو تمادينا بمنطقهما لنهاياته يصبح تعبير الفنانين غير النوبيين محلا للريب و للشبهات الجمالية اذا عنّ لهؤلاء الفنانين غير النوبيين استقصاء سؤال التشكيل ضمن احتماله الجمالي المبذول في تراث النوبيين.و من عواقب هذه النظرة العرقية أنها تلغي ـ بذريعة عدم الاصالة ـ كل مباحث الفنانين الاوروبيين، كبيكاسو و مودلياني و برانكوزي و ميرو و جياكوميتي و غيرهم ،ممن انخرطوا في لحظة من لحظات تطورهم في المبحث التشكيلي على هدي آثار التشكيليين الافارقة التقليديين .و حسان في خاطر " جوليا" و " توم كواش" هو نوع من مستودع أسرار القبيلة ، بل هو " آخر الموهيكان" والوريث الشرعي لسلالة" الاطلانتيد" الأفريقية المغمورة تحت مياه بحيرة ناصر.
و صورة حسان التشكيلي تكابد أحابيل" النّوْبَنَـة" الجائرة حتى عند نقاده السودانيين
ان انتماء حسان النوبي لايبرر اختزاله و سجنه داخل وضعية" الفنان النوبي" فقط، كما أن حيازته لدبلوم عال في العلوم السياسية و الانتروبولوجيا لا يمكن أن تغلق فنه في حدود المجالين الأكاديميين اياهما. و هذا الواقع المركب لوجود حسان في العالم يجعله يوصّف وضعيته كفنان تشكيلي بالعبارة البليغة:" الرسم و التلوين عندي تجربة ذاتية ، غير معزولة عن الهموم الحياتية الاخرى".، كونه في نفس الوقت، تشكيلي ونوبي و سوداني( و قيل مصري كمان)،و هو حائز على ألقاب أكاديمية مثلما هو" رجل أعمال" يعرف أن عليه أن يقاتل ليبقى في سوق أعمال القرافيك الاعلاني المتاح في مدينة كالقاهرة.و من بين نقاد حسان السودانيين الذين لم يقاوموا اغراء ال" نوبنة"المجانية أشخاص يعرفونه عن قرب حميم كونهم قاسموه تجارب الحياة الثقافية و السياسية في سودان السبعينات مثلما قاسموه تجارب الشتات السوداني في المنفى المصري. بين هؤلاء يكتب سامي سالم المعرّف بصفتي " كاتب و ناقد سوداني" في جريدة " الاتحادي " الدولية (1995):
" ثمة خيط لا مرئي يجمع بين لوحات حسان علي أحمد و موسيقى حمزة علاء الدين.. الصورة الموسيقية في أعمال حمزة علاء الدين تماثل" الموسيقى البصرية" في لوحات حسان علي أحمد. تلعب الذاكرة التراثية دورا محوريا في تكوين لوحات حسان، الى جانب شفافيات اللون، يدخل العنصران ـ الذاكرة التراثية و اللون ـ كخامات في حقل انتاج الرؤية الفنية ..أي أن الموسيقى البصرية تطلع من صراع الخامات و علاقاتها التركيبية. ".." ما يفعله حسان علي أحمد قريب مما يفعله حمزة علاء الدين، هذا ينتج صور" موسيقية" و ذلك يخلق " موسيقى بصرية" تنفصل فيها البقعة عن المنظور و يذهب الفنان من الرسم الى التكوين، الى اللوحة".
سامي سالم في هذا النص، يتجاهل ـ أو هو يجهل ؟ ـ كل الاشارات والاحالات التشكيلية المبذولة عيانا بيانا في عمل حسان، و التي تقعّده بشكل بديهي على المراجع الجمالية و اللقيات التقنية الرئيسية في تاريخ التشكيل الاوروبي و الآسيوي و الافريقي و السوداني الحديث و القديم ، مما فصلنا فيه أعلاه ، ليتأنى عند قرابة جمالية مُعَـرْقَـنة افترضها بين حسان و الفنان الموسيقي النوبي الاصل حمزة علاء الدين.و تساءلت عن دوافع سامي سالم لتخريج مقولة بمثل هذا القدر من الاعتباط المجاني.و أظن غير آثم أن سامي سالم يعرف جيدا رصيد الاحترام و المودة الكبير الذي يكنه قراءه السودانيون لكل من حسان علي أحمد و حمزة علاء الدين، و على هذا الرصيد يسوغ لنفسه تخريجات نقدية متعرقنة ما أنزل الله بها من سلطان، و هو آمن في طيات لغة شعروية غامضة، من نوع: " اللوحة تكوين لوني يستن شفافيته على ضوء سلسلة معقدة من الامتزاجات"، و لا جناح،فحسان و حمزة " كيف كيف" كما يقول أهلنا المغاربة. و في النهاية، يبدو أن كل أمر التشكيليين والموسيقيين النوبيين عند سامي سالم صابون في صابون..
و لعل أخف مساعي " النوبنة" وطأة على تجربة حسان التشكيلية يتمثل في ما كتبه الاخ صلاح حسن الجرّق ، رئيس قسم التاريخ بجامعة" كورنيل" الامريكية و المسئول عن مجلة "انكا" الامريكية المتخصصة في الفن الافريقي المعاصر و فن الدياسبورا الافريقانية. و ربما كان للأمر علاقة بكون صلاح حسن ، فيما وراء القابه الاكاديمية و صفاته الاعلامية الافريقانية ، هو في نهاية التحليل، و كصديق قديم لحسان، انما يعرف تماما طبيعة المسار الذي قطعه حسان و طبيعة الجدال الفكري والتناقضات الجمالية و السياسية التي كابدها حسان، منذ بداية السبعينات، بسبيل الوصول الى الحاصل الجمالي المطروح في اعماله الراهنة.و معرفة صلاح بحسان تملك ، في حسن ظني العريض، أن تعصمه من الانسياق السهل وراء أوهام النوبنة السعيدة التي يسعى الجميع ، تقريبا ، لحبس حسان في سجنها الجمالي الضيق.
و رغم أن صلاح حسن يرى في حسان صورة الفنان النوبي الحديث ، و وريث المبدعين الاسلاف، الذي يحمل على كاهله ذاكرة الهجرة و يعيش، بشكل يومي، تجربة الشتات( دياسبورا) التي خلّقت من صورة المجتمع النوبي في المخيلة الجمعية لمثقفي الطبقة الوسطى في مصر و السودان ،الا أن صلاح ـ على خلاف ماري تيريز عبد المسيح و جوليا و توم كواش الذين يردون حساسية حسان للمنبع النوبي الماضوي ـ يتذرّع بنفس الهوية المُـنَـوْبَـنة لحسان في تسويغ قابليته على تقبّل و هضم كل ما تجود به الثقافات المعاصرة من لقيّات جمالية و فكرية.و ذلك لأن الحضارة النوبية عنده
(عند صلاح) ،و بطبيعتها، هي حضارة قمينة بتوليف العناصر الحضارية الاجنبية عليها و تكييفها مع عناصرها المحلية ضمن سياق التأصيل الحضاري الحقيقي.بل أن قدر حسان الجمالي يبدو، في مشهد صلاح حسن، مشروطا بطبيعته النوبية فيستوعب و يولّف و يكيّف و يؤصّل وفق غريزة جمالية مودعة في دخيلة أناه النوبية.
« The reference to Faras, a now submerged underwater ancient Nubian church, evokes, as again expressed by Julia A. and Tom Coach, loss, memory,and dreams; yet , it also forgrounds the artist’s desire ti assert his present identity.Along with the symbolic value, the real attraction of ancient Nubia’s artistic accomplishment lies in its ability as a civilization to synthesize the foreign and adapt it to the local and in the process of creating a truly authentic civilization.Ahmed reference to Faras is not the sort of “ return to the source” escapism that characterized the products of postcolonial third world intellectuals, but serious research into one’s heritage and past accomplishments, with an eye on the ability to synthesize the old and create the new.”
( أنظر نص صلاح في مقدمة كتالوج " حسان علي أحمد 1980ـ1996 ":
Of memory, exile and encountering the present :
The art of Hassaan Ali Ahmed
النوبة هاجسي
و في ما وراء مساعي النوبنة التي تستهدف حسان من خارج تجربته، فان حسان نفسه يعبر، في كثير من الحالات، عن نزوع عفوي لقبول هدية " النَـوْبَـنَـة " التي ينعم بها عليه نقاده كموقف جمالي بديهي، و لا عجب، فحسان نوبي، "عارف عزه" و" مستريح" كمان، و من العسف ملاحقته في كل مرة تبذل له فيها هدية النوبنة المريبة .أقول : ان انتماء حسان للنوبة انتماء عفوي مثلما هو انتماء معقلن ضمن منظور البصيرة الاجتماعية الناقدة.و حين يقول " أجرّب والنوبة هاجسي " فهو يعبر عن علاقة عضوية مع النوبة في كامل تمثلاتها الروحية و المادية (العائلية و السياسية و الفنية و الاقتصادية الخ)، و هو في هذا المشهد لا يقتصر على اجترار ذاكرة الاطلانتيد المفقودة التي تحتفي بها دوائر الفنأفريقانية المحلية و الأجنبية، و انما هو يبذل نفسه بكليتها كطرف فاعل في جسد منظمات المجتمع المدني الناشطة في منطقة النوبة. و حسان في هذا لا يشذ عن موقف الغالبية من صفوة المتعلمين من أبناء منطقة النوبة ممن يعون ضرورة تنظيم المجتمع النوبي المعاصر و تهيئته لمواجهة التحديات الحضاريةالكبيرة التي ستفرض نفسها على أهل المنطقة تحت شروط التحولات العولمية الراهنة.و من متابعة المناقشة الاسفيرية الجارية حاليا، بين بعض مثقفي النوبة، في موضوع " المؤتمر النوبي الجامع" يمكن تلمّس الهموم الاجتماعية الواقعية التي لا يمكن لأي عاقل تجاهلها بالذات في هذه اللحظة التاريخية الحرجة من تاريخ السودان حيث تتهيأ البلاد لنوع من " فدرلة" ملغومة بمخاطر" الاقلمة المعرقنة" أو الانفصال أو (و) الحرب الاهلية. و " المؤتمر النوبي الجامع " يمثل أحدى المبادرات الاهلية التي تسعى لصيانة تماسك النسيج الاجتماعي للنوبيين " أمام انهيار الخدمات و سوء التنمية في الاقليم ".."و المؤتمر النوبي هو بذلك وسيلة لحشد جهود كافة النوبيين من أجل المطالبة باستحقاقاتهم في مشروع السلام و حقوقهم في ظل الدولة الفدرالية القادمة" كما عبر أشرف يس ( في بوست أحمد علاء الدين بعنوان " المؤتمر النوبي الجامع ، لماذا و كيف و متى؟" في موقع " سودانيزأون لاين دوت كوم" بتاريخ 28/5/2005). و حين يقول حسان :" أجرّب و النوبة هاجسي " فهو نوبي، لا متنوبن، أي لا يلعب دور النوبي، و انما يكون ذاته كمثقف عضوي ،انتماءه التاريخي للنوبة هو الطرف القريب من انتماء انساني كبير. و حين نؤكد على صفة حسان كـ " نوبي" فذلك التأكيد لا يلغي مزالق العرقنة التي تترصد من يقارب الامر بمجرد النوايا الطيبة و بس. وذلك لأن في ثنايا صفة " نوبي" الظاهرة البراءة يقيم الخطر المضمر المموّه لانزلاق المعاني، من وضعية حسان كـ " نوبي و فنان " الى وضعيته كـ " فنان نوبي"،( و قيل كـ " الفنان النوبي"). و بين الموقفين فرق شاسع، يتجاهله، أو ينتبه له، نقاد حسان حسب المصلحة التي تترتب على هذا الموقف أو على ذاك.ذلك أن انتماء حسان المشروع كـ " نوبي " لا يسوّغ لأحد تسليبه من انتماءاته الحضارية الاخري لتعليبه في علبة المنتج النوبي الخالص و المنزّه من كل شائبة ثقافية أخرى.و مسعى تعليب حسان كمنتج نوبي" كامل الدسم" ، حين يعبر عنه النوبيون، فهو يكشف عن نزوع (مشروع؟) للاحتماء ـ و قيل للانغلاق ـ في قوقعة النقاء العرقي المستحيل، لقوم يقيمون عند بوابة/ملتقى طرق تاريخية تعبر منها المؤثرات الحضارية بين شمالي الوادي و جنوبه و بين شرقيه و غربه.أما حين يأتي مسعى تعليب حسان كمنتج نوبي خالص من طرف المصريين و السودانيين غير النوبيين، فهو يموّه نزوعا عرقيا لاستبعاد النوبيين عن دائرة المبادرة الحضارية ( بأبعادها السياسية و الاقتصادية) في مصر و في السودان.
و حديث بعض المثقفين النوبيين مثل" أشرف يس"، في موضوع " المؤتمر النوبي الجامع" ،عن الحقوق المترتبة على " اتفاقية نيفاشا" يلمس اشكالية الوجود النوبي من منظور موضوعات " اقتسام السلطة و الثروة مع الحكومة الفدرالية ".." و تكوين المجلس التشريعي للولاية " .." و رؤية أبناء الاقليم في مسائل مثل الهوية و علاقة الدين بالدولة و السمات الاساسية للدستور" ( سودانيزأون لاين 29/5/2005 ). و هي موضوعات اجتماعية عواقبها الاقتصادية و السياسية تملك أن تثير قلق ـ بل و روع ـ السلطات في القاهرة و في الخرطوم ، سيّما و أن النوبيون تعلموا ان يصنعوا من جرح تجربة التهجير القسري مرجعا من مراجع الهوية النوبية الحديثة، و هو مرجع ينطوي في ثناياه على اتهام صامت موجه لسلطات الدولة القمعية البوليسية الحديثة التي تتصرف في مصائر الناس دون ادنى اعتبار لحقوقهم المادية ( الارض) و حقوقهم المعنوية ( الهوية).
في شعاب هذه الارض النوبية العامرة بمزالق الغبن التاريخي الروحي و المادي، و المفخخة بالغام الغوغائية العرقية الظاهرة و الخفية ، كتب على حسان أن يمشي على البيض أولا: كتشكيلي يحمل هم الخلق الجمالي، و ثانيا: كنوبي يحمل هم النوبة الاجتماعي، و ثالثا: كسوداني يحمل هموم التحولات الحضارية لبلد هو قارة بحالها من الاسئلة الوجودية الحرجة التي تتجاوز السودان لاشكاليات العولمة المعاصرة.و هو مسار عسير، و حسان بين قلة من الفنانين النوبيين الذين يعون تراكب كل هذه الهموم الجليلة.
أذكر انني طلبت من حسان قبل سنوات ان يكتب لي نصا عن عمله كنت أنوي نشره في "جهنم" التي توزع وسط عدد محدود من الاصدقاء و أصدقاء الاصدقاء ، و جلّهم فنانون تشكيليون ، فاعتذر حسان متذرعا بـ " ياخي انا ما بعرف أكتب" ، و في حينها حيرتني اجابته، كوني كنت انتظر منه كتابة فنانين تحكي عن كيف؟ و ماذا؟ وعن أين؟ ومتى؟ في خصوص معالجة تصاويره .و هذا النوع من الأدب" التقني" يكتسب قوته، ككتابة ابداعية، من علاقته بموضوعه و من قدرته على تأطير التصاوير و توجيه النظر لمواضع الحظوة الجمالية فيها.أقول : حيرتني اجابة حسان ، و أظنني احلتها الى نوع الحياء الريفي الذي يجعل كثير من السودانيين يتهيّبون الكلام عن ذواتهم ،و قد " يدخلون في اضافرينهم" خجلا اذا وضعتهم الظروف تحت دائرة الضوء.و قد اقتضاني الامر فترة قبل أن أفهم ان الكتابة عن التجربة الجمالية المتخلّقة في ارض الاشتباهات الآيديولوجية الغميسة التي يقيم عليها حسان تقتضي من الكاتب مكيدة ادبية كبيرة و براحا زمانيا أكبر.و أظن ان اولويات حسان الابداعية كانت ـ و لم تزل ـ في موضع آخر بخلاف الموضع الذي تدبر فيه مكائد الادب.
أقول قولي هذا ، و استغفره و أبذل ختام مكيدتي الأدبية المتواضعة في أمر حسان بكلمات قالها في حوار بجريدة "الخرطوم" أجراه معه الصديق أحمد عبد المكرم :
" .. و باختصار فان اللوحة عندي عمل لا نهائي و وصول لغير المرئي.
مهموم بالتراث و لكن أرفض استلهام التراث بطريقة فجّة
لا شيء يؤطّرني و لا قانون يحكمني سوى رؤيتي الذاتية و تجربتي و تجريبي.
المزاوجة بين التراث و الرمز و اللون في اللوحة تؤرّقني، و ذلك يحدث بقدر عال من التعقيد و الشفافية لدرجة يصعب معها التحديد ".." حتى أنني احيانا لا أدري، هل أنا ارسم اللوحة؟ أم ان اللوحة هي التي ترسم نفسها؟.."
حسن موسى
7/1/2006
الأربعاء، ٤ تموز ٢٠٠٧
الفنأفريقانية السوداء نية 2
الفنأفريقانية السوداء نية
2
أبكر يا أخانا في أفريقيا ، تاني
مسك العصاية من النَّص
تأملت في كلامك حول الاسباب التي طرحتها في تفسير التصحيف الذي ادرك " صوت الوترالسادس" في نسختها المنشورة على موقعك، و ما كان من أمر انشغالك عن تصويبها بأمور الدنيا، و بدا لي اعتذارك أشنع من ذنبك كونك يا صاح يا كاتب تلقي النص بين الاسافير و لا تدقّق أو تأبه بالمراجعة ، و تنتظر أن تبعث لك العناية بالخصوم المراجعين المتفحّصين ينبهونك الى مواضع الخلل في نصوصك حتى تصوّبها، و أنا ارى في مثل هذا المسلك استهانة بقدر قراءك، ناهيك عن استهانتك بقيمة نصك اذ تلقيه على العواهن. والعواهن يا صاح هي جرائد النخل اذا يبست ، و المرء يرمي الكلام على عواهنه حين يتكلم عفو الخاطر و لا يبال أصاب ام اخطأ( و لا أكتمك اني لم المس العلاقة بين جريد النخل اليابس و الكلام بغير تحسّب، و فوق كل ذي علم بركة).و اذا كان هذا شأنك مع نصوص في معزّة الشعر فلنا الحق ان نقرأ بمزيد من التحفظ نصوصك التي تعالج شأننا السياسي العام.و لناأن نتساءل : ما نصيبها من التصحيف؟و هل راجعتها ؟ام أنك في انتظار فاعل خير يراجعها لك؟
و في" التخليل" النهائي ( و هو أزرط من " التحليل" النهائي ) فان موقفك من نصّك يمكن تلخيصه كوجه من وجوه " مسك العصاية من النَّصْ( بفتح النون المشددة) ، و هو ،في نظري الضعيف، وجه من وجوه " مسك العصاية من النُّصْ( بضم النون المشددة) . و مسك العصاية، عصاية الكتابة، من النَّص ـ فيما وراء مناقشتنا الراهنة ـ هو يا صاح مكيدة أدبية قديمة طالما انتفع بها اهل الكتابة حين تضطرهم ملابسات الكتابة /القراءة للزوغان الواعي أو غير الواعي من عواقب الكتابة.و وجه المكيدة في فعل مسك العصاية من النَّص انما هو في كونه ينطوي على شبهة التملص من عواقب الكتابة بذريعة التصحيف و الأخطاء المطبعية التي قد تموّه وراءها زلات اللسان التي يجود بها لاوعي الكاتب،( و" زلات اللسان"
Lapsus Lapse
في مشهد مولانا سيجموند فرويد ، انما تعبر عن قسمة الخاطر بين عبارتين تحملان ارادتين متناقضتين بحيث تلعب الحالة النفسية للكاتب لحظة التعبير دورا مهما في تحبيذ واحدة على الاخرى. ترى اي خاطر الهمكما انت و عادل انواع التصاحيف الواردة في نصوصك). و قد انتبه نفر من شعراء العرب في العصر العباسي الى التصحيف الارادي كنوع ادبي مستقل، وذلك موضوع شيق لا سبيل للتفصيل فيه ضمن مقامنا هذا. كل هذا يردنا الى موضوعة "مسئولية الكاتب "المشهودة في الادب و التي يمكن اختصارها بعبارة أن الكاتب مسئول أولا و أخيرا عن نصه فلا يفرّط فيه بأي حال و قد يموت دونه. و تلك يا صاح مسئولية لا يطيقها كاتب مستعجل.و العجلة تتربص بنا جميعا و لات مناص، و يبقى العزاء في النوايا الطيبات و الحمد لله على كل شيء.
أما ما كان من أمر ما أسميته بـ " أهم المسلمات" في خطابي ، و التي لخصتها أنت " بقليل من التأنّي " في قولك :
" مسلمة الصاح حسن موسى التي تنبني عليها مقولاته في الفنأفريقية التي أسهب فيها هناك و عنون بها مفاكرته هنا هي " كون العرب في افريقيا مثلهم مثل غيرهم من أهل القارة الآخرين" و قد أسقطت أنت من الاقتطاف الذي اوردته عني مفتاح فهمه في عبارتي " هم أفارقة"، و العبارة كما وردت في نصي هي كالآتي :
".. كون العرب في أفريقيا هم أفارقة مثلهم مثل غيرهم من أهل القارة الآخرين..". و أنا على يقين من كونك لم تتعمد اسقاط مفتاح فهم كلامي ، حاشاك ، لكني تأنيت عند هذا الامر كونه يكشف لي عن مشكلة العجلة في مسلكك الكتابي يا صاح، و العجلة ليست" من الشيطان"، كما يشاع وسط الأهالي و لكنها الشيطان نفسه. و أنا ألومك على شيطان العجلة الذي يفسد عيك صناعة التعبير، و الكتابة صناعة، و أنت أدرى و ان تذرّعت و تعذّرت بأدب اللاأدرية المعاصرة التي لا تنج من شبهة التواضع الكاذب.و هاك اقرأ هذا الكلام المحير الذي اوردته في خصوص " الاجيال و الكتابة":
" أنا لحدي هسي ما متيقن من أن كلمة جيل تطابق كلمة كتابة أم لا.."
.و تعتذر عن مثل هذا الطرح بعذر القصور و النقصان في العلم، كما في قولك:
" و كل ما اتاحته فرصة التدبر أن نتكلم بصوت مسموع" ،( و اظنك تقصد : أن نفكر بصوت مسموع)، " لكيما يأتي آخرون و يضيفوا علما، و هذا ديدن الصاح ابكر، لادراكه، في وقت ما،ان من قدر الفرد ان يكون قاصرا .." ,تقول مثل هذا الكلام و تتمسكن بلا سبب، و أنت أدرى الناس بكون واقع قصور الوعي ،( أو واقع تفتُّحه) هو صيرورة كفاح محكومة بالجدل المتشعب لفعل الكاتب في محيطة و انفعاله به.
و تقول مبررا اهمالك لتمحيص الكلام في مسألة الاجيال بأن " .. الصاح ابكر كان مزرور في المعايش، التي انتهت به الى زنقة الاكاديميات ، فعمل نايم ـ على أمل ان يتيح جدول الاولويات الفكرية مقاربة أخرى ".أها يا ابكر في الحتة دي انا عندي قراية مغرضة مشروعة تانية فحواها انك تتذرّع بـ " زنقة الاكاديميات" لتسويغ الكلام في اشكالية الاجيال بالطريقة " الضبابية" التي أشار اليها صديقك الصدوق محمد كبّر( و الصديق ساعة الضيق). و قرايتي المغرضة تحفزني على الاستنتاج بكونك تستسهل المفاكرة في اشكالية الاجيال و تعتبرها ، من مشهد الاكاديمي المُزَاَنقْ ، امر ثانوي في سلم اولوياتك المدرسية.أكاديميات شنو يا صاح ؟لو اصلها المسألة بقت مسألة اولويات اكاديمية فأنا افتكر انو مافي أولوية اكاديمية اكتر من أولوية ونستنا دي، يعني يا صاح أصحى من نومتك و راجع نصوصك وقعّد الكلام كويس عشان ونستنا ما تبقى طق حنك ساكت ، ولا شنو؟
كل شاة معلقة من عصبتها
أما ما كان من امر اعتراضك على قولي بأن عرب القارة الافريقية هم افارقة مثلهم مثل غيرهم، و احتجاجك باسباب "المجال الأملس"( الجغرافي) و " الافق الخشن " ( التاريخي) لغاية ايرادك لخريطة العالم العربي ، فأنا لا اوافقك على شيء منه.
تقول:
" أولا كون العرب في أفريقيا هم افارقة مثلهم مثل غيرهم من أهل القارة " ، هذه بالطبع مسلّمة، و لكنها لا تتأهل لهذا الموضع الخطير في الجدل الا في الافق المسطح، أو قول المجال الاملس، أفق أو مجال الجغرافيا الطبيعية، الذي يؤهل "مثلهم مثل غيرهم" هذه لرتبة "مسلمة"، اذ يسمح بأن نموضع الاقوام بمعزل عن مجالات الصراع في الحيز المسمى أفريقيا، مثلما نموضع جبال الاطلس، أو جبل مرة و كلمنجارو على الخارطة بهذا المستوى، و لكن هل تملك هذه المقولة نفس المؤهلات حين نقوم بترحيلها الى الافق الخشن أو مجال الصراع ـ الثقافي " الحضاري " بأبعاده التاريخية، و ما يحتويه من ابعاد عرقية، ما تفتأ تعرقن الواقع؟"
أفهم من ترجمتك لكلامي أنك تقبل العرب كأفارقة من حيث كونهم يتقاسمون المكان الجغرافي الافريقي مع غيرهم من الافارقة.لكن قبولك لشرعية وجود العرب ضمن المكان الجغرافي للقارة يفسد عليك مشروع" ترحيل" هذه الشرعية لما تسميه بـ " الافق الخشن"، افق التاريخ.و ذلك ببساطة لأن العرب من لحظة اندماجهم في جغرافيا القارة فهم مندمجون بالضرورة في تاريخها.و الجغرافيا يا صاح ليست مجالا" أملسا" الا في حالة عزلها من التاريخ. والجغرافيا لا تكون " طبيعية" و حسب و لكنها أجتماعية و اقتصادية و سياسية الخ.و هذا ،يا صاح، أمر في مباديء علم الجيوبوليتيك الذي يدرس الظواهر الاجتماعية ضمن تداخلات الجغرافيا و التاريخ و الاقتصاد و السياسة و الاعتقاد وغير ذلك من الأبنية الرمزية و المادية التي تصوغ حياة المجتمعات ضمن تداخل الزمان و المكان.وهكذا يا صاح فالجغرافيا " خشنة" مثلها مثل بقية ابعاد الوجود الاجتماعي التناحري ، و" تمليس" الجغرافيا يفتح الباب لتهريب مقولات تبسيطية بائدة من نوع حرب الاعراق او حرب الثقافات.و كون بعض الناس وجدوا انفسهم في جبال الاطلس أو في حوض النيل فهذه مجرد صدفة وجودية لا تستدعي الافتخار مثلما لا تستدعي الخجل، لكن موقف هولاء الناس و موقف غيرهم من عواقب هذه الصدفة الوجودية، و نوع المصالح التي يمكن لهؤلاء او لأولئك تحقيقها من تبعات الوجود المميز ضمن المكان و الزمان، يفرض على منهجنا اعتبار تساند التاريخ و الجغرافيا في اي تحليل لواقع العلاقات بين اطراف القوى الاجتماعية.
وقد أدهشني انك تحتج عليّ بتصاوير الآخرين و بعباراتهم بينما تصاويري و عباراتي امامك فماذا دهاك يا أخا العرب؟( شفت "اخا العرب" دي؟)
حين اقول بأنك " تحتج علي بتصاوير الآخرين" فأنا اعني احالتك اياي لهذه الصورة العجيبة المسماة " خارطة الوطن العربي" و التي تصفها بعبارة " الخارطة الجاقمة" و تقول :" " هذه الخارطة " تجقم" قارات أسيا".."و تجقم افريقيا ـ التي تهمنا هنا ـ جقما ليس فيه أي لبس."لكن اللبس يا صاح في العبارة نفسها:" تجقم".و ما الـ "جقم"؟( و أنا اسألك من باب تقعيد الونسة على كلام لا لبس فيه، كونك تكتب نصا يراوح بين ثلاث فضاءات لغوية متمايزة هي : العربية الفصحى و العربية السودانية والعربية الانجليزية بتاعة المثقفين السودانيين الذين لا يقاومون سحر الانجليزية الاكزوتي حتّى في عبارات ترجمتها ميسورة مثل:
Domestics,conclusion,generator, receptor,
something should be appreciated,domination/subordination etc
و لا جناح، يا صاح، طالما مكّنتك وسيلة اللغة من توصيل المعاني للقراءو للمحاورين ).
أقول: و "الجقم" عند بعض عربان السودان ـ و العهدة على عون الشريف ـ هو صوت الطبل،" قال العبدلابي: ناصر يا عريس التورا (نحاسها) يجـَّقّـمْ، و قالت العبدلابية: فوق شتم النحاس و الدّنقر اجَّقّم ".و لا اظنك تقصد هذا المعنى.فهل هو الـ " جغم"؟و الجغم سودانية،" و هي مقلوب غَمَج"، كأن تقول : غمج فلان الماء في معنى" جرعه جرعا متتابعا"،لكن خارطة الوطن العربي لا تجغم بل تجقم في تعبيرك، و اغلب الظن انك تقصد مقلوب الجقم بابدال القاف كافا كما في عبارة " الكجم".و هي سودانية في معنى " كزم و عضّ، و في العراق : قجم كسر او قطع جزءا من طرف الشيء"، و لعهد قريب كان الكردفانيون ينصبون كجّاماتهم ـ و الواحدة كجّامة و هي شرك حديدي ـ لاصطياد البعشوم و المرفعين و انواع الحيوان البري.( قاموس اللهجة العامية، عون الشريف) .نهايتو، من المرجّح انك تقصد من " جقم"أن خارطة العالم العربي تتغول على قارات آسيا و افريقيا و تقتطع منها اجزاء تستحوذ عليها. و اظنك تستنتج من صورة الخارطة اياها ان العرب يستحوذون ـ بوضع اليد ـ على أرض ليست لهم ،او هم لا يستحقونها على الاقل.و أظن ـ آثما ـ ان وراء هذا الزعم قناعة فولكلورية استبعادية فحواها ان مكان العرب هو شبه الجزيرة العربية و أن عليهم ان يعودوا الى أرضهم و أن يخرجوا من الاراضي التي احتلوها في افريقيا.و انا ابني قراءتي المغرضة لكلامك على احتجاجك بكون خارطة العالم العربي انما تتمدد على قارات آسيا و أفريقيا و تتغول على أراضيها في "جقمة " كما تقول ، " ليس لها اي اسانيد في الجغرافيا الطبيعية او " السياسية" حتى.."و حجتك مردودة أولا لأن لا شيء في الكون يجبرعرب شبه الجزيرة العربية على البقاء في جغرافيتهم الطبيعية لمجرد انهم وجدوا انفسهم فيها في لحظة ما من تاريخهم، و ثانيا ، أعتقد ان" تغوّل" العرب على فضاءات القارات الآسيوية و الافريقية و الاوروبية و احتلالهم لها انما يصنع السند السياسي باسم " الامر الواقع" التاريخي الذي يسوّغ للعرب أن يرسموا خارطة العالم العربي على اساس معطيات واقع وجودهم في الزمان و المكان.
و الخريطة ـ اي خريطة ـ هي ، في نهاية التحليل، صورة المكان في من وجهة نظر سلطات الزمان.و لو نظرت في جهة علم الخرائط
Cartography
و قارنت بين الصورة الفتوغرافية الجوية للخارطة الطبيعية لسطح الأرض و الصورة القرافيكية للخارطة السياسية لنفس الارض، كما رسمها تاريخ التناحر الاجتماعي فستجد صورتين لعالمين مختلفين لا يربط بينهما اي رابط سوى طموح هؤلاء او اولئك لتملك الأرض ضمن تناقضات الوجود الطبقي.
و الخارطة ـ مطلق خارطة ـ هي في الحقيقة صورة كاذبة للواقع بحكم اندراجها في منطق التصاوير. و في منطق التصاوير ، فان كل صورة ـ مطلق صورة ـ ما هي الا نسيج من الزيف الذي يسوّغ لأهله رؤية موضوع التصوير كما يتمنون رؤيته لا كما هو عليه.و قد انتبه اهل ديانات التوحيد منذ البداية لمخاطر الصورة وصانوا التوجّس و التحسّس تجاهها في خطاب التحذير المتواترعبر النصوص المقدسة في اليهودية والنصرانية و الاسلام.و" شقاق التصاوير" باب جبّار في أدب حضارة التوحيد و سأعود اليه في براح منفصل، و يهمني منه هنا طرفه الذي يلقي بظله على مفهوم الصورة الخرائطية.
قلت ان الخارطة تمثيل زائف للواقع لأنها تختزل التراكب و التداخل اللاحق بعناصر الواقع لحدود كتابة بصرية آحادية الطابع، و هي كتابة تتسع او تضيق بحكم نوع القراءة الذي تنتظره من القراء السلطة التي رسمت الخارطة. و الخارطة السياسية التي ترسم الحدود بين البلدان هي في الحقيقة صورة لعلاقة القوى بين الاطراف التي تتقاسم الارض موضوع الصورة الخرائطية.و الصورة الخرائطية بهذا تبذل نفسها كصورة متحركة متحولة حسب التحولات في علاقة القوى التي تتصارع على ارض الواقع. و لو نظرت في الانمساخات التي طرأت على خريطة الولايات المتحدة الامريكية في القرن التاسع عشر او على خريطة روسيا في القرن العشرين او على خريطة اسرائيل في الخمسة عقود الماضية لفهمت ما اعني بقَـدَر الانمساخ الذي يتربص بالصورة الخرائطية و يعكر على البصر قابليتها كموضوع للمشاهدة.
و أنا لا اشتط حين أجد للخرائط السياسية علاقة قرابة وثيقة بالصور الفتوغرافية" البورنوغرافية" التي تنفي عن فعل الجنس كرامته الانسانية و تختزله لبعد الفحش التجاري المبتذل .ذلك ان الخارطة السياسية تنكر تركيب الواقع و تختزله لصورة السلطة التي تحتل المكان و تهيمن عليه بالقوة الغاشمة. و في هذا المشهد أرى في الخارطة السياسية صورة أمينة لفحش الهيمنة .وفحش الخريطة السياسية هو في النهاية من فحش الواقع السياسي الذي طالما مسخ الناس، و مازال يمسخهم ، لمجرد حشود هستيرية قادرة على قتل الآخرين بذريعة انهم اجتازوا خطا ما على خارطة ما رسمتها سلطة ما في زمان ما.و هل هناك فحش اكبر من فحش حرس الحدود المغربية الاسبانية الذين اطلقوا النار، قبل شهور ،على المئات من المهاجرين الافارقةغير الشرعيين و قتلوا منهم العشرات؟و هل هناك بذاءة حضارية اكبر من بذاءة المسئولين المصريين( الاشقاء ؟) الذين استباحوا قتل اللاجئين السودانيين و سجن الباقين لمجرد كونهم ينتمون لخريطة سياسية اخرى؟
أما هذه الخارطة، خارطة العالم العربي ، التي تبذلها أمامي لتقنعني بأن العربان انما تجاوزوا حدودهم " الطبيعية" المفترض انهم يلزمونها، فهي في الحقيقة صورة لفحش تاريخ الهيمنة الذي ورثه أهل ما يسمى بالعالم العربي من ملابسات الهيمنة الكولونيالية العثمانية و الهيمنة الكولونيالية الاوروبية. و خارطة العالم العربي لم يرسمها العرب ، افارقة كانوا او آسيويين مثلما خريطة بلدان افريقيا لم يرسمها سكان افريقيا عربا كانوا او زنجا.و أنا لم افهم يا صاح لماذا تعتبر أنت ان خارطة العالم العربي تسوّغ لك " الشك في مسلمة الصاح حسنة موسى "؟ و مالي انا و تصاوير الآخرين من عرب و عجم حتى تحاكمني على هديها؟و أنا لا انطلق في مقولاتي من تصاوير الآخرين و انما انطلق من واقع الصدفة الوجودية التي جعلت العرب يقيمون في ارض القارة، و من واقع العواقب التاريخية التي ترتبت على تجذّر حضور العرب في افريقيا و اسهامهم في اكساب الأفرقة بعدا عربيا يزيدها ثراءا بقدر ما يسهمون في اكساب العروبة نفسها بعدا افريقيا يثريها و يزيدها تركيبا.
أبكر
قلت لك انني استغربت ان تحتج علي بعبارات الآخرين و نصي مبذول بين يديك. ذلك انك تتساءل:
" و لو كان " العرب " بالمعنى الاخير يمكن التعامل معهم كأفارقة ـ مثلهم مثل غيرهم ـ فكيف نفسر مصطلحات مثل " آفروعروبية" او" سودانو عروبية" بتاعة الصاح محمد جلال؟ أو نتفهم و نؤمّن على سداد مقولة الصاح عبد الله علي ابراهيم " أن يكف ابناء الشمال العربي المسلم عن خلع حضارتهم بدعوى الهجنة ".و أن " اهدى السبل الى السلام و النهضة الثقافية في السودان هو الاقرار بقوامين او أكثر للثقافة السودانية"؟ او مقولة " السودان جسر العروبة و الاسلام الى افريقيا"؟" و تمضي في تساؤلاتك في خصوص" المسوّغ لتقسيم عربـ افارقة في افريقيا عموما و في السودان بالخصوص؟ "
كل هذه المقولات التي اوردتها يا ابكر لا تعنيني كثيرا في مناقشتي معك هنا، و انا لا اتحمل وزر الآخرين لمجرد انك تضيف اسمي لقائمتك السوداء، وبما أن كل شاة معلقة من عصبتها ، فأنا مسئول عن زعمي بكون العرب المقيمين في القارة هم افارقة مثلهم مثل غيرهم من سكان القارة ، و أنا انتظرك في هذا المقام. و مصطلحات محمد جلال او عبدالله علي ابراهيم تسأل منها محمد جلال و عبد الله. أقول قولي هذا و انا واع بخلافاتي و باتفاقاتي مع محمد جلال و مع عبد الله.و كلام عبد الله عن اشكالية الهجنة في السودان كلام على قدر عال من التركيب المرهف حتى ان بعض خصومة و محاوريه، حين تنبهم امامهم دروب تفاكيره يتهمونه بالسحر، و ماهو بساحر و بالشعر و ما هو بشاعر( عدا حالات الضرورة القصوى)، و أظنك قرأت تذمر بعض قراء عبد الله و معارضيه الاسافيريين الذين اعترفوا، في براءة تامة، بان عبد الله يسحرهم (اقرأ : يغشّهم) ببراعته اللغوية فقط فتأمّل. وفي نهاية تحليل ما، اظن ان دعوة عبد الله ، لضرورة "ان يكف ابناء الشمال العربي المسلم عن خلع حضارتهم بدعوى الهجنة "، جاءت متأخرة، و قيمتها الوحيدة اليوم هي في كونها تقوم بالواجب في استكمال اوجه البنية المفهومية لاشكالية الهجنة في مشهد عبد الله.فأبناء الشمال العربي المسلم خلعوا حضارتهم بدعوى الهجنة و بدعاوى المصلحة المادية الاخرى الأقل نبلا من دعوى الهجنة(وبيزينيس ازبيزينيس).و" الخلع "الحاصل المزعوم لو تأنّينا عنده نجده لا يعدو مجرد فعل مسرحي متحقق كنوع من استجابة رمزية على خلفية الازمة السياسية السودانية التي جسدتها تراجيديا الحرب الطويلة في الجنوب .أقول ان فعل " الخلع" الحضاري الذي يحذّر منه عبد الله يبدو لي ادخل في نوع السلوك المسرحي منه في منطق القطيعة النهائية مع العروبة و الاسلام. " و الناس على دين آباءهم" كما تقول حكمة البسطاء.و أنا ارى ان عبد الله في مقالته المشهودة: " تحالف الهاربين "، قد أمسك بالالتواء الحاصل في فعل" الخلع" الحضاري المنسوب لابناء الشمال العربي المسلم و وصفه بصفة" الغش" الثقافي، و اولاد المسلمين المستعربين يقيمون اليوم على حضارة مخلوعة كحضارة عربية اسلامية ، يعني " من دقنو و افتل لو" ، طالما كان ابناء الشمال العربي المسلم يباشرون فعل الخلع المسرحي بالعون الذاتي على اسلوب زيتنا في بيتنا، و لا حرج فـ "العاقل ما ببيع سرواله" كما تعبر حكمة الشعب، و لا شنو؟. سأعود لهذا الامر في براح لاحق كون التمعن في كلام عبد الله عن مفهوم " الخلع" الحضاري يقتضي حيلة و وقتا اوسع مما هو في يدي الآن.أما كلامه عن" قوامين او اكثر للثقافة السودانية" فأنا أقرأه في مقام المفاوضة الجارية بين القوى الاجتماعية المتصارعة في ساحة السياسة السودانية. و هو صراع يستثمر الابعاد الثقافية السودانية سياسيا لكنه غير معني حاليا ببناء اشكالية ثقافية سودانية حقيقية.و في النهاية فانا لا املك الا ان احيلك لعبد الله و هو انفع لك مني في توصيل تفاكيره.اما قولك بأن ال" مينتال كونستركتس"
، يعني بالعربي:
Mental constructs
قادرة على صنع الواقع ـ كما يقول" العلامة" فرويد.." فلا اعتراض لي عليه.رغم ان هذه المقولة لا تقدم و لا تِؤخر من أمر المناقشة الدائرة بيننا في صدد أفرقة العرب المقيمين في أفريقيا.
أبكر يا أخا العرب
كنت اتوقع ان تعفيني من آيات أدب الضحية السوداني من نوع " الطوبة" التي "تحاول ان تكون شيئا" أو من نوع " الصاح ابكر ما يزال على جهله القديم"، او كما في عبارة " حنا الصغير الشقي بتاع الفرشاية ده" ،لغاية وصفك لشخصك بالعبارة العجيبة :" انتطاح العنز هذا يبدو مزعجا في ايحاءاته السالبة حتى بالنسبة لراعي غنم مثل الصاح ابكر اسماعيل ، لكن اتحملوها". نتحملها بي وين يا دكتور ؟ انت الغنم ديل آخر مرة شفتهم متين؟ و بعدين ياخي راعي الغنم دا مالو؟ و الفرشاية زاتها مالها؟أها يا أبكر، دا نوع الكلام البجيب النبي نوح.شفت كيف؟
أبكر
مازالت في الخاطر اشياء" من حتى" و سأعود لبعض الافكار التي تحتاج لمزيد من الفلفلة بسبيل دفع المناقشة .
سلام و كلام
أبكر يا أخانا في أفريقيا ، تاني
مسك العصاية من النَّص
تأملت في كلامك حول الاسباب التي طرحتها في تفسير التصحيف الذي ادرك " صوت الوترالسادس" في نسختها المنشورة على موقعك، و ما كان من أمر انشغالك عن تصويبها بأمور الدنيا، و بدا لي اعتذارك أشنع من ذنبك كونك يا صاح يا كاتب تلقي النص بين الاسافير و لا تدقّق أو تأبه بالمراجعة ، و تنتظر أن تبعث لك العناية بالخصوم المراجعين المتفحّصين ينبهونك الى مواضع الخلل في نصوصك حتى تصوّبها، و أنا ارى في مثل هذا المسلك استهانة بقدر قراءك، ناهيك عن استهانتك بقيمة نصك اذ تلقيه على العواهن. والعواهن يا صاح هي جرائد النخل اذا يبست ، و المرء يرمي الكلام على عواهنه حين يتكلم عفو الخاطر و لا يبال أصاب ام اخطأ( و لا أكتمك اني لم المس العلاقة بين جريد النخل اليابس و الكلام بغير تحسّب، و فوق كل ذي علم بركة).و اذا كان هذا شأنك مع نصوص في معزّة الشعر فلنا الحق ان نقرأ بمزيد من التحفظ نصوصك التي تعالج شأننا السياسي العام.و لناأن نتساءل : ما نصيبها من التصحيف؟و هل راجعتها ؟ام أنك في انتظار فاعل خير يراجعها لك؟
و في" التخليل" النهائي ( و هو أزرط من " التحليل" النهائي ) فان موقفك من نصّك يمكن تلخيصه كوجه من وجوه " مسك العصاية من النَّصْ( بفتح النون المشددة) ، و هو ،في نظري الضعيف، وجه من وجوه " مسك العصاية من النُّصْ( بضم النون المشددة) . و مسك العصاية، عصاية الكتابة، من النَّص ـ فيما وراء مناقشتنا الراهنة ـ هو يا صاح مكيدة أدبية قديمة طالما انتفع بها اهل الكتابة حين تضطرهم ملابسات الكتابة /القراءة للزوغان الواعي أو غير الواعي من عواقب الكتابة.و وجه المكيدة في فعل مسك العصاية من النَّص انما هو في كونه ينطوي على شبهة التملص من عواقب الكتابة بذريعة التصحيف و الأخطاء المطبعية التي قد تموّه وراءها زلات اللسان التي يجود بها لاوعي الكاتب،( و" زلات اللسان"
Lapsus Lapse
في مشهد مولانا سيجموند فرويد ، انما تعبر عن قسمة الخاطر بين عبارتين تحملان ارادتين متناقضتين بحيث تلعب الحالة النفسية للكاتب لحظة التعبير دورا مهما في تحبيذ واحدة على الاخرى. ترى اي خاطر الهمكما انت و عادل انواع التصاحيف الواردة في نصوصك). و قد انتبه نفر من شعراء العرب في العصر العباسي الى التصحيف الارادي كنوع ادبي مستقل، وذلك موضوع شيق لا سبيل للتفصيل فيه ضمن مقامنا هذا. كل هذا يردنا الى موضوعة "مسئولية الكاتب "المشهودة في الادب و التي يمكن اختصارها بعبارة أن الكاتب مسئول أولا و أخيرا عن نصه فلا يفرّط فيه بأي حال و قد يموت دونه. و تلك يا صاح مسئولية لا يطيقها كاتب مستعجل.و العجلة تتربص بنا جميعا و لات مناص، و يبقى العزاء في النوايا الطيبات و الحمد لله على كل شيء.
أما ما كان من أمر ما أسميته بـ " أهم المسلمات" في خطابي ، و التي لخصتها أنت " بقليل من التأنّي " في قولك :
" مسلمة الصاح حسن موسى التي تنبني عليها مقولاته في الفنأفريقية التي أسهب فيها هناك و عنون بها مفاكرته هنا هي " كون العرب في افريقيا مثلهم مثل غيرهم من أهل القارة الآخرين" و قد أسقطت أنت من الاقتطاف الذي اوردته عني مفتاح فهمه في عبارتي " هم أفارقة"، و العبارة كما وردت في نصي هي كالآتي :
".. كون العرب في أفريقيا هم أفارقة مثلهم مثل غيرهم من أهل القارة الآخرين..". و أنا على يقين من كونك لم تتعمد اسقاط مفتاح فهم كلامي ، حاشاك ، لكني تأنيت عند هذا الامر كونه يكشف لي عن مشكلة العجلة في مسلكك الكتابي يا صاح، و العجلة ليست" من الشيطان"، كما يشاع وسط الأهالي و لكنها الشيطان نفسه. و أنا ألومك على شيطان العجلة الذي يفسد عيك صناعة التعبير، و الكتابة صناعة، و أنت أدرى و ان تذرّعت و تعذّرت بأدب اللاأدرية المعاصرة التي لا تنج من شبهة التواضع الكاذب.و هاك اقرأ هذا الكلام المحير الذي اوردته في خصوص " الاجيال و الكتابة":
" أنا لحدي هسي ما متيقن من أن كلمة جيل تطابق كلمة كتابة أم لا.."
.و تعتذر عن مثل هذا الطرح بعذر القصور و النقصان في العلم، كما في قولك:
" و كل ما اتاحته فرصة التدبر أن نتكلم بصوت مسموع" ،( و اظنك تقصد : أن نفكر بصوت مسموع)، " لكيما يأتي آخرون و يضيفوا علما، و هذا ديدن الصاح ابكر، لادراكه، في وقت ما،ان من قدر الفرد ان يكون قاصرا .." ,تقول مثل هذا الكلام و تتمسكن بلا سبب، و أنت أدرى الناس بكون واقع قصور الوعي ،( أو واقع تفتُّحه) هو صيرورة كفاح محكومة بالجدل المتشعب لفعل الكاتب في محيطة و انفعاله به.
و تقول مبررا اهمالك لتمحيص الكلام في مسألة الاجيال بأن " .. الصاح ابكر كان مزرور في المعايش، التي انتهت به الى زنقة الاكاديميات ، فعمل نايم ـ على أمل ان يتيح جدول الاولويات الفكرية مقاربة أخرى ".أها يا ابكر في الحتة دي انا عندي قراية مغرضة مشروعة تانية فحواها انك تتذرّع بـ " زنقة الاكاديميات" لتسويغ الكلام في اشكالية الاجيال بالطريقة " الضبابية" التي أشار اليها صديقك الصدوق محمد كبّر( و الصديق ساعة الضيق). و قرايتي المغرضة تحفزني على الاستنتاج بكونك تستسهل المفاكرة في اشكالية الاجيال و تعتبرها ، من مشهد الاكاديمي المُزَاَنقْ ، امر ثانوي في سلم اولوياتك المدرسية.أكاديميات شنو يا صاح ؟لو اصلها المسألة بقت مسألة اولويات اكاديمية فأنا افتكر انو مافي أولوية اكاديمية اكتر من أولوية ونستنا دي، يعني يا صاح أصحى من نومتك و راجع نصوصك وقعّد الكلام كويس عشان ونستنا ما تبقى طق حنك ساكت ، ولا شنو؟
كل شاة معلقة من عصبتها
أما ما كان من امر اعتراضك على قولي بأن عرب القارة الافريقية هم افارقة مثلهم مثل غيرهم، و احتجاجك باسباب "المجال الأملس"( الجغرافي) و " الافق الخشن " ( التاريخي) لغاية ايرادك لخريطة العالم العربي ، فأنا لا اوافقك على شيء منه.
تقول:
" أولا كون العرب في أفريقيا هم افارقة مثلهم مثل غيرهم من أهل القارة " ، هذه بالطبع مسلّمة، و لكنها لا تتأهل لهذا الموضع الخطير في الجدل الا في الافق المسطح، أو قول المجال الاملس، أفق أو مجال الجغرافيا الطبيعية، الذي يؤهل "مثلهم مثل غيرهم" هذه لرتبة "مسلمة"، اذ يسمح بأن نموضع الاقوام بمعزل عن مجالات الصراع في الحيز المسمى أفريقيا، مثلما نموضع جبال الاطلس، أو جبل مرة و كلمنجارو على الخارطة بهذا المستوى، و لكن هل تملك هذه المقولة نفس المؤهلات حين نقوم بترحيلها الى الافق الخشن أو مجال الصراع ـ الثقافي " الحضاري " بأبعاده التاريخية، و ما يحتويه من ابعاد عرقية، ما تفتأ تعرقن الواقع؟"
أفهم من ترجمتك لكلامي أنك تقبل العرب كأفارقة من حيث كونهم يتقاسمون المكان الجغرافي الافريقي مع غيرهم من الافارقة.لكن قبولك لشرعية وجود العرب ضمن المكان الجغرافي للقارة يفسد عليك مشروع" ترحيل" هذه الشرعية لما تسميه بـ " الافق الخشن"، افق التاريخ.و ذلك ببساطة لأن العرب من لحظة اندماجهم في جغرافيا القارة فهم مندمجون بالضرورة في تاريخها.و الجغرافيا يا صاح ليست مجالا" أملسا" الا في حالة عزلها من التاريخ. والجغرافيا لا تكون " طبيعية" و حسب و لكنها أجتماعية و اقتصادية و سياسية الخ.و هذا ،يا صاح، أمر في مباديء علم الجيوبوليتيك الذي يدرس الظواهر الاجتماعية ضمن تداخلات الجغرافيا و التاريخ و الاقتصاد و السياسة و الاعتقاد وغير ذلك من الأبنية الرمزية و المادية التي تصوغ حياة المجتمعات ضمن تداخل الزمان و المكان.وهكذا يا صاح فالجغرافيا " خشنة" مثلها مثل بقية ابعاد الوجود الاجتماعي التناحري ، و" تمليس" الجغرافيا يفتح الباب لتهريب مقولات تبسيطية بائدة من نوع حرب الاعراق او حرب الثقافات.و كون بعض الناس وجدوا انفسهم في جبال الاطلس أو في حوض النيل فهذه مجرد صدفة وجودية لا تستدعي الافتخار مثلما لا تستدعي الخجل، لكن موقف هولاء الناس و موقف غيرهم من عواقب هذه الصدفة الوجودية، و نوع المصالح التي يمكن لهؤلاء او لأولئك تحقيقها من تبعات الوجود المميز ضمن المكان و الزمان، يفرض على منهجنا اعتبار تساند التاريخ و الجغرافيا في اي تحليل لواقع العلاقات بين اطراف القوى الاجتماعية.
وقد أدهشني انك تحتج عليّ بتصاوير الآخرين و بعباراتهم بينما تصاويري و عباراتي امامك فماذا دهاك يا أخا العرب؟( شفت "اخا العرب" دي؟)
حين اقول بأنك " تحتج علي بتصاوير الآخرين" فأنا اعني احالتك اياي لهذه الصورة العجيبة المسماة " خارطة الوطن العربي" و التي تصفها بعبارة " الخارطة الجاقمة" و تقول :" " هذه الخارطة " تجقم" قارات أسيا".."و تجقم افريقيا ـ التي تهمنا هنا ـ جقما ليس فيه أي لبس."لكن اللبس يا صاح في العبارة نفسها:" تجقم".و ما الـ "جقم"؟( و أنا اسألك من باب تقعيد الونسة على كلام لا لبس فيه، كونك تكتب نصا يراوح بين ثلاث فضاءات لغوية متمايزة هي : العربية الفصحى و العربية السودانية والعربية الانجليزية بتاعة المثقفين السودانيين الذين لا يقاومون سحر الانجليزية الاكزوتي حتّى في عبارات ترجمتها ميسورة مثل:
Domestics,conclusion,generator, receptor,
something should be appreciated,domination/subordination etc
و لا جناح، يا صاح، طالما مكّنتك وسيلة اللغة من توصيل المعاني للقراءو للمحاورين ).
أقول: و "الجقم" عند بعض عربان السودان ـ و العهدة على عون الشريف ـ هو صوت الطبل،" قال العبدلابي: ناصر يا عريس التورا (نحاسها) يجـَّقّـمْ، و قالت العبدلابية: فوق شتم النحاس و الدّنقر اجَّقّم ".و لا اظنك تقصد هذا المعنى.فهل هو الـ " جغم"؟و الجغم سودانية،" و هي مقلوب غَمَج"، كأن تقول : غمج فلان الماء في معنى" جرعه جرعا متتابعا"،لكن خارطة الوطن العربي لا تجغم بل تجقم في تعبيرك، و اغلب الظن انك تقصد مقلوب الجقم بابدال القاف كافا كما في عبارة " الكجم".و هي سودانية في معنى " كزم و عضّ، و في العراق : قجم كسر او قطع جزءا من طرف الشيء"، و لعهد قريب كان الكردفانيون ينصبون كجّاماتهم ـ و الواحدة كجّامة و هي شرك حديدي ـ لاصطياد البعشوم و المرفعين و انواع الحيوان البري.( قاموس اللهجة العامية، عون الشريف) .نهايتو، من المرجّح انك تقصد من " جقم"أن خارطة العالم العربي تتغول على قارات آسيا و افريقيا و تقتطع منها اجزاء تستحوذ عليها. و اظنك تستنتج من صورة الخارطة اياها ان العرب يستحوذون ـ بوضع اليد ـ على أرض ليست لهم ،او هم لا يستحقونها على الاقل.و أظن ـ آثما ـ ان وراء هذا الزعم قناعة فولكلورية استبعادية فحواها ان مكان العرب هو شبه الجزيرة العربية و أن عليهم ان يعودوا الى أرضهم و أن يخرجوا من الاراضي التي احتلوها في افريقيا.و انا ابني قراءتي المغرضة لكلامك على احتجاجك بكون خارطة العالم العربي انما تتمدد على قارات آسيا و أفريقيا و تتغول على أراضيها في "جقمة " كما تقول ، " ليس لها اي اسانيد في الجغرافيا الطبيعية او " السياسية" حتى.."و حجتك مردودة أولا لأن لا شيء في الكون يجبرعرب شبه الجزيرة العربية على البقاء في جغرافيتهم الطبيعية لمجرد انهم وجدوا انفسهم فيها في لحظة ما من تاريخهم، و ثانيا ، أعتقد ان" تغوّل" العرب على فضاءات القارات الآسيوية و الافريقية و الاوروبية و احتلالهم لها انما يصنع السند السياسي باسم " الامر الواقع" التاريخي الذي يسوّغ للعرب أن يرسموا خارطة العالم العربي على اساس معطيات واقع وجودهم في الزمان و المكان.
و الخريطة ـ اي خريطة ـ هي ، في نهاية التحليل، صورة المكان في من وجهة نظر سلطات الزمان.و لو نظرت في جهة علم الخرائط
Cartography
و قارنت بين الصورة الفتوغرافية الجوية للخارطة الطبيعية لسطح الأرض و الصورة القرافيكية للخارطة السياسية لنفس الارض، كما رسمها تاريخ التناحر الاجتماعي فستجد صورتين لعالمين مختلفين لا يربط بينهما اي رابط سوى طموح هؤلاء او اولئك لتملك الأرض ضمن تناقضات الوجود الطبقي.
و الخارطة ـ مطلق خارطة ـ هي في الحقيقة صورة كاذبة للواقع بحكم اندراجها في منطق التصاوير. و في منطق التصاوير ، فان كل صورة ـ مطلق صورة ـ ما هي الا نسيج من الزيف الذي يسوّغ لأهله رؤية موضوع التصوير كما يتمنون رؤيته لا كما هو عليه.و قد انتبه اهل ديانات التوحيد منذ البداية لمخاطر الصورة وصانوا التوجّس و التحسّس تجاهها في خطاب التحذير المتواترعبر النصوص المقدسة في اليهودية والنصرانية و الاسلام.و" شقاق التصاوير" باب جبّار في أدب حضارة التوحيد و سأعود اليه في براح منفصل، و يهمني منه هنا طرفه الذي يلقي بظله على مفهوم الصورة الخرائطية.
قلت ان الخارطة تمثيل زائف للواقع لأنها تختزل التراكب و التداخل اللاحق بعناصر الواقع لحدود كتابة بصرية آحادية الطابع، و هي كتابة تتسع او تضيق بحكم نوع القراءة الذي تنتظره من القراء السلطة التي رسمت الخارطة. و الخارطة السياسية التي ترسم الحدود بين البلدان هي في الحقيقة صورة لعلاقة القوى بين الاطراف التي تتقاسم الارض موضوع الصورة الخرائطية.و الصورة الخرائطية بهذا تبذل نفسها كصورة متحركة متحولة حسب التحولات في علاقة القوى التي تتصارع على ارض الواقع. و لو نظرت في الانمساخات التي طرأت على خريطة الولايات المتحدة الامريكية في القرن التاسع عشر او على خريطة روسيا في القرن العشرين او على خريطة اسرائيل في الخمسة عقود الماضية لفهمت ما اعني بقَـدَر الانمساخ الذي يتربص بالصورة الخرائطية و يعكر على البصر قابليتها كموضوع للمشاهدة.
و أنا لا اشتط حين أجد للخرائط السياسية علاقة قرابة وثيقة بالصور الفتوغرافية" البورنوغرافية" التي تنفي عن فعل الجنس كرامته الانسانية و تختزله لبعد الفحش التجاري المبتذل .ذلك ان الخارطة السياسية تنكر تركيب الواقع و تختزله لصورة السلطة التي تحتل المكان و تهيمن عليه بالقوة الغاشمة. و في هذا المشهد أرى في الخارطة السياسية صورة أمينة لفحش الهيمنة .وفحش الخريطة السياسية هو في النهاية من فحش الواقع السياسي الذي طالما مسخ الناس، و مازال يمسخهم ، لمجرد حشود هستيرية قادرة على قتل الآخرين بذريعة انهم اجتازوا خطا ما على خارطة ما رسمتها سلطة ما في زمان ما.و هل هناك فحش اكبر من فحش حرس الحدود المغربية الاسبانية الذين اطلقوا النار، قبل شهور ،على المئات من المهاجرين الافارقةغير الشرعيين و قتلوا منهم العشرات؟و هل هناك بذاءة حضارية اكبر من بذاءة المسئولين المصريين( الاشقاء ؟) الذين استباحوا قتل اللاجئين السودانيين و سجن الباقين لمجرد كونهم ينتمون لخريطة سياسية اخرى؟
أما هذه الخارطة، خارطة العالم العربي ، التي تبذلها أمامي لتقنعني بأن العربان انما تجاوزوا حدودهم " الطبيعية" المفترض انهم يلزمونها، فهي في الحقيقة صورة لفحش تاريخ الهيمنة الذي ورثه أهل ما يسمى بالعالم العربي من ملابسات الهيمنة الكولونيالية العثمانية و الهيمنة الكولونيالية الاوروبية. و خارطة العالم العربي لم يرسمها العرب ، افارقة كانوا او آسيويين مثلما خريطة بلدان افريقيا لم يرسمها سكان افريقيا عربا كانوا او زنجا.و أنا لم افهم يا صاح لماذا تعتبر أنت ان خارطة العالم العربي تسوّغ لك " الشك في مسلمة الصاح حسنة موسى "؟ و مالي انا و تصاوير الآخرين من عرب و عجم حتى تحاكمني على هديها؟و أنا لا انطلق في مقولاتي من تصاوير الآخرين و انما انطلق من واقع الصدفة الوجودية التي جعلت العرب يقيمون في ارض القارة، و من واقع العواقب التاريخية التي ترتبت على تجذّر حضور العرب في افريقيا و اسهامهم في اكساب الأفرقة بعدا عربيا يزيدها ثراءا بقدر ما يسهمون في اكساب العروبة نفسها بعدا افريقيا يثريها و يزيدها تركيبا.
أبكر
قلت لك انني استغربت ان تحتج علي بعبارات الآخرين و نصي مبذول بين يديك. ذلك انك تتساءل:
" و لو كان " العرب " بالمعنى الاخير يمكن التعامل معهم كأفارقة ـ مثلهم مثل غيرهم ـ فكيف نفسر مصطلحات مثل " آفروعروبية" او" سودانو عروبية" بتاعة الصاح محمد جلال؟ أو نتفهم و نؤمّن على سداد مقولة الصاح عبد الله علي ابراهيم " أن يكف ابناء الشمال العربي المسلم عن خلع حضارتهم بدعوى الهجنة ".و أن " اهدى السبل الى السلام و النهضة الثقافية في السودان هو الاقرار بقوامين او أكثر للثقافة السودانية"؟ او مقولة " السودان جسر العروبة و الاسلام الى افريقيا"؟" و تمضي في تساؤلاتك في خصوص" المسوّغ لتقسيم عربـ افارقة في افريقيا عموما و في السودان بالخصوص؟ "
كل هذه المقولات التي اوردتها يا ابكر لا تعنيني كثيرا في مناقشتي معك هنا، و انا لا اتحمل وزر الآخرين لمجرد انك تضيف اسمي لقائمتك السوداء، وبما أن كل شاة معلقة من عصبتها ، فأنا مسئول عن زعمي بكون العرب المقيمين في القارة هم افارقة مثلهم مثل غيرهم من سكان القارة ، و أنا انتظرك في هذا المقام. و مصطلحات محمد جلال او عبدالله علي ابراهيم تسأل منها محمد جلال و عبد الله. أقول قولي هذا و انا واع بخلافاتي و باتفاقاتي مع محمد جلال و مع عبد الله.و كلام عبد الله عن اشكالية الهجنة في السودان كلام على قدر عال من التركيب المرهف حتى ان بعض خصومة و محاوريه، حين تنبهم امامهم دروب تفاكيره يتهمونه بالسحر، و ماهو بساحر و بالشعر و ما هو بشاعر( عدا حالات الضرورة القصوى)، و أظنك قرأت تذمر بعض قراء عبد الله و معارضيه الاسافيريين الذين اعترفوا، في براءة تامة، بان عبد الله يسحرهم (اقرأ : يغشّهم) ببراعته اللغوية فقط فتأمّل. وفي نهاية تحليل ما، اظن ان دعوة عبد الله ، لضرورة "ان يكف ابناء الشمال العربي المسلم عن خلع حضارتهم بدعوى الهجنة "، جاءت متأخرة، و قيمتها الوحيدة اليوم هي في كونها تقوم بالواجب في استكمال اوجه البنية المفهومية لاشكالية الهجنة في مشهد عبد الله.فأبناء الشمال العربي المسلم خلعوا حضارتهم بدعوى الهجنة و بدعاوى المصلحة المادية الاخرى الأقل نبلا من دعوى الهجنة(وبيزينيس ازبيزينيس).و" الخلع "الحاصل المزعوم لو تأنّينا عنده نجده لا يعدو مجرد فعل مسرحي متحقق كنوع من استجابة رمزية على خلفية الازمة السياسية السودانية التي جسدتها تراجيديا الحرب الطويلة في الجنوب .أقول ان فعل " الخلع" الحضاري الذي يحذّر منه عبد الله يبدو لي ادخل في نوع السلوك المسرحي منه في منطق القطيعة النهائية مع العروبة و الاسلام. " و الناس على دين آباءهم" كما تقول حكمة البسطاء.و أنا ارى ان عبد الله في مقالته المشهودة: " تحالف الهاربين "، قد أمسك بالالتواء الحاصل في فعل" الخلع" الحضاري المنسوب لابناء الشمال العربي المسلم و وصفه بصفة" الغش" الثقافي، و اولاد المسلمين المستعربين يقيمون اليوم على حضارة مخلوعة كحضارة عربية اسلامية ، يعني " من دقنو و افتل لو" ، طالما كان ابناء الشمال العربي المسلم يباشرون فعل الخلع المسرحي بالعون الذاتي على اسلوب زيتنا في بيتنا، و لا حرج فـ "العاقل ما ببيع سرواله" كما تعبر حكمة الشعب، و لا شنو؟. سأعود لهذا الامر في براح لاحق كون التمعن في كلام عبد الله عن مفهوم " الخلع" الحضاري يقتضي حيلة و وقتا اوسع مما هو في يدي الآن.أما كلامه عن" قوامين او اكثر للثقافة السودانية" فأنا أقرأه في مقام المفاوضة الجارية بين القوى الاجتماعية المتصارعة في ساحة السياسة السودانية. و هو صراع يستثمر الابعاد الثقافية السودانية سياسيا لكنه غير معني حاليا ببناء اشكالية ثقافية سودانية حقيقية.و في النهاية فانا لا املك الا ان احيلك لعبد الله و هو انفع لك مني في توصيل تفاكيره.اما قولك بأن ال" مينتال كونستركتس"
، يعني بالعربي:
Mental constructs
قادرة على صنع الواقع ـ كما يقول" العلامة" فرويد.." فلا اعتراض لي عليه.رغم ان هذه المقولة لا تقدم و لا تِؤخر من أمر المناقشة الدائرة بيننا في صدد أفرقة العرب المقيمين في أفريقيا.
أبكر يا أخا العرب
كنت اتوقع ان تعفيني من آيات أدب الضحية السوداني من نوع " الطوبة" التي "تحاول ان تكون شيئا" أو من نوع " الصاح ابكر ما يزال على جهله القديم"، او كما في عبارة " حنا الصغير الشقي بتاع الفرشاية ده" ،لغاية وصفك لشخصك بالعبارة العجيبة :" انتطاح العنز هذا يبدو مزعجا في ايحاءاته السالبة حتى بالنسبة لراعي غنم مثل الصاح ابكر اسماعيل ، لكن اتحملوها". نتحملها بي وين يا دكتور ؟ انت الغنم ديل آخر مرة شفتهم متين؟ و بعدين ياخي راعي الغنم دا مالو؟ و الفرشاية زاتها مالها؟أها يا أبكر، دا نوع الكلام البجيب النبي نوح.شفت كيف؟
أبكر
مازالت في الخاطر اشياء" من حتى" و سأعود لبعض الافكار التي تحتاج لمزيد من الفلفلة بسبيل دفع المناقشة .
سلام و كلام
الفنأفريقانية السوداء ـ نية
الفن أفريقانية السوداءنية
أبّكر يا أخانا في أفريقيا ..
سلام جاك
و هاك:
أولا بالتبادي حكاية الترحيب بالاعضاء" الجدد" دي ما واقعة لي، لأني اعتبر الموقع دا منتدى للحوار ودفع المفاكرة في القضايا العامة ذات الأولوية في مشهد اهل السودان. قضايا الديموقراطية و التنمية، يعني لا هو مقهى شعبي عام و لا هو بيت خاص لمن تملّكوه بالتقادم. وكون زيد اكتسب عضوية المنتدى قبل عبيد فذلك لا يسوّغ له بأية حال اتخاذ وضعية المرحّب المريبة التي يكسب لنفسه بذريعتها حظوة رمزية غير مبررة، حظوة "سيد البيت" الذي يستضيف القادمين الجدد و يحسن وفادتهم حسب أسطورة الكرم السوداني الاصيل ، و" الدين في الكتوف و الاصل معروف" كما تقول حكمة مولانا ود اب زهانة. و هذا يا صاحبي ضرب من" تكفين الميتات" الاسافيرية ينتفع به داجنة الكتاب من صنف هذا البرنس الأمُّور الذي يجري بثرثراته بين المواقع الاسفيرية و لا يضيره أن " يبخّر" سجيمان في سودانيز أونلاين تارة و يدافع عن كمال الجزولي طورا، قبل أن يهرول للترحيب بك في سودان للجميع ترتارة .و اذا في زول ممكن يرحّب او ما يرحّب، فمن باب اولى يكون هو الشخص المسئول عن الادارة في الموقع المعني. و الادارة في ما أرى منفعة تنظيم لا تعود على القائم عليها باي حظوة تشريفية بخلاف" أجر المناولة"( و قد تعود عليه أحيانا بمنفعة " الشرة في القندول" و نجاة أدرى).
القراءة الكاتبة
أقول: جعلني هذا الموقف اتجنب النظر في بوستات الترحيب كون أغلبها عامر بأدب المجاملات السودانية " الخُسوسية" التي تقع في حيّز الكلام الشخصي الذي لا يهم القراء، أو العمومية التي تتصنّف في باب الـ "بوليتكلي كوريكت" كون الناس في مقام الترحيب لا يطيقون حديثا غير حديث التطييب .
و قد دفعتني قراءة حديثك في شأن " اتحاد الكتاب الشاقية" الي النظر في بوست الاخ مصطفى آدم " رحبوا معي بالانسان أبكر.." بتارخ 26 نوفمبر 2005 ، بعد أن تجنبته زمنا، خوفا من تبعة العادات الادبية الاسفيرية لصفة " الانسان" التي منحك اياها مصطفى كخصوصية تميزك عن سائر بني الانسان الآخرين، كما يميز "الاخوان المسلمون" أنفسهم عن سائر المسلمين بصفة " المسلمين"، التي تضمر أن بقية الخلق "أخوان ساكت"، ما مسلمين.أو كما يميز اصحاب التشاشات الطفيلية البيزنس بتاعهم بالحاقه بصفة" الاسلامية" ، من نوع : " الجمهورية الاسلامية" و" الاشتراكية الاسلامية " و " الديموقراطية الاسلامية "و " البنوك الاسلامية" و " البقالة الاسلامية " لغاية " البيرة الاسلامية بدون كحول " و ما خفي أزرط.
أقول : تأملت في بوست الترحيب الذي افتتحه الاخ مصطفى آدم بعنوان : "رحبوا معي بالانسان أبكر..".وما تلاه من بوستات للأصدقاء من أيمان شقاق لحسن النور ، لخضر حسن خليل ،لأحمد المرضي ، لنجاة و للحسن بكري (وما كان من أمر" حياءك" و "غضبك" الخ)، لغاية بوست عائشة المبارك التي اختلست لنا قصيدتك " صوت الوتر السادس ". و قد شحذ فضولي الاطراء الذي بذله في حقك الصحاب المرحبون اعلاه كما تعجّبت من قراءتي الثانية لقصيدتك : "صوت الوتر السادس"، العامرة بأيقونات السودانوية التي تداهن ذاكرة القاريء العربسلامي( بلقيات بلاغية مستعارة من المجذوب و محمد المكي ابراهيم و عبد الحي و آخرين) ثم تُؤثّمه على ذنب تاريخي تورّثه اياه، بغير وجه حق ، بقرينتي العرق و الدين.أقول : " من قراءتي الثانية" لقصيدتك الغميسة " صوت الوتر السادس "( في موقعك الالكتروني) ـ لأني قرأتها اول مرة في 1999 ، حين نشرتها أنت في مجلة " كتابات سودانية"(العدد العاشر 1999)، التي كانت تصدر عن مركز الدراسات السودانية بالقاهرة ـ تبدّت لي فيها خوافي لم انتبه لها عند القراءة الاولى .و هذا باب في أدب القراءة عجيب، كون البصيرة القارءة تعيد كتابة النص على ضوء متغيرات الزمان و المكان .و قد لاحظت أنك اخضعتها لقراءة ثانية، قراءة كاتبة، رفعت عنها بعض مقاطعها التي لابد أنها لم تعد ترق لك ضمن ظروف تحوّلات المشهد الجيوبوليتيكي.
في النسخة المنشورة في موقعك الالكتروني اختفت عبارة " لعرسها" من مقطع" القلب زكّته الخيول لعرسها يوم الرحيل فكان ميلاد المطر".
و بعدها بسبعة أسطر اختفت عبارة" فنيلتي الشوهاء " التي كانت بين
" بكاء أخي الصغير
فنيلتي الشوهاء،
سروالي الممزّق من مطاردة السحالي و الورل ."
و في نهاية النص اختفت الاسطر الثلاثة التالية:
"و لوجه سلمى و النهارات الصبية ما سيأتي من غناء
شكرا لكم يا سيدي..
و غدا نعود ."
و لا تظنّن اني آخذ عليك تعديلك لنصك، حاشا ،فمن جهة أولى ،فالكاتب كائن حر، بل هو في أكثر حالات حريته اكتمالا حين يتحقق في حميمية فعل الكتابة، و من جهة ثانية فالنص كائن حي ، يحيا و يموت، و قد يبعث حيا من بعد موت ، بفضل تباين القراءات الكواتب وتعدد النظر الجديد و تبدل السياق الاجتماعي.و أنا في نهاية تحليلي أحمد لك عكوفك على نصّك ، على تواتر الازمنة و الامكنة.بيد أن تعدد النصوص المتمخّضة عن النص الابتدائي لا يلغي مسئوليتك عن كل نص جديد صدر عنك.و الكاتب مسئول عن كل عبارة و عن كل كلمة و عن كل حرف يكتبه، مثلما الرسام مسئول عن كل لون و عن كل شكل يخطه، مثلما الراقص مسئول عن كل حركة وكل ايماءة تصدر عن جسده في سياق الزمان و المكان و الخ و" شرحه " في فضاءات التعبير الاخرى بما فيها فضاء الفكر السياسي.و بما أنك بين نفر من الكتاب السودانيين الذين يسعون بالنصوص بين أرض الأدب و أرض الفكر السياسي فان قراءتك هنا و هناك لا تفلت من ملابسات تأثير هذا النص هنا على ذاك النص هناك ، و" الحساب ولد" كما تقول حكمة الذكور المريبة.و في هذا المنظور أقرأ ذلك المقطع من قصيدتك " صوت الوتر السادس ":
" الخرطوم (1)
الدرس الاول : التاريخ
المهدي نخاس شهير
شولة
عبد اللطيف : لم يكن في مسرح الوطن الجميل،
بل كان منهمكا يخطط لانقلاب عسكري
كي يعيد الى أمية أصلها القرشي و النسب النبيل
عبد الفضيل:
كان نشالا و لصا موغلا في الاحتراف
نقطة ، سطر جديد
الخليل:
كان يسكن فيلا
و يبيع اغنية تزيف طعم البلاد
و يقاسم السلطان قعدته الخليعة، و احتمال أن يكون مجندا في الامن..
احتمال
و مهيرة:
بائعة المريسة،
أول سلطة للغيب تمتهن الغناء المستغيث دعارة،
و تمارس التعريص في الليل البهيم
و نكون أولاد الحرام
طوبى لنا "
و القاريء في مواجهةهذا النص يحال لمتكلم غامض لا أحد يعرف ما اذا كان هو شخص الشاعر نفسه، أعني الشاعر الذي نصّب نفسه ناطقا رسميا باسم المهمشين الزنج من ضحايا الأيديولوجية العربسلامية التي يعلن عليها حربا كاملة شاملة مادية و رمزية، أم هو معلّم متسلّط في مدرسة السلطان المستبد الغاشم يملي على التلاميذ نسخة مزورة من تاريخ المقاومة الوطنية، أم هو مجرد ولد " مشوطن" لسانه فالت من كل قيد و لا يدري ما يقول،و جهل القاريء بنوعية الجهة التي يصدر عنها الخطاب يجعل النص معرضا لمخاطر القراءة المغرضة و التسوّي بايدك يغلب أجاويدك و يتجاوز حدود مسئوليتك الاخلاقية تجاه ما تكتب..و طوبى لـ "أولاد الحرام"، و أي" حرام"؟ حرام المجتمع العربسلامي الذي يشوف الفيل و يُذْعن في ظله؟ أم حرام الايديولوجي الذي ينتفع بوسيلة الشعر في تهريب ما لا تطيقه وسيلة الفكر الى فضاء الحوار الاجتماعي الدائر؟
ولا أطيل أكثر من هذا ، و كما ترى يا صاح فان فولة" القراءة الكاتبة" تفيض عن سعة مكيالي الحالي، لكني عائد لهذا الامر قطعا قريبا و في خاطري قراءات لنصوص سودانية مشهودة صارت جزءا أصيلا من أثاث الخطاب السياسي الحديث في السودان.
الجيل " الاعتباطي"
أقول: شحذ اطراء الصحاب في بوست الترحيب فضولي ، فتوكلت على الحي القيوم وحاولت النظر في بقية آدابك المعروضة في موقعك ، فوجدت ما لذ و طاب من أنواع الأدب و التفاكير النقدية السياسية التي تستحق التأنّي، مثلما وجدت تصانيف عجيبة من أدب الضحيّة السوداني الجديد. و ما أسميه بـ "أدب الضحية" السوداني هو نوع أدبي بكائي جديد، برع فيه نفر من كتاب السودان الجدد الذين تمخّضت عنهم تناقضات الآيديولوجية العربسلامية في السودان . و هم قوم متعددو المشارب و المآكل، ينطقون باسم الشعب و يتباكون و يتشاكون في الفجوات الايديولوجية لبُنى اليمين و اليسار في السودان. و قد يتحالفون ـ عند اللزوم ـ باسم مفهوم غامض اسمه" الجيل" أو" الشباب" على قتال الجيل القديم و خلافه. و سأعود لـلمضمر في " خلافه " هذي لاحقا لزوم تحليل بعض الحالات و النماذج البارزة التي يمكن أن تسهم في اضاءة المشهد الفكري و الرمزي الذي تتحرك عليه في معية هذه الكائنات السياسية المتذرعة بذريعة السن .
و قد بذل لك محرر جريدة "الحرية" ، أسامة عباس، مزلقان اسمه :" حوار/حرب" الأجيال الكاتبة في السودان فلم تقاوم اغراء الانزلاق في فخ مريح ،" بوليتيكلي كوريكت"، و تناسيت مقولات مولانا كارل ماركس التي بنيت عليها جزء كبير من بأسك الآيديولوجي.فحين يسألك أسامة عباس:" كيف تنظر الى هذا الجدل: جيل قديم /جيل جديد، كتابة قديمة /كتابة جديدة؟"،تجيب بنفي موضوعة الجيل مبدئيا على أساس أنها موضوعة " اعتباطية لدرجة لا تسمح للمرء بالخوض معها بجدية".
(abbakaradam.com)
بل أنت تؤكد على الطبيعة" الاعتباطية" لـ " صيغة الجيل" ثلاث مرات في معرض اجابتك على السؤال ، الا أن ذلك التأكيد لا يعصمك من الالتفاف على اعتباطية موضوعة الجيل فتعاود متسللا من" دريب قش" الكتابة القديمة/ الكتابة الجديدة، الذي بذله لك أسامة عباس.و أسامة مغرض، و غرضه واضح بلا مداورة كما أعلن عنه في مشروع بناء " ملف كبير حول الاجيال الكاتبة في السودان".لكن مشروع أسامة كان يتوقف على نوع الاستجابة التي قد تجيء من طرفك. و كان من الممكن ان ترفض الخوض في المسألة الاعتباطية ، فينتهي الامر عند هذا الحد، كما كان من الممكن ان تخوض فيها بما يمكنك من شرح و تحليل اسباب اعتباطيتها و الدوافع التاريخية التي تجعل أسامة يخصها بـ " ملف كبير"، لكنك اخترت أن تخوض مع التيار.لماذا؟ مندري.
و كوني لمست في أدبك السياسي جهدا مقدرا في نقد أيديولوجية الانظمة العربسلامية في السودان فهذا شيء محمود و ضروري و منطقي مع طبيعة الواقع السياسي الراهن في السودان و مع طبيعة المسار الذي اتبعته أنت "ابن القرية القصيّة" من الهامش للمركز الحضري.و هو أدب سياسي نقّاد لا يتاح الا لمن واجهته، بشكل واقعي، اسئلة الاستبعاد الطبقي و العرقي التي يكابدها جلّ المهمشين في السودان العربسلامي.و قد لمست ميلك للحديث باسم المهمشين من ضحايا الايديولوجيا العربسلامية في السودان، و لا جناح فالزلابيا للجميع، الا أن الافق العرقي الذي دبّرت عليه استراتيجية المفاكرة الاجتماعية في خصوص تحرير المستضعفين في بلادنا يضيق عن استيعاب المهمشين داخل الفضاء العربسلامي ، و قد يستغني عنهم بذرائع الهيمنة التاريخية لبني الثقافة العربسلامية التي ينتمون اليها، فكأنك تختار عامدا وضعية الناطق الرسمي باسم" الكتلة السوداء" أو" المجموعة الزنجية" أو" التجمع الافريقي" الى آخر الترهات العرقية التي تفتقت عنها قرائح مقاولي الهويولوجيا المعرقنة ، ممن تعودوا على اتخاذ المجموعات العرقية رهائن أو دروعا بشرية في مشهد النزاع السياسي السوداني.غير أن مواجهة أسئلة الاستبعاد، حين تقتصر على البعد السياسي وحده ،لا تؤدّي ، أو قل هي لا تؤدّي الا الى وضعية" الاستبعاد المعاكس" بحيث ينمسخ المستبعد، بنصب العين ، الى نسخة سلبية (" نيقاتيف")، أبيض و أسود من المستبعد، بكسر العين( و الاستبعاد انما يقوم على" كسر العين" أولا و أخيرا).و قد لمست شيئا من هذا حين تأنّيت عند بعض نصوصك الادبية المعجونة بالفنأفريقانية الباسلة أو بـ " الغضب المدمر"، حسب عبارة الصديق مصطفى آدم حين أخذ يتعذّر و يتذرّع بصورتك الفتوغرافية عقب " زرزرة "الحسن بكري في موضوع" الحياء" اياه.( راجع بوست رحبوا معي بالانسان أبكر 5 يناير) . و الكلام عن الصورة فولة تانية تنتظر كياليها.المهم يا زول ، بدت لي الاجابة الابداعية التي تقدمها كأديب لسؤال الاستبعاد المركب، المادي و الرمزي،بدت لي كمثل استجابة شرطية معاكسة يفقرها الانفعال عن مفصلة أسباب الاعتراض و حججه ضمن كيمياء الغضب الخلاق. فأنت في غضبك الادبي كاميكازي ، تفتح النار على جميع العربسلاميين بما فيهم أنت نفسك.( و عربسلاميتك يا أبابكر فولة ثالثة أنا جاييك ليها).
أقول أنت تفتح النار علي الجميع بدون فرز: يعني من كمال الجزولي ليوسف فضل و تاج السر الحسن، الذين مسختهم عملاء سرّيين للشايقية في اتحاد الكتاب السودانيين، و انت طالع لمحمد احمد المهدي النخاس لعلي عبد اللطيف الانقلابي عميل أميّة، لعبد الفضيل الماظ النشال اللص، لخليل فرح مهرج السلطان، لمهيرة العاهرة المعرّصة لغاية ناس يوسف فضل و تاج السر و آخرين.. شفت كيف ؟
غنائم الحرب الثقافية
أقول : قرأت نص" صوت الوتر السادس" قراءة أولى في نهاية التسعينات في " كتابات سودانية".كانت تلك قراءة بريئة، السماحة الجمالية فيها تغلب على النظر الآيديولوجي، و ذلك لأن الثقل الايديولوجي، الذي يلبّك قراءتي الراهنة، كان غائبا عن هذا النص حين قرأته في نهاية التسعينات.و هكذا تخلّقت علاقتي الجديدة بالقصيدة بعد أن قرأتها مرة ثانية على ضوء الفضول الذي أثاره في خاطري بوست" اتحاد الكتاب الشاقية" ـ سيّما و أنا يا صاح شايقي فرنسي من النهود،(على كل حال اذا اتضح انو الشايقية استولوا على اتحاد الكتاب ضمن التقسيم الاخير للسلطة و الثروة في السودان فمن باب أولى نشوف لينا شليّة من دار الأ(د)ب الخربانة ، و من يدري؟ فقد تنفعني شليّة "بيت الادب" السوداني في ترميم "خانة " الأدب" الفرنسي و كلنا في الهم غرب) ـ أقول: الغرض( و الغرض مرض) الواضح في قراءتي الثانية المتوجّسة لنص" صوت الوتر السادس" يستمد مشروعيته من مداخلة اتحاد الكتاب الشايقية التي تعرّض فيها بعرب أفريقيا( و بزنجها) على نحو لا يليق بالكيد الأيديولوجي التي توسّمته فيك.
فأنت حين تعارض استنارة الكتاب السودانيين بتجربة" اتحاد الكتاب المغاربة" في السودان، بتجارب اتحادات كتاب " أفريقية" لا تسميها ،أجدك تتعامى عن كون العرب في أفريقيا هم أفارقة مثلهم مثل غيرهم من أهل القارة الآخرين بما فيهم بيض جنوب افريقيا و هنود كينيا و"ميجراب" السودان.كما أجدك تتجاهل ـ و لا أظنك تجهل ـ بداهة كون اللغة العربية ـ مثلها مثل الانجليزية و الفرنسية ـ هي لغة افريقية خالصة للناطقين بها ، مثلما هي، على حد عبارة كاتب يس ، " غنيمة حرب" عند الناطقين بغيرها.
شرح العنقريب و شقاء حنّا
بل أراك تقع في شر أعمالك حين تتساءل:" اتحاد الكتاب الشاقية ده لو يعني اطّوّر و رجع لأصله ".." حيبقى شنو؟" اتحاد الكتاب الاسلاموعروبيين"؟" طيب أنحنا دخلنا شنو؟" ، و تحشر نفسك بين سر أناي و ستيلا قاتيانو و فرانسيس دينج و ابراهيم اسحق الذين يكتبون في لغات افريقية شتى ،(شي عربية عاربة وشي انجليزية و شي عربية دارفورية أما عن انجليزية جمال محجوب و ليلى ابو العلا فحدث)، بينما أنت ، تحت أغلال لغة الضاد الخرطومية ، تنتج أدبا يطرب جمهورك من أولاد و بنات العربسلاميين الذين تتأفّف منهم و لا تطيق تخلّيا( حتى أنك تشرح لهم أن " العنقريب " هو" السرير الخشبي في نصك القصصي " حكاية الولد القروي")، فتأمّل في" هكذا شقاء" كما يقول كتّاب" الجيل الجديد"، بدلا من " شقاء كهذا" كما يعبر كتاب الجيل القديم. وهذا الشقاء ، شقاء القسمة بين ما هو حار و ما لا يُنْكَوى به،هو في مشهد الكاتب المعاصر ، قدر أدبي جليل أغبطك عليه بأكثر مما يفعل حاسدو القرد على حظوة الاحمرار في الموضع اياه.و صدّقني، ليس هناك لعنة أنفع للكاتب من " لعنة حنّا" الذي تفرق دمه بين الاديان، و" لعنة حنّا" يا صديقي حكاية يحكيها أهلنا في النهود عن رجل نصراني رقيق الحال، قالوا أن بعض مسلمي المدينة في اربعينات القرن الماضي اقنعوه بترك المسيحية و اعتناق الاسلام ، و وعدوه بالدعم المادي واصلاح الحال .قالوا أن الرجل قبل و جاء الى المسجد و اشهر اسلامه يوم الجمعة ثم وافته المنيّة يوم السبت، و الأعمار بيد الله.قالوا أن أم حنّا كانت تنوح عند قبره و تردد:" يا حسرتي عليك يا حنا، عيسى غضبان عليك و محمد ما سمع بيك".و يبدو أن مشكلتك يا صاح تتلخص في كون أهل الهامش الأفريقاني، لم يسمعوا بك، أو قل: لم يقرأونك( مهما كانت اللغة التي قد تتوجه بها اليهم)و ذلك لأنهم ببساطة لا يقرأون ، و معرفة القراءة امتياز طبقي في هذا البلد الجاف المتلاف . و هم ـ أهل الهامش ـ بالتالي لم يسمعوا بدفاعك المحموم عنهم، بينما أنت، في عزّ المسرح العربسلامي ،تناكف جمهوره و تسبّ أيقوناته التاريخية في عربية فصحى تطرب جمهور الصالة أيّما طرب، فيحتفى بك في مقام " الآخر "، آخر اولاد العرب .و وضعية " الآخر " ، لو قبلت بها يا" أبابكر" ـ و أنا أظن آثما أنك تنتفع بمردودها السياسي الآني ـ فالرماد كال حمّاد ، ذلك أن وضعية " آخر" العربسلاميين هي في الحقيقة هدية مسمومة غايتها صيانة استبعادك كدخيل أزلي على المركز،فضلا عن تكريس القسمة العرقية كأساس للقسمة الاجتماعية، ناهيك عن نكران التداخل المادي و الرمزي البالغ التركيب بين مكونات واقع المجتمعات السودانية.
و حين أقول : أغبطك على" شقاء حنّا"، ففي خاطري أن مقام الكاتب الحقيقي هو في اختياره الواعي ، بعد القصد و الترصّد ،لأرض الأمور المشتبهات التي يتداخل فيها الحلال و الحرام و وقوفه، منبوذا و متعاليا في آن ، على برزخ حرج بين البيض و السود ، خائنا للعرب وخائنا للزنج ، و منفيا من الغابة ومن الـصحراء .. . هل قلت " الغابة و الصحراء"؟ لا، عفوا ، فأهل " الغابة و الصحراء" ، من الافندية السنارويين الذين قنعوا بسكنى صحراء العربسلامية الايديولوجية، استطابوا انتهاك الغابة الزنجية لزوم العربدة و الاستزادة من الدم الافريقي.(و ده الغتّس حجرهم في شبر موية الانقاذ الاسلامجي)، بينما أنت يا صاح تبني البيزنس السياسي بتاعك في الغابة الفنأفريقانية و تنتهز مشهد الصحراء انتهازا، تعربد عليه أمام جمهورك السودانوي، وتهجو رموزه الكبيرة بجرائر تاريخ لم يصنعوه ثم تنتظر الاعتذار.
و شقاء كمال الجزولي كمان
أقول: أن الاجابة الابداعية التي تطرحها في نصوصك الادبية لسؤال الاستبعاد، تستحق التأنّي بسبب التعارض بين بساطتها الظاهرة و مستوى التركيب الذي يميز بعض نصوصك السياسية لنفس السؤال.هل يمكن فهم هذا الامر بحداثة عهدك بأدب أولاد العرب المعاصر ،كما نوّهت في المقابلة مع الاستاذ أسامة عباس محرر " الحرية " الثقافي الحديث:"..لم أكن وقتها أعرف ما يسمى بالحداثة و الشعر الحديث و رؤيا العالم و ما أدراك( هذا في أوائل الثمانينات)و لكني لما نزلت على الخرطوم ".." تورطت في قراءات عشوائية في كافة مجالات المعرفة(أي انني كنت حاطب ليل).".." و عبر" مجلة الثقافة السودانية " التقيت بمحمد محي الدين الذي ساقني الى أسامة الخواض و محمد مدني و بقية الانجم..".
و أنا أفهم أنك لم تلتق بالكثيرين من الادباء السودانيين المعاصرين، كون معظمهم في تلك السنوات كان قد هاجر أو طرد أو بقي سنينا في معتقلات النميري زي كمال الجزولي مثلا .تعرف يا أبكر حين كان ناس الخواض و" بقية الانجم" الخرطومية يخوضون في البنيوية المترجمة و غير ذلك من أنواع الكلام المباح، كان كمال الجزولي من داخل المعتقلات يعالج الشعر في أمر الدولة التي تدبّر الكشّات ضد الشماشة و تلاحق فقراء المدينة و
"تركض خلف نشال صغير لتحفظ الأمان،
و حلف صبية صأوا ..
كما القرود
كرّا و فرّا في محطة الوقود
بنَشَق يجود العامل الليليُّ ..ربما،
أو.. لا يجود
و خلف باعة زُُغب تقافرزا
في زحمة السوق الكبير .. كالجرذان،
و بعد كل غزوة
رأيتها
ـ الدولة ـ
تقبض جُعلها المرصود
من سادة السُّحت ذوي الزنود،
يحلفون باسم الله،
من دغش الصبح للمساء يحلفون،
يذهبون للحجاز كل عام
ـ كل عام يذهبون ـ
و يرجعون حشفا و سوء كيل
مثلما ذهبوا
يطفّفون في الميزان
......
.....
بالسياط ،
و بالألسن الحداد كالسياط ،
رأيت العَسَسَ الوعّاظَ ..
يحلبون التيس جهرة ،
و يدخلون
الجمل
في
سَم
الخياط "
(1984)" تركية ، الكراسة الاولى من دفتر يوميات أم درمان"
(أم درمان تأتي في قطار الثامنة، نشر دار العلوم ، دار التراث، 2004).
هذا يا صاحبي بعض تفسيري لكونك لم تتعرف على شاعر من طينة كمال الجزولي" العربسلامي" الذي طاب لك أن ترجمه بالغيب ككاتب "يصدر من موقع آيديولوجي اسلاموعروبي".. تقول:"و هذا الموقع ليس مجرد موقع حدوده الورق و المنابر الاسفيرية فحسب، و انما هو موقع مهيمن و في يده سلطة الدولة و مؤسساتها في السودان و مسنود بخلفية امبريالية اسمها العالم العربي"(أبكر آدم اسمعيل في بوست عبد الحميد البرنس بموقع سودانيز أونلاين المعنون " تأملات في عالم سي جي الساخر" بتاريخ 1/1/2006 ). لكن الأدهى و أمر من كل هذا، هو أن شقاء كمال الجزولي لا ينتهي هنا كعميل سري لسلطة الدولة الاسلاموعروبية في السودان المسنودة بأمبريالية العالم العربي كمان. لا ، شقاء كمال الجزولي يمتد حين يتصدى للدفاع عنه عبد الحميد البرنس هيمسيلف، و عبد الحميد البرنس لمن لم يسمعوا به بعد هو حامي/حرامي سجيمان الذي يحسده عصام جبرالله " على طولة باله" ، أو كما قال: " أحسد البرنس على طولة باله و أحس كم الانسانية و الرهافة و الحساسية تجاه الآخرين في كل ما يفعله و كل عام و أنتم بخير" ( عصام جبر الله في تعليق بتاريخ 11 يناير على بوست البرنس المعنون " مساهمات سابقة في بوستات سجيمان ، مبادرة ذاتية توثيقية" سودانيزأونلاين 11/1 )،
نهايتو، لا تعليق على تعليق عصام جبر الله سوى أن " حسد الناس مذاهب" و فيهم من يحسد البرنس على سواد وقعته.
لقد شنّعتما ، يا أبابكر على كمال الجزولي، أنت و أخوك الكاشف البرنس، أسوأ تشنيع حين طاب لكما استخدامه ضمن استعراض أخرق فحواه اقتسام المشهد بين من يدافع عن كمال الجزولي و من يهاجم كمال الجزولي. عشنا و شفنا كمال الجزولي الذي أنفق زهرة العمر يدافع عن الشرفاء في السودان، و في أحلك شروط القهر السياسي، ينمسخ رهينة طيّعة تتنازعها أيدي حماة العربنة و حماة الزنوجة المتحالفين سرا بذريعة الانتماء للجيل" البان جديد"، و الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه..
لكن يا" أبابكر"( تزوغ وين من اسم زي ده؟)، ده كلو كوم ،و قولك بأنك لم تقرأ أبراهيم اسحق الاّ في الالفية الجديدة ،كوم تاني. فهذا اعتراف لا يليق بقدر من يتنكب الدفاع عن ابداع أهل الهامش لأن ابراهيم اسحق في المشهد الادبي المعاصر يَمثُل كأحد أنصع ايقونات "ادب الهامش"، ان سلمنا بهذا المصنّف المريب في حق ابراهيم اسحق. تقول :" و كاتب مثل ابراهيم اسحق مثلا فأنا لم أقرأ له الا رواية واحدة في الالفية الجديدة و بحكم عملي في مركز الدراسات السودانية ".
ترى من أي هامش " جاء هؤلاء الناس؟" الذين يتأففون من ماركس و ينظّرون في ما بعد الحداثة ثم يجاهرون بجهلهم بأدب السودانيين؟
و كيف أوكل اليك حيدر ابراهيم علي ـ الشاقي القح ـ مسئولية التحرير في" كتابات سودانية" و أنت لم تقرأ شيئا لكاتب سوداني في أهمية ابراهيم اسحق؟
أبكر يا أخانا الذي في امريكا الشمالية ذات العماد..
لعلك لاحظت اني قاومت رغبة عارمة في قفل هذه الفقرة من كلامي بعبارة أمي المفضلة " يا النبي نوح"، و ما ذلك الا لقناعة خفية من كونك ، مع الزمن ، قمين بتجاوز كل هذه المؤاخذات التي لمستها بين ثنايا نصوصك المبذولة على محاور السياسة و الادب في بلادنا.و أنا في انتظار ما قد يجيء من طرفك و سلام.
حسن
أبّكر يا أخانا في أفريقيا ..
سلام جاك
و هاك:
أولا بالتبادي حكاية الترحيب بالاعضاء" الجدد" دي ما واقعة لي، لأني اعتبر الموقع دا منتدى للحوار ودفع المفاكرة في القضايا العامة ذات الأولوية في مشهد اهل السودان. قضايا الديموقراطية و التنمية، يعني لا هو مقهى شعبي عام و لا هو بيت خاص لمن تملّكوه بالتقادم. وكون زيد اكتسب عضوية المنتدى قبل عبيد فذلك لا يسوّغ له بأية حال اتخاذ وضعية المرحّب المريبة التي يكسب لنفسه بذريعتها حظوة رمزية غير مبررة، حظوة "سيد البيت" الذي يستضيف القادمين الجدد و يحسن وفادتهم حسب أسطورة الكرم السوداني الاصيل ، و" الدين في الكتوف و الاصل معروف" كما تقول حكمة مولانا ود اب زهانة. و هذا يا صاحبي ضرب من" تكفين الميتات" الاسافيرية ينتفع به داجنة الكتاب من صنف هذا البرنس الأمُّور الذي يجري بثرثراته بين المواقع الاسفيرية و لا يضيره أن " يبخّر" سجيمان في سودانيز أونلاين تارة و يدافع عن كمال الجزولي طورا، قبل أن يهرول للترحيب بك في سودان للجميع ترتارة .و اذا في زول ممكن يرحّب او ما يرحّب، فمن باب اولى يكون هو الشخص المسئول عن الادارة في الموقع المعني. و الادارة في ما أرى منفعة تنظيم لا تعود على القائم عليها باي حظوة تشريفية بخلاف" أجر المناولة"( و قد تعود عليه أحيانا بمنفعة " الشرة في القندول" و نجاة أدرى).
القراءة الكاتبة
أقول: جعلني هذا الموقف اتجنب النظر في بوستات الترحيب كون أغلبها عامر بأدب المجاملات السودانية " الخُسوسية" التي تقع في حيّز الكلام الشخصي الذي لا يهم القراء، أو العمومية التي تتصنّف في باب الـ "بوليتكلي كوريكت" كون الناس في مقام الترحيب لا يطيقون حديثا غير حديث التطييب .
و قد دفعتني قراءة حديثك في شأن " اتحاد الكتاب الشاقية" الي النظر في بوست الاخ مصطفى آدم " رحبوا معي بالانسان أبكر.." بتارخ 26 نوفمبر 2005 ، بعد أن تجنبته زمنا، خوفا من تبعة العادات الادبية الاسفيرية لصفة " الانسان" التي منحك اياها مصطفى كخصوصية تميزك عن سائر بني الانسان الآخرين، كما يميز "الاخوان المسلمون" أنفسهم عن سائر المسلمين بصفة " المسلمين"، التي تضمر أن بقية الخلق "أخوان ساكت"، ما مسلمين.أو كما يميز اصحاب التشاشات الطفيلية البيزنس بتاعهم بالحاقه بصفة" الاسلامية" ، من نوع : " الجمهورية الاسلامية" و" الاشتراكية الاسلامية " و " الديموقراطية الاسلامية "و " البنوك الاسلامية" و " البقالة الاسلامية " لغاية " البيرة الاسلامية بدون كحول " و ما خفي أزرط.
أقول : تأملت في بوست الترحيب الذي افتتحه الاخ مصطفى آدم بعنوان : "رحبوا معي بالانسان أبكر..".وما تلاه من بوستات للأصدقاء من أيمان شقاق لحسن النور ، لخضر حسن خليل ،لأحمد المرضي ، لنجاة و للحسن بكري (وما كان من أمر" حياءك" و "غضبك" الخ)، لغاية بوست عائشة المبارك التي اختلست لنا قصيدتك " صوت الوتر السادس ". و قد شحذ فضولي الاطراء الذي بذله في حقك الصحاب المرحبون اعلاه كما تعجّبت من قراءتي الثانية لقصيدتك : "صوت الوتر السادس"، العامرة بأيقونات السودانوية التي تداهن ذاكرة القاريء العربسلامي( بلقيات بلاغية مستعارة من المجذوب و محمد المكي ابراهيم و عبد الحي و آخرين) ثم تُؤثّمه على ذنب تاريخي تورّثه اياه، بغير وجه حق ، بقرينتي العرق و الدين.أقول : " من قراءتي الثانية" لقصيدتك الغميسة " صوت الوتر السادس "( في موقعك الالكتروني) ـ لأني قرأتها اول مرة في 1999 ، حين نشرتها أنت في مجلة " كتابات سودانية"(العدد العاشر 1999)، التي كانت تصدر عن مركز الدراسات السودانية بالقاهرة ـ تبدّت لي فيها خوافي لم انتبه لها عند القراءة الاولى .و هذا باب في أدب القراءة عجيب، كون البصيرة القارءة تعيد كتابة النص على ضوء متغيرات الزمان و المكان .و قد لاحظت أنك اخضعتها لقراءة ثانية، قراءة كاتبة، رفعت عنها بعض مقاطعها التي لابد أنها لم تعد ترق لك ضمن ظروف تحوّلات المشهد الجيوبوليتيكي.
في النسخة المنشورة في موقعك الالكتروني اختفت عبارة " لعرسها" من مقطع" القلب زكّته الخيول لعرسها يوم الرحيل فكان ميلاد المطر".
و بعدها بسبعة أسطر اختفت عبارة" فنيلتي الشوهاء " التي كانت بين
" بكاء أخي الصغير
فنيلتي الشوهاء،
سروالي الممزّق من مطاردة السحالي و الورل ."
و في نهاية النص اختفت الاسطر الثلاثة التالية:
"و لوجه سلمى و النهارات الصبية ما سيأتي من غناء
شكرا لكم يا سيدي..
و غدا نعود ."
و لا تظنّن اني آخذ عليك تعديلك لنصك، حاشا ،فمن جهة أولى ،فالكاتب كائن حر، بل هو في أكثر حالات حريته اكتمالا حين يتحقق في حميمية فعل الكتابة، و من جهة ثانية فالنص كائن حي ، يحيا و يموت، و قد يبعث حيا من بعد موت ، بفضل تباين القراءات الكواتب وتعدد النظر الجديد و تبدل السياق الاجتماعي.و أنا في نهاية تحليلي أحمد لك عكوفك على نصّك ، على تواتر الازمنة و الامكنة.بيد أن تعدد النصوص المتمخّضة عن النص الابتدائي لا يلغي مسئوليتك عن كل نص جديد صدر عنك.و الكاتب مسئول عن كل عبارة و عن كل كلمة و عن كل حرف يكتبه، مثلما الرسام مسئول عن كل لون و عن كل شكل يخطه، مثلما الراقص مسئول عن كل حركة وكل ايماءة تصدر عن جسده في سياق الزمان و المكان و الخ و" شرحه " في فضاءات التعبير الاخرى بما فيها فضاء الفكر السياسي.و بما أنك بين نفر من الكتاب السودانيين الذين يسعون بالنصوص بين أرض الأدب و أرض الفكر السياسي فان قراءتك هنا و هناك لا تفلت من ملابسات تأثير هذا النص هنا على ذاك النص هناك ، و" الحساب ولد" كما تقول حكمة الذكور المريبة.و في هذا المنظور أقرأ ذلك المقطع من قصيدتك " صوت الوتر السادس ":
" الخرطوم (1)
الدرس الاول : التاريخ
المهدي نخاس شهير
شولة
عبد اللطيف : لم يكن في مسرح الوطن الجميل،
بل كان منهمكا يخطط لانقلاب عسكري
كي يعيد الى أمية أصلها القرشي و النسب النبيل
عبد الفضيل:
كان نشالا و لصا موغلا في الاحتراف
نقطة ، سطر جديد
الخليل:
كان يسكن فيلا
و يبيع اغنية تزيف طعم البلاد
و يقاسم السلطان قعدته الخليعة، و احتمال أن يكون مجندا في الامن..
احتمال
و مهيرة:
بائعة المريسة،
أول سلطة للغيب تمتهن الغناء المستغيث دعارة،
و تمارس التعريص في الليل البهيم
و نكون أولاد الحرام
طوبى لنا "
و القاريء في مواجهةهذا النص يحال لمتكلم غامض لا أحد يعرف ما اذا كان هو شخص الشاعر نفسه، أعني الشاعر الذي نصّب نفسه ناطقا رسميا باسم المهمشين الزنج من ضحايا الأيديولوجية العربسلامية التي يعلن عليها حربا كاملة شاملة مادية و رمزية، أم هو معلّم متسلّط في مدرسة السلطان المستبد الغاشم يملي على التلاميذ نسخة مزورة من تاريخ المقاومة الوطنية، أم هو مجرد ولد " مشوطن" لسانه فالت من كل قيد و لا يدري ما يقول،و جهل القاريء بنوعية الجهة التي يصدر عنها الخطاب يجعل النص معرضا لمخاطر القراءة المغرضة و التسوّي بايدك يغلب أجاويدك و يتجاوز حدود مسئوليتك الاخلاقية تجاه ما تكتب..و طوبى لـ "أولاد الحرام"، و أي" حرام"؟ حرام المجتمع العربسلامي الذي يشوف الفيل و يُذْعن في ظله؟ أم حرام الايديولوجي الذي ينتفع بوسيلة الشعر في تهريب ما لا تطيقه وسيلة الفكر الى فضاء الحوار الاجتماعي الدائر؟
ولا أطيل أكثر من هذا ، و كما ترى يا صاح فان فولة" القراءة الكاتبة" تفيض عن سعة مكيالي الحالي، لكني عائد لهذا الامر قطعا قريبا و في خاطري قراءات لنصوص سودانية مشهودة صارت جزءا أصيلا من أثاث الخطاب السياسي الحديث في السودان.
الجيل " الاعتباطي"
أقول: شحذ اطراء الصحاب في بوست الترحيب فضولي ، فتوكلت على الحي القيوم وحاولت النظر في بقية آدابك المعروضة في موقعك ، فوجدت ما لذ و طاب من أنواع الأدب و التفاكير النقدية السياسية التي تستحق التأنّي، مثلما وجدت تصانيف عجيبة من أدب الضحيّة السوداني الجديد. و ما أسميه بـ "أدب الضحية" السوداني هو نوع أدبي بكائي جديد، برع فيه نفر من كتاب السودان الجدد الذين تمخّضت عنهم تناقضات الآيديولوجية العربسلامية في السودان . و هم قوم متعددو المشارب و المآكل، ينطقون باسم الشعب و يتباكون و يتشاكون في الفجوات الايديولوجية لبُنى اليمين و اليسار في السودان. و قد يتحالفون ـ عند اللزوم ـ باسم مفهوم غامض اسمه" الجيل" أو" الشباب" على قتال الجيل القديم و خلافه. و سأعود لـلمضمر في " خلافه " هذي لاحقا لزوم تحليل بعض الحالات و النماذج البارزة التي يمكن أن تسهم في اضاءة المشهد الفكري و الرمزي الذي تتحرك عليه في معية هذه الكائنات السياسية المتذرعة بذريعة السن .
و قد بذل لك محرر جريدة "الحرية" ، أسامة عباس، مزلقان اسمه :" حوار/حرب" الأجيال الكاتبة في السودان فلم تقاوم اغراء الانزلاق في فخ مريح ،" بوليتيكلي كوريكت"، و تناسيت مقولات مولانا كارل ماركس التي بنيت عليها جزء كبير من بأسك الآيديولوجي.فحين يسألك أسامة عباس:" كيف تنظر الى هذا الجدل: جيل قديم /جيل جديد، كتابة قديمة /كتابة جديدة؟"،تجيب بنفي موضوعة الجيل مبدئيا على أساس أنها موضوعة " اعتباطية لدرجة لا تسمح للمرء بالخوض معها بجدية".
(abbakaradam.com)
بل أنت تؤكد على الطبيعة" الاعتباطية" لـ " صيغة الجيل" ثلاث مرات في معرض اجابتك على السؤال ، الا أن ذلك التأكيد لا يعصمك من الالتفاف على اعتباطية موضوعة الجيل فتعاود متسللا من" دريب قش" الكتابة القديمة/ الكتابة الجديدة، الذي بذله لك أسامة عباس.و أسامة مغرض، و غرضه واضح بلا مداورة كما أعلن عنه في مشروع بناء " ملف كبير حول الاجيال الكاتبة في السودان".لكن مشروع أسامة كان يتوقف على نوع الاستجابة التي قد تجيء من طرفك. و كان من الممكن ان ترفض الخوض في المسألة الاعتباطية ، فينتهي الامر عند هذا الحد، كما كان من الممكن ان تخوض فيها بما يمكنك من شرح و تحليل اسباب اعتباطيتها و الدوافع التاريخية التي تجعل أسامة يخصها بـ " ملف كبير"، لكنك اخترت أن تخوض مع التيار.لماذا؟ مندري.
و كوني لمست في أدبك السياسي جهدا مقدرا في نقد أيديولوجية الانظمة العربسلامية في السودان فهذا شيء محمود و ضروري و منطقي مع طبيعة الواقع السياسي الراهن في السودان و مع طبيعة المسار الذي اتبعته أنت "ابن القرية القصيّة" من الهامش للمركز الحضري.و هو أدب سياسي نقّاد لا يتاح الا لمن واجهته، بشكل واقعي، اسئلة الاستبعاد الطبقي و العرقي التي يكابدها جلّ المهمشين في السودان العربسلامي.و قد لمست ميلك للحديث باسم المهمشين من ضحايا الايديولوجيا العربسلامية في السودان، و لا جناح فالزلابيا للجميع، الا أن الافق العرقي الذي دبّرت عليه استراتيجية المفاكرة الاجتماعية في خصوص تحرير المستضعفين في بلادنا يضيق عن استيعاب المهمشين داخل الفضاء العربسلامي ، و قد يستغني عنهم بذرائع الهيمنة التاريخية لبني الثقافة العربسلامية التي ينتمون اليها، فكأنك تختار عامدا وضعية الناطق الرسمي باسم" الكتلة السوداء" أو" المجموعة الزنجية" أو" التجمع الافريقي" الى آخر الترهات العرقية التي تفتقت عنها قرائح مقاولي الهويولوجيا المعرقنة ، ممن تعودوا على اتخاذ المجموعات العرقية رهائن أو دروعا بشرية في مشهد النزاع السياسي السوداني.غير أن مواجهة أسئلة الاستبعاد، حين تقتصر على البعد السياسي وحده ،لا تؤدّي ، أو قل هي لا تؤدّي الا الى وضعية" الاستبعاد المعاكس" بحيث ينمسخ المستبعد، بنصب العين ، الى نسخة سلبية (" نيقاتيف")، أبيض و أسود من المستبعد، بكسر العين( و الاستبعاد انما يقوم على" كسر العين" أولا و أخيرا).و قد لمست شيئا من هذا حين تأنّيت عند بعض نصوصك الادبية المعجونة بالفنأفريقانية الباسلة أو بـ " الغضب المدمر"، حسب عبارة الصديق مصطفى آدم حين أخذ يتعذّر و يتذرّع بصورتك الفتوغرافية عقب " زرزرة "الحسن بكري في موضوع" الحياء" اياه.( راجع بوست رحبوا معي بالانسان أبكر 5 يناير) . و الكلام عن الصورة فولة تانية تنتظر كياليها.المهم يا زول ، بدت لي الاجابة الابداعية التي تقدمها كأديب لسؤال الاستبعاد المركب، المادي و الرمزي،بدت لي كمثل استجابة شرطية معاكسة يفقرها الانفعال عن مفصلة أسباب الاعتراض و حججه ضمن كيمياء الغضب الخلاق. فأنت في غضبك الادبي كاميكازي ، تفتح النار على جميع العربسلاميين بما فيهم أنت نفسك.( و عربسلاميتك يا أبابكر فولة ثالثة أنا جاييك ليها).
أقول أنت تفتح النار علي الجميع بدون فرز: يعني من كمال الجزولي ليوسف فضل و تاج السر الحسن، الذين مسختهم عملاء سرّيين للشايقية في اتحاد الكتاب السودانيين، و انت طالع لمحمد احمد المهدي النخاس لعلي عبد اللطيف الانقلابي عميل أميّة، لعبد الفضيل الماظ النشال اللص، لخليل فرح مهرج السلطان، لمهيرة العاهرة المعرّصة لغاية ناس يوسف فضل و تاج السر و آخرين.. شفت كيف ؟
غنائم الحرب الثقافية
أقول : قرأت نص" صوت الوتر السادس" قراءة أولى في نهاية التسعينات في " كتابات سودانية".كانت تلك قراءة بريئة، السماحة الجمالية فيها تغلب على النظر الآيديولوجي، و ذلك لأن الثقل الايديولوجي، الذي يلبّك قراءتي الراهنة، كان غائبا عن هذا النص حين قرأته في نهاية التسعينات.و هكذا تخلّقت علاقتي الجديدة بالقصيدة بعد أن قرأتها مرة ثانية على ضوء الفضول الذي أثاره في خاطري بوست" اتحاد الكتاب الشاقية" ـ سيّما و أنا يا صاح شايقي فرنسي من النهود،(على كل حال اذا اتضح انو الشايقية استولوا على اتحاد الكتاب ضمن التقسيم الاخير للسلطة و الثروة في السودان فمن باب أولى نشوف لينا شليّة من دار الأ(د)ب الخربانة ، و من يدري؟ فقد تنفعني شليّة "بيت الادب" السوداني في ترميم "خانة " الأدب" الفرنسي و كلنا في الهم غرب) ـ أقول: الغرض( و الغرض مرض) الواضح في قراءتي الثانية المتوجّسة لنص" صوت الوتر السادس" يستمد مشروعيته من مداخلة اتحاد الكتاب الشايقية التي تعرّض فيها بعرب أفريقيا( و بزنجها) على نحو لا يليق بالكيد الأيديولوجي التي توسّمته فيك.
فأنت حين تعارض استنارة الكتاب السودانيين بتجربة" اتحاد الكتاب المغاربة" في السودان، بتجارب اتحادات كتاب " أفريقية" لا تسميها ،أجدك تتعامى عن كون العرب في أفريقيا هم أفارقة مثلهم مثل غيرهم من أهل القارة الآخرين بما فيهم بيض جنوب افريقيا و هنود كينيا و"ميجراب" السودان.كما أجدك تتجاهل ـ و لا أظنك تجهل ـ بداهة كون اللغة العربية ـ مثلها مثل الانجليزية و الفرنسية ـ هي لغة افريقية خالصة للناطقين بها ، مثلما هي، على حد عبارة كاتب يس ، " غنيمة حرب" عند الناطقين بغيرها.
شرح العنقريب و شقاء حنّا
بل أراك تقع في شر أعمالك حين تتساءل:" اتحاد الكتاب الشاقية ده لو يعني اطّوّر و رجع لأصله ".." حيبقى شنو؟" اتحاد الكتاب الاسلاموعروبيين"؟" طيب أنحنا دخلنا شنو؟" ، و تحشر نفسك بين سر أناي و ستيلا قاتيانو و فرانسيس دينج و ابراهيم اسحق الذين يكتبون في لغات افريقية شتى ،(شي عربية عاربة وشي انجليزية و شي عربية دارفورية أما عن انجليزية جمال محجوب و ليلى ابو العلا فحدث)، بينما أنت ، تحت أغلال لغة الضاد الخرطومية ، تنتج أدبا يطرب جمهورك من أولاد و بنات العربسلاميين الذين تتأفّف منهم و لا تطيق تخلّيا( حتى أنك تشرح لهم أن " العنقريب " هو" السرير الخشبي في نصك القصصي " حكاية الولد القروي")، فتأمّل في" هكذا شقاء" كما يقول كتّاب" الجيل الجديد"، بدلا من " شقاء كهذا" كما يعبر كتاب الجيل القديم. وهذا الشقاء ، شقاء القسمة بين ما هو حار و ما لا يُنْكَوى به،هو في مشهد الكاتب المعاصر ، قدر أدبي جليل أغبطك عليه بأكثر مما يفعل حاسدو القرد على حظوة الاحمرار في الموضع اياه.و صدّقني، ليس هناك لعنة أنفع للكاتب من " لعنة حنّا" الذي تفرق دمه بين الاديان، و" لعنة حنّا" يا صديقي حكاية يحكيها أهلنا في النهود عن رجل نصراني رقيق الحال، قالوا أن بعض مسلمي المدينة في اربعينات القرن الماضي اقنعوه بترك المسيحية و اعتناق الاسلام ، و وعدوه بالدعم المادي واصلاح الحال .قالوا أن الرجل قبل و جاء الى المسجد و اشهر اسلامه يوم الجمعة ثم وافته المنيّة يوم السبت، و الأعمار بيد الله.قالوا أن أم حنّا كانت تنوح عند قبره و تردد:" يا حسرتي عليك يا حنا، عيسى غضبان عليك و محمد ما سمع بيك".و يبدو أن مشكلتك يا صاح تتلخص في كون أهل الهامش الأفريقاني، لم يسمعوا بك، أو قل: لم يقرأونك( مهما كانت اللغة التي قد تتوجه بها اليهم)و ذلك لأنهم ببساطة لا يقرأون ، و معرفة القراءة امتياز طبقي في هذا البلد الجاف المتلاف . و هم ـ أهل الهامش ـ بالتالي لم يسمعوا بدفاعك المحموم عنهم، بينما أنت، في عزّ المسرح العربسلامي ،تناكف جمهوره و تسبّ أيقوناته التاريخية في عربية فصحى تطرب جمهور الصالة أيّما طرب، فيحتفى بك في مقام " الآخر "، آخر اولاد العرب .و وضعية " الآخر " ، لو قبلت بها يا" أبابكر" ـ و أنا أظن آثما أنك تنتفع بمردودها السياسي الآني ـ فالرماد كال حمّاد ، ذلك أن وضعية " آخر" العربسلاميين هي في الحقيقة هدية مسمومة غايتها صيانة استبعادك كدخيل أزلي على المركز،فضلا عن تكريس القسمة العرقية كأساس للقسمة الاجتماعية، ناهيك عن نكران التداخل المادي و الرمزي البالغ التركيب بين مكونات واقع المجتمعات السودانية.
و حين أقول : أغبطك على" شقاء حنّا"، ففي خاطري أن مقام الكاتب الحقيقي هو في اختياره الواعي ، بعد القصد و الترصّد ،لأرض الأمور المشتبهات التي يتداخل فيها الحلال و الحرام و وقوفه، منبوذا و متعاليا في آن ، على برزخ حرج بين البيض و السود ، خائنا للعرب وخائنا للزنج ، و منفيا من الغابة ومن الـصحراء .. . هل قلت " الغابة و الصحراء"؟ لا، عفوا ، فأهل " الغابة و الصحراء" ، من الافندية السنارويين الذين قنعوا بسكنى صحراء العربسلامية الايديولوجية، استطابوا انتهاك الغابة الزنجية لزوم العربدة و الاستزادة من الدم الافريقي.(و ده الغتّس حجرهم في شبر موية الانقاذ الاسلامجي)، بينما أنت يا صاح تبني البيزنس السياسي بتاعك في الغابة الفنأفريقانية و تنتهز مشهد الصحراء انتهازا، تعربد عليه أمام جمهورك السودانوي، وتهجو رموزه الكبيرة بجرائر تاريخ لم يصنعوه ثم تنتظر الاعتذار.
و شقاء كمال الجزولي كمان
أقول: أن الاجابة الابداعية التي تطرحها في نصوصك الادبية لسؤال الاستبعاد، تستحق التأنّي بسبب التعارض بين بساطتها الظاهرة و مستوى التركيب الذي يميز بعض نصوصك السياسية لنفس السؤال.هل يمكن فهم هذا الامر بحداثة عهدك بأدب أولاد العرب المعاصر ،كما نوّهت في المقابلة مع الاستاذ أسامة عباس محرر " الحرية " الثقافي الحديث:"..لم أكن وقتها أعرف ما يسمى بالحداثة و الشعر الحديث و رؤيا العالم و ما أدراك( هذا في أوائل الثمانينات)و لكني لما نزلت على الخرطوم ".." تورطت في قراءات عشوائية في كافة مجالات المعرفة(أي انني كنت حاطب ليل).".." و عبر" مجلة الثقافة السودانية " التقيت بمحمد محي الدين الذي ساقني الى أسامة الخواض و محمد مدني و بقية الانجم..".
و أنا أفهم أنك لم تلتق بالكثيرين من الادباء السودانيين المعاصرين، كون معظمهم في تلك السنوات كان قد هاجر أو طرد أو بقي سنينا في معتقلات النميري زي كمال الجزولي مثلا .تعرف يا أبكر حين كان ناس الخواض و" بقية الانجم" الخرطومية يخوضون في البنيوية المترجمة و غير ذلك من أنواع الكلام المباح، كان كمال الجزولي من داخل المعتقلات يعالج الشعر في أمر الدولة التي تدبّر الكشّات ضد الشماشة و تلاحق فقراء المدينة و
"تركض خلف نشال صغير لتحفظ الأمان،
و حلف صبية صأوا ..
كما القرود
كرّا و فرّا في محطة الوقود
بنَشَق يجود العامل الليليُّ ..ربما،
أو.. لا يجود
و خلف باعة زُُغب تقافرزا
في زحمة السوق الكبير .. كالجرذان،
و بعد كل غزوة
رأيتها
ـ الدولة ـ
تقبض جُعلها المرصود
من سادة السُّحت ذوي الزنود،
يحلفون باسم الله،
من دغش الصبح للمساء يحلفون،
يذهبون للحجاز كل عام
ـ كل عام يذهبون ـ
و يرجعون حشفا و سوء كيل
مثلما ذهبوا
يطفّفون في الميزان
......
.....
بالسياط ،
و بالألسن الحداد كالسياط ،
رأيت العَسَسَ الوعّاظَ ..
يحلبون التيس جهرة ،
و يدخلون
الجمل
في
سَم
الخياط "
(1984)" تركية ، الكراسة الاولى من دفتر يوميات أم درمان"
(أم درمان تأتي في قطار الثامنة، نشر دار العلوم ، دار التراث، 2004).
هذا يا صاحبي بعض تفسيري لكونك لم تتعرف على شاعر من طينة كمال الجزولي" العربسلامي" الذي طاب لك أن ترجمه بالغيب ككاتب "يصدر من موقع آيديولوجي اسلاموعروبي".. تقول:"و هذا الموقع ليس مجرد موقع حدوده الورق و المنابر الاسفيرية فحسب، و انما هو موقع مهيمن و في يده سلطة الدولة و مؤسساتها في السودان و مسنود بخلفية امبريالية اسمها العالم العربي"(أبكر آدم اسمعيل في بوست عبد الحميد البرنس بموقع سودانيز أونلاين المعنون " تأملات في عالم سي جي الساخر" بتاريخ 1/1/2006 ). لكن الأدهى و أمر من كل هذا، هو أن شقاء كمال الجزولي لا ينتهي هنا كعميل سري لسلطة الدولة الاسلاموعروبية في السودان المسنودة بأمبريالية العالم العربي كمان. لا ، شقاء كمال الجزولي يمتد حين يتصدى للدفاع عنه عبد الحميد البرنس هيمسيلف، و عبد الحميد البرنس لمن لم يسمعوا به بعد هو حامي/حرامي سجيمان الذي يحسده عصام جبرالله " على طولة باله" ، أو كما قال: " أحسد البرنس على طولة باله و أحس كم الانسانية و الرهافة و الحساسية تجاه الآخرين في كل ما يفعله و كل عام و أنتم بخير" ( عصام جبر الله في تعليق بتاريخ 11 يناير على بوست البرنس المعنون " مساهمات سابقة في بوستات سجيمان ، مبادرة ذاتية توثيقية" سودانيزأونلاين 11/1 )،
نهايتو، لا تعليق على تعليق عصام جبر الله سوى أن " حسد الناس مذاهب" و فيهم من يحسد البرنس على سواد وقعته.
لقد شنّعتما ، يا أبابكر على كمال الجزولي، أنت و أخوك الكاشف البرنس، أسوأ تشنيع حين طاب لكما استخدامه ضمن استعراض أخرق فحواه اقتسام المشهد بين من يدافع عن كمال الجزولي و من يهاجم كمال الجزولي. عشنا و شفنا كمال الجزولي الذي أنفق زهرة العمر يدافع عن الشرفاء في السودان، و في أحلك شروط القهر السياسي، ينمسخ رهينة طيّعة تتنازعها أيدي حماة العربنة و حماة الزنوجة المتحالفين سرا بذريعة الانتماء للجيل" البان جديد"، و الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه..
لكن يا" أبابكر"( تزوغ وين من اسم زي ده؟)، ده كلو كوم ،و قولك بأنك لم تقرأ أبراهيم اسحق الاّ في الالفية الجديدة ،كوم تاني. فهذا اعتراف لا يليق بقدر من يتنكب الدفاع عن ابداع أهل الهامش لأن ابراهيم اسحق في المشهد الادبي المعاصر يَمثُل كأحد أنصع ايقونات "ادب الهامش"، ان سلمنا بهذا المصنّف المريب في حق ابراهيم اسحق. تقول :" و كاتب مثل ابراهيم اسحق مثلا فأنا لم أقرأ له الا رواية واحدة في الالفية الجديدة و بحكم عملي في مركز الدراسات السودانية ".
ترى من أي هامش " جاء هؤلاء الناس؟" الذين يتأففون من ماركس و ينظّرون في ما بعد الحداثة ثم يجاهرون بجهلهم بأدب السودانيين؟
و كيف أوكل اليك حيدر ابراهيم علي ـ الشاقي القح ـ مسئولية التحرير في" كتابات سودانية" و أنت لم تقرأ شيئا لكاتب سوداني في أهمية ابراهيم اسحق؟
أبكر يا أخانا الذي في امريكا الشمالية ذات العماد..
لعلك لاحظت اني قاومت رغبة عارمة في قفل هذه الفقرة من كلامي بعبارة أمي المفضلة " يا النبي نوح"، و ما ذلك الا لقناعة خفية من كونك ، مع الزمن ، قمين بتجاوز كل هذه المؤاخذات التي لمستها بين ثنايا نصوصك المبذولة على محاور السياسة و الادب في بلادنا.و أنا في انتظار ما قد يجيء من طرفك و سلام.
حسن
Joseph TUBIANAجوزيف توبيانا
رحل
حزنت هذا الصباح لرحيل صديقنا و أستاذنا العالم الإنثروبولوجي و الألسني الجليل" جوزيف توبيانا"، أثر نوبة قلبية لم تمهله طويلا.و ندمت لأني إنشغلت بأمور الدنيا عن مهاتفته الأسبوع الماضي لتشقيق الكلام في واحدة من الونسات الطويلة التي نخوض فيها في كل شيئ: نعيد تنظيم السودان و أفريقيا و العالم العربي و أوروبا و أمريكا ولا يضيرنا أن ننزلق من موضوع لآخر بأسلوب " دو كوك آلان"(و ترجمتها الحرفية: من الديك للحمار) كما يعبر أهلنا الفرنسيس.
كنت أنوي شكره على تقريظه لكتابيّ المصوّرين الأخيرين (" ست إفتكار" و " جنازة الفيل"). كما كانت في خاطري أسئلة في خصوص الترجمة المشتركة( مع جنفييف دافو) للفرنسية التي أنجزاها لكتاب الأستاذة الهولندية" ليدوين كابتيينس":" العقيدة المهدية و التقليد السوداني في دارفور، تاريخ سلطنة المساليت 1870- 1930"( نشر لهارماتان 2006)(1). و كان الكتاب قد نشر بالإنجليزية في 1985 بواسطة مركز الدراسات الأفريقية في لايدن. و الأستاذة ليدوين كابتيينس مؤرخة ومستعربة و أفريقانيةعملت بالبحث الميداني في السودان بدار المساليت و درّست في جامعة الخرطوم و تعمل حاليا بتدريس التاريخ الأفريقي في وليزلي كوليج بالولايات المتحدة.و كتابها محاولة جادة للتأريخ لسلطنة المساليت تتكامل ضمنها الروايات الشفهية مع الوثائق المكتوبة.كنت أريد أن أشكر جوزيف توبيانا كونه برّني بهذا الكتاب الكبير بالذات في هذه الفترة التي تجعلنا فيها الأحداث الدامية في السودان نكتشف قلة حيلتنا المعرفية و هشاشة معلوماتنا عن أهلنا الغبش الذين ننخرط في الدفاع عنهم ضد جور الأستبداد و آيات القهر و الإستعلاء و نحن لا ندري من أمرتاريخهم و ثقافاتهم سوى النذر اليسير.
و في نفس الوقت كانت عندي بضعة تفاكير و تساؤلات في خصوص تجربته كأثنولوجي أفريقاني من جيل البحاث الفرنسيين الذين سعوا لتصحيح العقيدة الأخلاقية للإثنولوجيا و إنتزاع المبحث الإثنولوجي من أيدي سدنة الإستعمار في فضاء المبحث الأفريقاني. و هي تفاكير عنـّت لي من قراءة مقابلة طويلة أجرتها معه الباحثة الإثنولوجية " باربارا كاسياري" أستاذة الإنثروبولوجي بجامعة باريس 8.(2) و أظنني كنت أرجئ ونستي لعطلة نهاية العام و في زاوية الخاطر أمل بسفرة قصيرة لباريس لزوم النزهة الثقافية و لقاء الأصدقاء.لكن الموت " حق" مثلما هو" باطل" في آن.فقد رحل جوزيف توبيانا و تركني مع أسئلتي و تفاكيري و معكم و جلكم لم يقرأ له أو يسمع به.
و تقديم" جوزيف توبيانا"،( الجزائر 1919 – باريس 2006)، لمن لم يلتق به أمر عسير، كونه من طينة الرجال متعددي الغوايات بين الفن و اللغات و الإثنولوجيا والسياسة. فهو أحد قلائل من العارفين باللغات الأثيوبية معرفة متخصصه أهلته لتدريس اللغة الأمهرية في أم المؤسسات الأكاديمية الفرنسية المنفتحة منذ أكثر من قرن على دراسات العالم غير الأوروبي :" المعهد الوطني للغات و الثقافات الشرقية"(إنالكو).
لكن الكلام عن جوزيف توبيانا لا يكون بغير " ماري جوزي توبيانا " زوجته و زميلته في المبحث الأفريقاني منذ مطلع الخمسينات.فبعد إستكمال عمله الميداني في إثيوبيا في 1950. إنطلق مع ماري جوزي توبيانا في مبحث مهم و مركزي في حياتهما الأكاديمية حول الزغاوة بين تشاد و السودان.
و حكاية توبيانا مع السودان طريفة و عامرة بالدروس و العبر.ففي نهاية الثمانينات كنت أبحث عن أكاديميين على معرفة بالسودان لإستكمال هيئة المحكمين التي كان علي أن أدافع أمامهاعن أطروحتي في صدد التحول في المراجع الثقافية من خلال حالة تاريخ الفن المعاصر في السودان.و كنت قد نجحت في جمع بعض المختصين بالتاريخ و سوسيولوجيا الفن ، لكن مديرة بحثي ، نصحتني بأن أبحث عن أكاديمي يعرف السودان.و في ذلك الوقت كانت تلك مهمة صعبة لأن المختصين بالسودان القلائل تقاعدوا أو عتذروا بأن موضوع تاريخ الفن المعاصر في السودان بعيد تماما عن دائرة إهتمامهم.و هدتني الظروف للقاء جوزيف توبيانا و اكتشفت أنه يعرف السودان و أخذ يسألني عن مآل أصدقاءه في الخرطوم (الأساتذة محمد عمر بشير و يوسف فضل حسن و آخرين).أذكر انني سألته عما دفع به للسودان فقال: كنا نعمل على بحث عن الزغاوة في تشاد مع ماري جوزي. و لسبب من الأسباب غضب علينا الرئيس " تمبل باي" ديكتاتور تشاد الأول فطردنا من تشاد. لكننا عزمنا على إستئناف بحثنا من السودان لأن الزغاوة يقيمون بين البلدين و لا يعرفون الحدود السياسية بين تشاد و السودان.و من ذلك التاريخ بدأت علاقتنا مع السودان و مع السودانيين الذين رحبوا بنا و أحسنوا وفادتنا و أثاروا إهتمامنا بالسودان فيما وراء موضوع الزغاوة.(3)،و صار السودان بالنسبة لي بمثابة الواحة التي أستريح عندها في رواحي البحثي بين تشاد و إثيوبيا.
من ذلك التاريخ توطدت علاقتي بجوزيف و ماري جوزي توبيانا عبر سلسلة من اللقاءات و المساهمات المتبادلة.ذات مساء هاتفني ليقول لي برنة أسى صادق أن عبدالله الطيب قد توفي دون أن يعرف عنه البحاث الأفريقانيون في فرنسا أي شيء، و أنه من الضروري إستغلال المناسبة وعمل شيء لتعريف البحاث الفرنسيين بعبد الله الطيب كمثقف أفريقي ذي مساهمة جليلة في فضاء الثقافة الأفريقية المعاصرة.فكتبت له نصا تعريفيا بعبدالله الطيب نشره في نشرة" الجمعية الفرنسية للتنمية و البحث العلمي لشرق أفريقيا"(4)..
و أهمية جوزيف توبيانا في مشهد الأنثروبولوجيا الفرنسية هو أنه "من جيل البحاث الأفريقانيين الذين عبروا اللحظات التاريخية الحرجة التي تقاطعت فيها أقدار التجربة الإستعمارية و الحرب العالمية الثانية و حروب التحرر من الإستعمارو التحولات الإجتماعية في العالم الثالث في فترة ما بعد الحرب الثانية.و هي تجربة تكسب عملهم ثقلا تاريخيا يفتقر إليه جيل البحاث الأصغر سنا الذين أنجزوا مساراتهم البحثية ضمن إطار من الإستقرار العام.و قد إنطبعت تجربة جوزيف توبيانا منذ البداية بتجربة الحياة في الجزائر حيث تسنى له، من سني يفاعته الأولى، أن يعايش بشكل لصيق المعاناة من التفرقة التي عرفها الجزائريون سنوات الهيمنة الإستعمارية مثلما عايش في سني شبابه في فرنسا سنوات القهر أيام الإحتلال النازي لفرنسا في عهد فيشي.و قد حمل توبيانا هذه التجارب في متاعه الفكري و هو يعمل مع ذلك النفر من المثقفين الفرنسيين الذين انخرطوا بنشاط في الجدال حول ضرورة مساهمة الغرب بشكل جاد في تنمية الدول حديثة الإستقلال.كما حمل تجربته السياسية في متاعه كباحث أنثروبولوجي."(ب. كاسياري).
الحديث عن جوزيف توبيانا طويل.و قد أترجم للقراء و المهتمين بعض المقاطع من الحوار الذي أجرته معه ب. كاسياري لما يحتوي عليه من تفاكير شيقة في مسائل التعليم و التنمية و الإثنولوجيا في أفريقيا.و قد قصدت من هذه الكليمة أن أحمل للصحاب و القراء خبر رحيل صديق و باحث مهم في مشهد العلاقة الفرنسية السودانية.
كان من المقدّر أن يلتقي عدد من أصدقاء جوزيف توبيانا و زملاءه و تلاميذه في قاعة " الصالون " بالمعهد الوطني للغات و الحضارات الشرقية" بباريس ، الساعة الخامسة و النصف بعد ظهر يوم الثلاثاء 19 ديسمبر و ذلك لتقديم كتاب الأستاذة لدوين كابتيينس عن تاريخ المساليت. و شاءت الأقدار أن يتحول هذا اللقاء من مجرد مناسبة أكاديمية إلى منعى لهذا الشيخ الباحث الذي لم يفارق هم البحث حتى في لحظة الرحيل النهائي.كان البحث دينه الأول و الأخير، هذا العلماني الباسل الذي سيتبسّم في حكمة حين يتأنى عند جثمانه أصدقاءه المسلمون (من تشاد) و المسيحيون و اليهود( الفلاشة) ( من أثيوبيا) ليطلبوا له الرحمة كل من إلهه.و كل بلسانه.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
Lidwien Kapteijns, Mahdisme et Tradition au Dar For
Histoire de Massalit 1870- 1930,Ed. L’ Harmattan, Paris 2006
The Long Walk,VI
Lors du travail de terrain il faut être comme un poisson dans l’ eau »,Entretien avec Joseph Tubiana, Extrait de Nomadic People , N.S. 2004 , Vol 8(2)
Les Orientalistes sont des aventuriers, textes réunis par A. Rouaud, sépia- aresae, 1999
(3) و لماري جوزي و جوزيف توبيانا مساهمة كبيرة في أدبيات تاريخ و أنثروبولوجيا الزغاوة بدأت بكتابهما المشترك:
The Zaghawa from an Ecological Perspective,AA. Balkema/Roterdam/ 1977
و لماري جوزي توبيانا أعمال مهمة منها
Contes Zaghawa, 1961
Survivances Préislamiques en Pays Zaghawa, Institut d’ Ethnologie, Musée de l’ Homme, 1964.
Des Troupeaux et des Femmes, Mariage et transfers de biens chez les Beri ( Zaghawa et Bideyat) du Tchad et du Soudan)
Editions L’Harmattan, 1985
Un Patriote Tundjur :
Le Faki Adam Ab- Tisheka, CNRS, Laboratoire Peiresc, 1981
(4)
Nouvelles de l’ARESAE ; N° 146, Janvier 2004
Abdallah At-Tayyeb, 1921-2003,
Un intellectuel Soudanais, Par Hassan Musa
حزنت هذا الصباح لرحيل صديقنا و أستاذنا العالم الإنثروبولوجي و الألسني الجليل" جوزيف توبيانا"، أثر نوبة قلبية لم تمهله طويلا.و ندمت لأني إنشغلت بأمور الدنيا عن مهاتفته الأسبوع الماضي لتشقيق الكلام في واحدة من الونسات الطويلة التي نخوض فيها في كل شيئ: نعيد تنظيم السودان و أفريقيا و العالم العربي و أوروبا و أمريكا ولا يضيرنا أن ننزلق من موضوع لآخر بأسلوب " دو كوك آلان"(و ترجمتها الحرفية: من الديك للحمار) كما يعبر أهلنا الفرنسيس.
كنت أنوي شكره على تقريظه لكتابيّ المصوّرين الأخيرين (" ست إفتكار" و " جنازة الفيل"). كما كانت في خاطري أسئلة في خصوص الترجمة المشتركة( مع جنفييف دافو) للفرنسية التي أنجزاها لكتاب الأستاذة الهولندية" ليدوين كابتيينس":" العقيدة المهدية و التقليد السوداني في دارفور، تاريخ سلطنة المساليت 1870- 1930"( نشر لهارماتان 2006)(1). و كان الكتاب قد نشر بالإنجليزية في 1985 بواسطة مركز الدراسات الأفريقية في لايدن. و الأستاذة ليدوين كابتيينس مؤرخة ومستعربة و أفريقانيةعملت بالبحث الميداني في السودان بدار المساليت و درّست في جامعة الخرطوم و تعمل حاليا بتدريس التاريخ الأفريقي في وليزلي كوليج بالولايات المتحدة.و كتابها محاولة جادة للتأريخ لسلطنة المساليت تتكامل ضمنها الروايات الشفهية مع الوثائق المكتوبة.كنت أريد أن أشكر جوزيف توبيانا كونه برّني بهذا الكتاب الكبير بالذات في هذه الفترة التي تجعلنا فيها الأحداث الدامية في السودان نكتشف قلة حيلتنا المعرفية و هشاشة معلوماتنا عن أهلنا الغبش الذين ننخرط في الدفاع عنهم ضد جور الأستبداد و آيات القهر و الإستعلاء و نحن لا ندري من أمرتاريخهم و ثقافاتهم سوى النذر اليسير.
و في نفس الوقت كانت عندي بضعة تفاكير و تساؤلات في خصوص تجربته كأثنولوجي أفريقاني من جيل البحاث الفرنسيين الذين سعوا لتصحيح العقيدة الأخلاقية للإثنولوجيا و إنتزاع المبحث الإثنولوجي من أيدي سدنة الإستعمار في فضاء المبحث الأفريقاني. و هي تفاكير عنـّت لي من قراءة مقابلة طويلة أجرتها معه الباحثة الإثنولوجية " باربارا كاسياري" أستاذة الإنثروبولوجي بجامعة باريس 8.(2) و أظنني كنت أرجئ ونستي لعطلة نهاية العام و في زاوية الخاطر أمل بسفرة قصيرة لباريس لزوم النزهة الثقافية و لقاء الأصدقاء.لكن الموت " حق" مثلما هو" باطل" في آن.فقد رحل جوزيف توبيانا و تركني مع أسئلتي و تفاكيري و معكم و جلكم لم يقرأ له أو يسمع به.
و تقديم" جوزيف توبيانا"،( الجزائر 1919 – باريس 2006)، لمن لم يلتق به أمر عسير، كونه من طينة الرجال متعددي الغوايات بين الفن و اللغات و الإثنولوجيا والسياسة. فهو أحد قلائل من العارفين باللغات الأثيوبية معرفة متخصصه أهلته لتدريس اللغة الأمهرية في أم المؤسسات الأكاديمية الفرنسية المنفتحة منذ أكثر من قرن على دراسات العالم غير الأوروبي :" المعهد الوطني للغات و الثقافات الشرقية"(إنالكو).
لكن الكلام عن جوزيف توبيانا لا يكون بغير " ماري جوزي توبيانا " زوجته و زميلته في المبحث الأفريقاني منذ مطلع الخمسينات.فبعد إستكمال عمله الميداني في إثيوبيا في 1950. إنطلق مع ماري جوزي توبيانا في مبحث مهم و مركزي في حياتهما الأكاديمية حول الزغاوة بين تشاد و السودان.
و حكاية توبيانا مع السودان طريفة و عامرة بالدروس و العبر.ففي نهاية الثمانينات كنت أبحث عن أكاديميين على معرفة بالسودان لإستكمال هيئة المحكمين التي كان علي أن أدافع أمامهاعن أطروحتي في صدد التحول في المراجع الثقافية من خلال حالة تاريخ الفن المعاصر في السودان.و كنت قد نجحت في جمع بعض المختصين بالتاريخ و سوسيولوجيا الفن ، لكن مديرة بحثي ، نصحتني بأن أبحث عن أكاديمي يعرف السودان.و في ذلك الوقت كانت تلك مهمة صعبة لأن المختصين بالسودان القلائل تقاعدوا أو عتذروا بأن موضوع تاريخ الفن المعاصر في السودان بعيد تماما عن دائرة إهتمامهم.و هدتني الظروف للقاء جوزيف توبيانا و اكتشفت أنه يعرف السودان و أخذ يسألني عن مآل أصدقاءه في الخرطوم (الأساتذة محمد عمر بشير و يوسف فضل حسن و آخرين).أذكر انني سألته عما دفع به للسودان فقال: كنا نعمل على بحث عن الزغاوة في تشاد مع ماري جوزي. و لسبب من الأسباب غضب علينا الرئيس " تمبل باي" ديكتاتور تشاد الأول فطردنا من تشاد. لكننا عزمنا على إستئناف بحثنا من السودان لأن الزغاوة يقيمون بين البلدين و لا يعرفون الحدود السياسية بين تشاد و السودان.و من ذلك التاريخ بدأت علاقتنا مع السودان و مع السودانيين الذين رحبوا بنا و أحسنوا وفادتنا و أثاروا إهتمامنا بالسودان فيما وراء موضوع الزغاوة.(3)،و صار السودان بالنسبة لي بمثابة الواحة التي أستريح عندها في رواحي البحثي بين تشاد و إثيوبيا.
من ذلك التاريخ توطدت علاقتي بجوزيف و ماري جوزي توبيانا عبر سلسلة من اللقاءات و المساهمات المتبادلة.ذات مساء هاتفني ليقول لي برنة أسى صادق أن عبدالله الطيب قد توفي دون أن يعرف عنه البحاث الأفريقانيون في فرنسا أي شيء، و أنه من الضروري إستغلال المناسبة وعمل شيء لتعريف البحاث الفرنسيين بعبد الله الطيب كمثقف أفريقي ذي مساهمة جليلة في فضاء الثقافة الأفريقية المعاصرة.فكتبت له نصا تعريفيا بعبدالله الطيب نشره في نشرة" الجمعية الفرنسية للتنمية و البحث العلمي لشرق أفريقيا"(4)..
و أهمية جوزيف توبيانا في مشهد الأنثروبولوجيا الفرنسية هو أنه "من جيل البحاث الأفريقانيين الذين عبروا اللحظات التاريخية الحرجة التي تقاطعت فيها أقدار التجربة الإستعمارية و الحرب العالمية الثانية و حروب التحرر من الإستعمارو التحولات الإجتماعية في العالم الثالث في فترة ما بعد الحرب الثانية.و هي تجربة تكسب عملهم ثقلا تاريخيا يفتقر إليه جيل البحاث الأصغر سنا الذين أنجزوا مساراتهم البحثية ضمن إطار من الإستقرار العام.و قد إنطبعت تجربة جوزيف توبيانا منذ البداية بتجربة الحياة في الجزائر حيث تسنى له، من سني يفاعته الأولى، أن يعايش بشكل لصيق المعاناة من التفرقة التي عرفها الجزائريون سنوات الهيمنة الإستعمارية مثلما عايش في سني شبابه في فرنسا سنوات القهر أيام الإحتلال النازي لفرنسا في عهد فيشي.و قد حمل توبيانا هذه التجارب في متاعه الفكري و هو يعمل مع ذلك النفر من المثقفين الفرنسيين الذين انخرطوا بنشاط في الجدال حول ضرورة مساهمة الغرب بشكل جاد في تنمية الدول حديثة الإستقلال.كما حمل تجربته السياسية في متاعه كباحث أنثروبولوجي."(ب. كاسياري).
الحديث عن جوزيف توبيانا طويل.و قد أترجم للقراء و المهتمين بعض المقاطع من الحوار الذي أجرته معه ب. كاسياري لما يحتوي عليه من تفاكير شيقة في مسائل التعليم و التنمية و الإثنولوجيا في أفريقيا.و قد قصدت من هذه الكليمة أن أحمل للصحاب و القراء خبر رحيل صديق و باحث مهم في مشهد العلاقة الفرنسية السودانية.
كان من المقدّر أن يلتقي عدد من أصدقاء جوزيف توبيانا و زملاءه و تلاميذه في قاعة " الصالون " بالمعهد الوطني للغات و الحضارات الشرقية" بباريس ، الساعة الخامسة و النصف بعد ظهر يوم الثلاثاء 19 ديسمبر و ذلك لتقديم كتاب الأستاذة لدوين كابتيينس عن تاريخ المساليت. و شاءت الأقدار أن يتحول هذا اللقاء من مجرد مناسبة أكاديمية إلى منعى لهذا الشيخ الباحث الذي لم يفارق هم البحث حتى في لحظة الرحيل النهائي.كان البحث دينه الأول و الأخير، هذا العلماني الباسل الذي سيتبسّم في حكمة حين يتأنى عند جثمانه أصدقاءه المسلمون (من تشاد) و المسيحيون و اليهود( الفلاشة) ( من أثيوبيا) ليطلبوا له الرحمة كل من إلهه.و كل بلسانه.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
Lidwien Kapteijns, Mahdisme et Tradition au Dar For
Histoire de Massalit 1870- 1930,Ed. L’ Harmattan, Paris 2006
The Long Walk,VI
Lors du travail de terrain il faut être comme un poisson dans l’ eau »,Entretien avec Joseph Tubiana, Extrait de Nomadic People , N.S. 2004 , Vol 8(2)
Les Orientalistes sont des aventuriers, textes réunis par A. Rouaud, sépia- aresae, 1999
(3) و لماري جوزي و جوزيف توبيانا مساهمة كبيرة في أدبيات تاريخ و أنثروبولوجيا الزغاوة بدأت بكتابهما المشترك:
The Zaghawa from an Ecological Perspective,AA. Balkema/Roterdam/ 1977
و لماري جوزي توبيانا أعمال مهمة منها
Contes Zaghawa, 1961
Survivances Préislamiques en Pays Zaghawa, Institut d’ Ethnologie, Musée de l’ Homme, 1964.
Des Troupeaux et des Femmes, Mariage et transfers de biens chez les Beri ( Zaghawa et Bideyat) du Tchad et du Soudan)
Editions L’Harmattan, 1985
Un Patriote Tundjur :
Le Faki Adam Ab- Tisheka, CNRS, Laboratoire Peiresc, 1981
(4)
Nouvelles de l’ARESAE ; N° 146, Janvier 2004
Abdallah At-Tayyeb, 1921-2003,
Un intellectuel Soudanais, Par Hassan Musa
في الطبقة المتكنّـزة داخل رخام الواقع
ملاحظات في " الطبقة" المتكنـّزة داخل رخام الواقع
أومحـّيط بوردي)
............... .
" إنت " مولاكم" بورديو دا قريتو؟؟؟"
سألني " الشاب " مازن مصطفى هذا السؤال المتبوع بثلاث علامات استفهام ،أظن أن الغرض منها التأكيد على دهشته، كون كتاب مولانا بورديو المعنون في العربية بـ " العقلانية العلمية" فلت من نهم القراءة الذي توسمه في شخصي الضعيف.
لا و الله يا مازن، هذا الكتاب لم أقرأه ، و أنا آسف كوني خيبت توقعاتك فأنا لا أقرا أي شيء" من طرف ".و ذلك لسبب بسيط هو أن فعل القراءة ،في مشهدي مشروع. أعني مشروع معرفي خياراته محكومة بنوع الأسئلة التي تنطرح عليّ فأعرّف عليها أولويات القراءة. و من يدري فقد أنقلب يوما على الخواجة لوتريامون بتاعك دا أو على ميلان كونديرا، أو حتى على لورد بايرون هيمسيلف، فأقرأهم قراءة رشيدة لو وقعوا تحت طائلة مشروعي المعرفي، و" كل شي في الحيا جايز". ولمعلوميتك يا مازن: شوية الكتب التي قرأتها لمولانا بورديو لا تتعدى أصابع اليد الواحدة ، و هي بين آثاره التي تعالج سوسيولوجيا الثقافة و تداخلات الآيديولوجيا وعلم الجمال في مشهد صراع الطبقات، و حتي قراءتي المتواضعة لبورديو هي في الحقيقة قراءة متفاوتة لأنني و إن كنت أقرأه بإنتباه معقول في أغلب الأحوال ، إلا أني لا أخفي حقيقة كوني أجدني في بعض المواضع أقفز فوق الأسطر التي تعالج التفاكير التي لا خلاف عليها بيننا أو تلك التي لا تهمني حين أجدها مغرقة في حرفية صناعة السوسيولوجي.أقول هذا و أنا أحفظ في خاطري هامشا لإحتمال أن أقرأ لمولانا بورديو مزيدا من آثاره ـ و قيل كلها ـ لو إقتضى مشروعي ذلك، و لو تيسرت لي فسحة في المجال و شيء من استقرارا الحال، فأتعقبه و لو دخل في جحر ضب خرب .. و هيهات . و أقول" هيهات "لأن كتابة بورديو لا تخلو من وعورة أسلوبية بيّنة ، و هي وعورة أسلوبية مردّها ، ربما كان، في ضيق وسيلة اللغة المتاحة له عن استيعاب تركيب الفكرة، فكرته المشدودة بين أقطاب السوسيولوجيا و الفلسفة و السياسة و علم الجمال ـ بالذات في هذا الكتاب الذي تكونت معظم نصوصه من تسجيل المحاضرات التي ألقاها في أوقات متفرقة ـ، و ربما كان مردّها أيضا في تحسّب بورديو نفسه من مزالق الأسـْلـَبـَة الأدبية على وضوح العبارة العلمية ، ناهيك عن قلة حيلتي أنا نفسي كقارئ وافد على الفرنسية من لغة ما زالت تقيم في ضواحي لغات الحداثة.
لكن يا مازن ، بعد دا كلو، في أسئلة معرفية في حتت غميسة بورديو "ظاتو" ما عندو فيها دبارة. ليه؟ لأنها ببساطة خارج حدود مشروعه المعرفي.سؤال زي سؤال علاقة الأداة بالمنهج في منظور المشروع الجمالي التشكيلي أنا أقول فيه لمولانا بورديو: يا مولانا أقعد أسمع و شوف.و يقعد و يسمع و يشوف.شفت كيف؟
حكى النور حمد مرة أن الأستاذ محمود أوصى الجمهوريين بقولة فحواها:
Don’t r’ead the good books, read the best !
و هي من نوع العبارات القواطع التي تبقى في الذاكرة بمكيدة الشكل الأدبي. كون صدر العبارة يلتئم بعجزها على تناقض مركب يبدأ من النهي عن القراءة الذي يخلق توترا ( زائفا) في خاطر القارئ ـ المفترض أنه شغوف بالقراءة ـ لينتهي في نوع من " هابي إند"، لا تخلو من مداهنة حبيبة للقارئ، كونها تنبهه إلى أهليته الفكرية العالية، التي تجعله يتمنـّع على الكتب الجيدة ،لأنه يستحق الكتب الممتازة.
هذه العبارة المنسوبة للأستاذ محمودـ و أقول " المنسوبة " لأنني قرأتها من قبل منسوبة لأحد أعلام الأدب الإنكليزي ـ و قيل ج. بيرنارد شو( كان ما نخاف الكضب) ـ تغمرني بالتساؤلات كلما تذكرتها، كونها تصطنع تراتبا رأسيا للمعارف، في شكل سلـّم أسفله الكتب العادية ، و وسطه الكتب الجيدة و أعلاه الكتب الممتازة. و لابد أن في قمة هرم الكتب الممتازة كتاب واحد يحتوي على خلاصة المعارف هو " الكتاب" المعرّف بالألف و اللام.و لو سألت أصدقائي الجمهوريين عن هذا" الكتاب" لقالوا بلا تردد : هو القرآن.و لا جناح عليهم و لا حاجتين.فهم على سنة الكتابيين من أتباع موسى و عيسى لا يعرفون كتابا غير " الكتاب" ،" و ما فرّطنا في الكتاب من شيئ". و موضوعة المعارف الكتابية التي تحيل القارئ ـ بصرف النظر عن مقتضيات مشروعه المعرفي ـ إلى حكمة ناجزة مكتملة مكنونة في بطون الكتب الممتازة ، أو في بطن" الكتاب " النهائي، هي موضوعة دينية صلدة عبرت المعتقدات الدينية والنظريات العلمانية، المادية منها و المثالية ،بإطمئنان كبير و ألهمت أهل الثقافات المكتوبة آيات الأستعلاء الجاهل تجاه أهل الثقافات المروية، كما سوّغت للدوغمائيين الماركسيين أن يمسخوا نصوص ماركس و أنجلز إلى نوع أيقوني مغلق ممتنع على النقد.و ثمة قولة مشهودة منسوبة لمولانا جان بول سارتر في ما معناه: لقد عشت في عالم النصوص دهرا حتى بت أتصور أن لا عالم خارج النصوص.و قولة سارترـ الفيلسوف المهموم بالواقع الحي والناقد التشكيلي و هاوي الموسيقى ( و الرسم و الموسيقى يقيمان خارج عالم النص) ـ تلخص إشكالية النص كمخاطرة وجودية يتنكبها من يتصدى لإدراك ظواهر الوجود عبر إمكانات النص.
نهايتو،أظن أن " الكتب الجيدة" و " الكتب الممتازة" إنما تكسب صفات الجودة و الإمتياز كفاحا من واقع قدرتها على توفير الإجابات على الأسئلة التي تطرحها على القارئ خصوصية مشروعه المعرفي.و في نهاية التخليل فكل كتاب هو " كتاب ممتاز" من اللحظة التي يجد القارئ فيها ضالته بين دفتيه.و إذا كان " سيد الرايحة " يملك أن " يفتح خشم البقرة" فمن باب أولى كتابها.و لأهل الهند قراءات في كتاب البقرة.
" إنت " مولاكم" بورديو دا قريتو؟؟؟"
رحم الله الخواجة بوريس فيان ،الفنان و الشاعر و الموسيقي الفرنسي الذي قال مرة :الأشياء القليلة التي أعرفها أدين بها لإقراري بجهلي.
أها يا مازن سؤالك دا حفزني أمشي أنبش رف بورديو في المكتبة العامة لمّن لقيت الكتاب، و قعدت أقرأ الإقتطاف مقطوع الطاري الإنت جايبو كشاهد على دحض بورديو لموضوعة " وجود الطبقة".
تقول في إقتطافك ، عن بيير بورديو:
" ان النظرية الماركسية تقترف خطأ يماثل تماما الخطأ الذي فضحه كانط في الدليل الأنطولجي أو هو عين الخطأ الذي أخذه ماركس عن هيجل: انه يقفز " قفزة مميتة" من الوجود نظريا إلى الوجود العملي أو ،كما جاء في مقولة لماركس: "من أشياء المنطق إلى منطق الأشياء"..
"بيير بورديو،، العقلانية العملية، ط أكتوبر 1994"
صفحة كم يا شاب؟
و الطبعها منو طبعة أكتوبر 1994 دي؟
و بعدين الترجمها منو؟
و أنا بوجّه ليك الأسئلة دي عشان حكاية إنك تكون مقتطف النص بتاعك بالعربي من طبعة أكتوبر 1994 دي ما وقعت لي ، لأنو دا تاريخ صدور الطبعة الأولى بالفرنسية ، و أستبعد أن يكون كتاب بورديو صدر بالعربية و الفرنسية في نفس الشهر.
و بعدين يا" شاب" ـ و ده الأهم ـ الترجمة العربية للمقتطف فيها خلل يفسد المعنى الوارد في الأصل الفرنسي لبورديو.
و أنا أترجم نص بورديو الفرنسي كما يلي:
"النظرية الماركسية تقترف خطأ يماثل الخطأ الذي دحضه كانط في البرهان الكينوني( "الأونطولوجي" لو شئت) أو هو يماثل الخطأ الذي أخذه ماركس على هيجل:إنه يقفز" قفزة مميتة" من الوجود في حال الممارسة النظرية إلى الوجود في حال الممارسة العملية، او، حسب عبارة ماركس، " من أشياء المنطق إلى منطق الأشياء"
Pierre Bourdieu, Raisons Pratiques, sur la théorie de l’ action,Editions du Seuil,Octobre 1994, p.27.
.( و بمناسبة " الأونطولوجي"
ontologie
أقول:" لو شئت" لأني أفضل عبارة " الكينوني" على زعم أن عبارة " الأنطولجي" في رسم العربية تملك أن تلتبس بـ " أنطولوجي"
anthologie
التي تترجم في معنى المختارات الأدبية أ و الموسيقية).
قلت أن الترجمة العربية لنص بورديو مختلة و مكمن الخلل هو أن عبارة مولانا بورديو التي تقول:
" الخطأ الذي أخذه ماركس على هيجل"
« ..ou à celle que Marx lui-même reprochait à Hegel »
إنمسخت ، في إقتطافك، بقدرة قادر، إلى
" الخطأ الذي أخذه ماركس عن هيجل".و حين نقرأ إقتطافك نفهم أن ماركس هو الذي يقفز " قفزة مميتة"" من الوجود نظريا الى الوجود العملي " و دي يا مازن دايره ليها "محـّيط" تاني من طرف ماركس. شفت كيف؟.و لكي لا نطيل أقول: لو كان الإنمساخ مجرد تصحيف من طرفك فسنضايره لك ( بعد أن تعتذر) و نضيفه لحساب الطلاشة الشبابية العايرة فينا اليومين دي،و لو كان الخطأ في الترجمة العربية للكتاب الذي اقتطفت منه أنت النص العربي فالرماد كال حماد و بورديو و ماركس و اتحاد السودان الشبابي زاتو ، خصوصا إذا كان النص إياه هو الترجمة العربية الوحيدة المتاحة لقراء العربية.
لكن دا كلـّو كوم و فهمك لكلام بورديو " حول وجود الطبقة " كوم تاني.
تقول ،في كلامك المسبوق بمقدمة لم أفهم ضرورتها في منطق المناقشة ، ناهيك عن حشو القفشات المبهمة الذي تلبّك به كلامك بعبارات لا تلزم غيرك مثل:
"هنا ( و لإعتبارات الإشتراك المجاني و موضوع الكتابة) حنهتم بس بالدليل الأنطولجي"
أو
"أما محاولة استخراج " وجود " من " فكر" دي فتلقوها عند الباقر( و للباقر صاحبنا ـ المرتبط بالمقولة ـ حكاوي) "
ونوع الكلام دا يا مازن اسمو: كلام الطير في "الباقر".( صاحبكم).
نهايتو، لو رجعنا لخلاصة كلامك، و لو أشحنا النظر عن " شرح العنقريب" في دحض الدليل الأنطولوجي، فأنت تكتب:
"..يرى مولاكم بورديو أن الماركسية تقترف خطأ" يماثل " خطأ الدليل الأنطولجي " " عندما قالت بوجود الطبقات...."
فأنت تتصور أن بورديو ينكر" و جود الطبقات"، و هذا رجم بالغيب في حق الرجل الذي أفنى عمره لتقعيد مفهوم صراع الطبقات المعاصر على مقعد النقد في بلد مثل فرنسا ، سدنة الفكر المحافظ فيه يستغفرون و يعوذلون و يحوقلون كلما وقعوا على نص لماركس.
و يا مازن كدي " أسمع النكلمك ضحى":
مولانا بورديو لا ينكر " وجود الطبقات" و لا ينبغي له ، و مساهمته النقدية ـ كسوسيولوجي مسترشد بأدب ماركس ـ إنما تقوم على نقد المفهوم التبسيطي للطبقة كظاهرة خارج التاريخ. و هو المفهوم الذي كرّسه نفر من الماركسيين ـ و غير الماركسيين ـ من رهط التبسيطيين الذين استغنوا عن تركيب ظواهر الواقع الإجتماعي بجملة من الكليشيهات التقريبية لعلم الإجتماع البورجوازي .
و لو عدنا لنص بورديو على ضوء عبارة سالم موسى المشهودة:
" الحقيقة تبدو و لا تكون "، فالطبقة عند بورديو" تبدو و لا تكون".و هي تبدو لكل ناظر حسب زاوية النظر التي يختارها ضمن حساب المصالح و المطالح المادية و الرمزية.و في منظور تناقضات المصالح الطبقية يحصل الفرز بين السوسيولوجيا المتحالفة مع رأس المال و سوسيولوجيا بورديو التي تتحرّي تجليات الصراع الطبقي بين ثنايا الفكر السياسي البورجوازي بما فيه تياره المتسربل بسرابيل الماركسية .أقول لو عدنا لنص بورديو في أصله.أعني في كتابه" العقلانية العملية، حول نظرية الممارسة"، و بالذات في الجزء المعنون : " منطق الطبقات" لقرأنا تحت عنوان " منطق الطبقات"( و أخطاء الترجمة المحتملة عهدتي):
" إن بناء المجال الإجتماعي، الذي ينطرح، كواقع غير منظور و غير ملموس ، رغم أنه ينظّم ممارسات و تمثـّلات الذوات الفاعلة ضمنه ،بناء هذا المجال الإجتماعي يعني أننا نعطي أنفسنا، في الوقت نفسه، إمكانية بناء " طبقات نظرية" منسجمة بقدر الإمكان ، و ذلك من وجهة نظر عاملين حتميين رئيسيين على صعيد الممارسات و كل المواصفات التي تترتب عليها.و عليه ينطرح مبدأ التصنيف كموقف تفسيري: لأنه لا يقتصر على وصف مجمل الحقائق المصنفة، و لكن ، على نحو العارفين بالصـِّنـَافة ( الـ " تاكسينومي" : علم التصنيف)في مجالات العلوم الطبيعية ،فمبدأ الصنافة يرتبط بالخصائص الجوهرية لموضوع التصنيف، و التي هي ، بالتعارض مع الإختلافات الظاهرة للتصنيف الرديئ ، تتيح استنباط الخصائص المغايرة، و التي تفرز و تجمّع الذوات الفاعلة الأكثر تماثلا فيما بينها و الأكثر إختلافا من أعضاء الطبقات المغايرة المجاورة أو المستبعدة.
لكن صلاحية التصنيف المتحصّل نفسها لا تخلو من مخاطرة ، كونها تغري الباحث بالتعامل مع الطبقات الموجودة في حال المصنفات النظرية ،و هو حال خيالي لا يوجد إلا على الورق، تغريه بإعتبارها طبقات واقعية، أي مجموعات حقيقية موجودة ضمن ملكوت الواقع الملموس.
و هذا الخطر ، خطر إنمساخ الواقع الحي تحت تأثير صلاحية التصنيف النظري،يتفاقم بقدر ما ينجح البحث النظري في إكساب التقسيم النظري الماثل في " التمييز" الإجتماعي نوعا من المطابقة مع الفرز الحقيقي في المجالات الأكثر تباينا، بل و المجالات غير المألوفة تماما، من مجالات الممارسة العملية." ( ص 25).
هذا التعارض بين " اشياء المنطق" النظري إلى" منطق أشياء الواقع العملي ـ و هو بعض من ميراث ماركس عليه السلام ـ هو خلاصة هذا النص الذي قدمه بورديو كمحاضرة أمام جمهور من الباحثين اليابانيين في جامعة توداي في أكتوبر 1989.و قد نبه بورديو المستمعين في استهلال المحاضرة إلى ضرورة الإنتباه لمخاطر الإنسياق الغافل وراء هوى المنطق ضد معطيات الواقع الحي:
" لو كنت يابانيا فلا بد أنني كنت سأكره معظم الأشياء التي يكتبها غير اليابانيين عن اليابان.".." و عليه فلا تتوقعوا مني أن أحدثكم عن " الحساسية اليابانية" أو عن " السر" الياباني أو " المعجزة " اليابانية"( ص 15)، فكأنه يشير من طرف خفي لـما يمكن أن نطلق عليه " نظرية اليابان"، التي تسوّغ للأوروبيين أن يختلقوا ما يحلو لهم في صدد صورة يابان أزلي ثابت لا يدركه التحوّل و لا يطاله التاريخ. و قس على ذلك "نظرية أفريقيا" التي تسوغ للأفريقانيين الحديث عن أفريقيا خارج التاريخ أو" نظرية الإسلام" التي يبني عليها أهل الإسلامولوجيا النصرانية أكثر المفاهيم بعدا عن واقع المسلمين أو " نظرية المرأة " أو " نظرية الشرق" إلخ.
إن الطبقة عند ماركس ـ حسب التعريف الذي يورده بورديو(ص 26)، هي " مجموعة متحركة عموما نحو غاية مشتركة مثلما هي متحركة ضد طبقة أخرى."لكن هذا التعريف لا يشفي الغليل كونه يبقى في حدود التعميم الفضفاض.و قد تساءل كثيرون من دارسي ماركس عن السر في كون ماركس لم يقدم تعريفا محددا ناجزا للطبقة.و جهد بورديو النقدي يسعى للإجابة على هذا السؤال من واقع خبرة السوسيولوجي الذي يقارب مفهوم الطبقة ـ أو " نظرية الطبقة " ـ ضمن صيرورة" المجال الإجتماعي".(و هو ماسماه مترجم مازن بـ " المكان الإجتماعي")
يقول بورديو :
" إن الطبقات النظرية التي أؤسس لها قابلة لأن تتخلّق كطبقات في المعنى الماركسي للعبارة، أكثر من أي تصانيف نظرية أخرى كتصانيف الجنس أو العرق إلخ. و لو كان في عزمي ـ كزعيم سياسي ـ تأسيس حزب كبير يجمع أصحاب العمل و العمال معا، فإن فرصي في النجاح جد ضئيلة.و ذلك لأن أصحاب العمل و العمال يبقون على تباعد كبير داخل المجال الإجتماعي.رغم أنهم ، تحت ملابسات معينة ، تحت شروط أزمة وطنية، يمكن لهم أن يتقاربوا على أسس وطنية أو شوفينية.لكن هذا التقارب يبقى سطحيا و مؤقتا.و لا يعني هذا المثال أن التقارب على صعيد المجال الإجتماعي يخلق الوحدة ضربة لازب.التقارب داخل المجال الإجتماعي يعرّف إمكانية موضوعية للوحدة.أو ، لو شئنا الكلام بطريقة ليبنيتز فهو يعرف " ميل للوجود" الجمعي، كـ طبقة محتملة.إن النظرية الماركسية تقترف خطأ يماثل الخطأ الذي دحضه كانط في البرهان الكينوني ، أو هو يماثل الخطأ الذي أخذه ماركس على هيجل:إنه يقفز" قفزة مميتة" من الوجود في حال الممارسة النظرية إلى الوجود في حال الممارسة العملية، او، حسب عبارة ماركس، " من أشياء المنطق إلى منطق الأشياء".
و من المفارقات أن ماركس ـ الذي فاق كل المنظرين في العناية بـ تأثير النظرية، ذلك التأثير السياسي الخالص الذي ينطوي على بذل" الواقع" الذي لم يخرج تماما من رحم الغيب موضوعا للنظر ـ غفل عن تسجيل هذا التأثير في نظريته...فلا يمكن المرور من حال الطبقة على الورق لحال الطبقة في " الواقع" إلا من خلال عمل سياسي تعبوي : الطبقة "الواقعية"، إن قدّر لها أن توجد " واقعيا"، فهي ليست سوى الطبقة المتحققة، المعبأة سياسيا،كخلاصة " للصراع الصنافي" [.وحتى إشعار آخر، لا أجد عبارة أفضل من " الصراع الصنافي " لترجمة عبارة بورديو المحيرة :
« la lutte des classements »
]
كصراع رمزي ( و سياسي) محض ، لفرض رؤية إجتماعية للعالم، أو حتى، منهج في بناء هذا العالم ، على صعيد المفهوم و على صعيد الواقع، ولبناء الطبقات التي يمكن أن يقسّم عليها.
و وجود الطبقات ، على صعيد النظرية أو بالذات على صعيد الواقع ، إنما هو ، فيما خبرنا، محصلة صراعات.و هنا تقيم العقبة الرئيسية أمام المعرفة العلمية للعالم الإجتماعي و أمام حل مشكلة الطبقات الإجتماعية (و الحل موجود على كل حال). إن إنكار وجود الطبقات، كما اجتهد فيه التقليد المحافظ، و باسم حجج ليست كلها عبثية على الدوام ، ( و كل بحث طيب النية يمكن أن يقابل مثل هذه الحجج في طريقه) إنما يعني، في التحليل النهائي،إنكار وجود الإختلافات و إنكار مبادئ الفرز. و هذا عين ما يفعله ـ و بمفارقة بيّنة من واقع استخدامهم لمصطلح الـ طبقة ـ من يدّعون اليوم أن مجتمعات من شاكلةالمجتمع الأمريكي و المجتمع الياباني أو حتى المجتمع الفرنسي ، لم تعد تمثل غير " طبقة وسطى " واسعة.( لقد وجدت في تحقيق أن 80 بالمئة من اليابانيين يقولون بإنتماءهم لـ "الطبقة الوسطى".).و هو موقف لا يطاق بداهة. وكل مبحثي يوضح أن الإختلاف معمّم في كل شيء في بلد يقال عنه أيضا أنه بسبيل تحقيق المساواة و تمثـّل الديموقراطية إلخ .و في الولايات المتحدة اليوم ، لا يمر يوم دون أن ينشر بحث جديد يعرض الإختلاف في المواضع التي تمنـّى فيها البعض رؤية التجانس، كما يعرض النزاع في المواضع التي فيها أراد البعض رؤية الوفاق، و إعادة الإنتاج و الحفظ في موضع الحركة. و عليه فـ الإختلاف ( و هو ما أعبر عنه في حديثي عن المجال الإجتماعي) موجود و مؤكّد.فهل يعني ذلك قبول أو تأكيد وجود الطبقات؟ لا.فالطبقات الإجتماعية لا توجد( حتى و لو كان العمل السياسي المتأثر بنظرية ماركس إستطاع المساهمة ، في بعض الحالات ،في إكسابها وجودا ، على الأقل من خلال مؤسسات التعبئة و مفوضيات السياسة). و ما يوجد هو مجال إجتماعي، مجال من الإختلافات، ضمنه توجد الطبقة بطريقة ما في حال الإحتمال.بشكل تقريبي غير محدد المعالم لا بوصفها معطى مكتمل و إنما بوصفها مشروعا قيد التحقق.
و بعد هذا،يبقى القول بأنه إذا كان العالم الإجتماعي، بتقسيماته،ينطرح كمشروع قيد التحقق الفردي و الجمعي خصوصا، بجهد الذوات الإجتماعية الفاعلة ضمن مسار التعاون و التنازع ، فإن جهد البناء لا يتحقق على الفراغ الإجتماعي كما يتهيأ لبعض أنصار المنهج الإثنولوجي:
إن الموقع المتخذ ضمن المجال الإجتماعي، أي في بنية توزيع أنواع الرساميل المختلفة ، و التي هي أيضا أسلحة، إنما يتحكم في تمثلات هذا المجال و في المواقف التي ترمي إلى صيانتة أو تحويله.
و لتلخيص هذه العلاقة المركبة بين البنيات الموضوعية و المفاهيم الذاتية، و التي تتمركز فيما وراء البدائل العادية لموضوعات الموضوعية و الذاتية و لموضوعات البنيوية و التركيبية، بل و حتى فيما وراء موضوعات المادية و المثالية. أقول :كثيرا ما طاب لي أن أستشهد بعبارة الفيلسوف باسكال المشهودة ، بعد تحويرها بعض الشيئ:" إن العالم يحتويني و يبتلعني كأنني نقطة لكني أفهمه."[ وعبارة باسكال تلعب على إزدواجية المعني في عبارة
comprendre
التي تعني في آن "أحتويه" و" أفهمه"].و المجال الإجتماعي يحتويني كما النقطة، لكن هذه النقطة هي زاوية نظر وموقع إستشراف من نقطة محددة في المجال الإجتماعي.زاوية نظر ضمن منظور معرّف، في شكله و في محتواه، بالموقع الموضوعي الذي يتم منه النظر.إن المجال الإجتماعي هو الواقع الإبتدائي و النهائي طالما هو الذي يتحكم في تمثلات الذوات الإجتماعية الفاعلة."(ص 29)
و حين يقول بورديو " الطبقات لا توجد" يستولي أصحاب القراءة المغرضة على عبارته مقطوعة من سياقها ، بطريقة "لا تقربوا الصلاة"، و يؤسسون عليها نهاية الصراع الطبقي ، و قيل " نهاية الآيديولوجيا" بالمرة و كفى الله المؤمنين شر القتال.لكن بورديو حين يقول : " الطبقات لا توجد" فهو يعني إستحالة وجود الطبقات خارج سياق ـ و لو شئت قلت " صياغ" ـ " المجال الإجتماعي".(و كفاءة "صياغ" هنا تكمن في كونها تجسّر المسافة بين الصياغة النظرية و السياق المادي للممارسة ، ويمكن القول أن وجود الطبقة عند بورديو ينطرح كمشروع " صياغ" نظري و تعبوي. شكرا يا جريفاوي) .
إن وجود الطبقة ، بل و وجود المجال الإجتماعي نفسه ،أمور غير ممكنة بدون جهد نظري تحفزه و تغذيه مصلحة وجودية طبقية.فالطبقة و المجال الإجتماعي في مشهد بورديو ـ و في مشهدي ـ تبدو( و لا تكون) كظواهر كامنة في جسم الواقع الإجتماعي كما يبدو التمثال للنحات في جسم الرخام،أو كما قال سيدنا مايكل أنجلو بوناروتي كرّم الله وجهه: حين يقع نظري على كتلة الرخام الخام أرى تمثالي كامنا فيها، وبعدها ـ( بعد النظر ، و لو شئت قلت بعد " النظرية") ـ يقتصر عملي على تخليص تمثالي من الرخام الذي يلبكه..طبعا نظرة (نظرية) مايكل أنجلو التي تمكنه من النفاذ إلى التمثال داخل كتلة الرخام الخام ، في حين لا يرى غيره من أصحاب النظر الغشيم أي حضور آخر بخلاف كتلة الرخام، هذه النظرة العالمة هي نتاج تدريب و تحصيل وتقصّي طويل أهّلها لرؤية ما لا يراه عامة النظارة.و هنا، في منطقة النظر المؤهل يلتقي بورديو بمايكل أنجلو و بغيره من أهل النظر النـّفـّاذ.لكن فضل بورديو على مايكل أنجلو يبقى في طبيعة المشروع الذي يعمل عليه.فمايكل أنجلو يسعى وراء تمثاله الكامن في الرخام حتى يتملكه كمنجز مادي. في حين أن بورديو يعمل على تعريف الطبقة و جسمها (المتخيل و الواقعي) لا يني يتفلـّت و يتقلّب من حال إلى حال ضمن خامة "مجال إجتماعي" تاريخي متحوّل بطبيعته.( يعني عايرة و أدوها سوط).
هذا الكلام عن علاقة مفهوم النظر/ النظرية بموضوعات الطبقة و المجال الإجتماعي يحتاج لتمحيص و فلفلة أكثر حتى نقف على قيمة مساهمة مولانا بيير بورديو في مشهد الصراع الطبقي المعاصر ، بعيدا عن التبسيط وأنواع سوء الفهم العفوي و الإرادي مما يتربص بنا جميعا( و لا أستثني نفسي ) و نحن نتحاور في أحوال مجالنا الإجتماعي.و من أمثلة التبسيط و سوء الفهم، يا مازن ، كلامك البتقول لي فيهو :
"أمشي أقرا بورديو ـ برضو ـالعقلانية العملية.. في الفصل الأول البتكلم فيهو عن استبدال مفهوم الطبقة" التخيلي" بمفهوم " المكان الإجتماعي" الأكثر قدرة على توصيل علاقات مستويات السلطة ببعضها ..".و أنت حين تستخدم عبارة " إستبدال مفهوم الطبقة إلخ" فكأنك فهمت عن بورديو أنه يعارض "مفهوم الطبقة" بـ " مفهوم المكان الإجتماعي" و بورديو لم يعارض مفهوم الطبقة بمفهوم المكان الإجتماعي ، و لم يتطرق أبدا إلى " إستبدال" مفهوم بمفهوم ،(و لا ينبغي له )، و كلامه واضح في أن الأمر أمر" علاقة" مركبة متحولة بين المفهومين.فالطبقة توجد كامنة (ماديا) ،و " في حال الإحتمال"( نظريا) ضمن المجال الإجتماعي الذي هو جملة من الإختلافات المادية و الرمزية. و هذه العلاقة، علاقة الطبقة مع المجال الإجتماعي تظل رهينة بنوعية النظرة/ النظرية التي قد تملك ـ أو لا تملك حسب المصلحة ـ التأسيس للطبقة( نظريا) و تعبئتها (سياسيا) كطبقة واقعية متميزة بمشروعها.
سلام للجميع
حسن موسى
أومحـّيط بوردي)
............... .
" إنت " مولاكم" بورديو دا قريتو؟؟؟"
سألني " الشاب " مازن مصطفى هذا السؤال المتبوع بثلاث علامات استفهام ،أظن أن الغرض منها التأكيد على دهشته، كون كتاب مولانا بورديو المعنون في العربية بـ " العقلانية العلمية" فلت من نهم القراءة الذي توسمه في شخصي الضعيف.
لا و الله يا مازن، هذا الكتاب لم أقرأه ، و أنا آسف كوني خيبت توقعاتك فأنا لا أقرا أي شيء" من طرف ".و ذلك لسبب بسيط هو أن فعل القراءة ،في مشهدي مشروع. أعني مشروع معرفي خياراته محكومة بنوع الأسئلة التي تنطرح عليّ فأعرّف عليها أولويات القراءة. و من يدري فقد أنقلب يوما على الخواجة لوتريامون بتاعك دا أو على ميلان كونديرا، أو حتى على لورد بايرون هيمسيلف، فأقرأهم قراءة رشيدة لو وقعوا تحت طائلة مشروعي المعرفي، و" كل شي في الحيا جايز". ولمعلوميتك يا مازن: شوية الكتب التي قرأتها لمولانا بورديو لا تتعدى أصابع اليد الواحدة ، و هي بين آثاره التي تعالج سوسيولوجيا الثقافة و تداخلات الآيديولوجيا وعلم الجمال في مشهد صراع الطبقات، و حتي قراءتي المتواضعة لبورديو هي في الحقيقة قراءة متفاوتة لأنني و إن كنت أقرأه بإنتباه معقول في أغلب الأحوال ، إلا أني لا أخفي حقيقة كوني أجدني في بعض المواضع أقفز فوق الأسطر التي تعالج التفاكير التي لا خلاف عليها بيننا أو تلك التي لا تهمني حين أجدها مغرقة في حرفية صناعة السوسيولوجي.أقول هذا و أنا أحفظ في خاطري هامشا لإحتمال أن أقرأ لمولانا بورديو مزيدا من آثاره ـ و قيل كلها ـ لو إقتضى مشروعي ذلك، و لو تيسرت لي فسحة في المجال و شيء من استقرارا الحال، فأتعقبه و لو دخل في جحر ضب خرب .. و هيهات . و أقول" هيهات "لأن كتابة بورديو لا تخلو من وعورة أسلوبية بيّنة ، و هي وعورة أسلوبية مردّها ، ربما كان، في ضيق وسيلة اللغة المتاحة له عن استيعاب تركيب الفكرة، فكرته المشدودة بين أقطاب السوسيولوجيا و الفلسفة و السياسة و علم الجمال ـ بالذات في هذا الكتاب الذي تكونت معظم نصوصه من تسجيل المحاضرات التي ألقاها في أوقات متفرقة ـ، و ربما كان مردّها أيضا في تحسّب بورديو نفسه من مزالق الأسـْلـَبـَة الأدبية على وضوح العبارة العلمية ، ناهيك عن قلة حيلتي أنا نفسي كقارئ وافد على الفرنسية من لغة ما زالت تقيم في ضواحي لغات الحداثة.
لكن يا مازن ، بعد دا كلو، في أسئلة معرفية في حتت غميسة بورديو "ظاتو" ما عندو فيها دبارة. ليه؟ لأنها ببساطة خارج حدود مشروعه المعرفي.سؤال زي سؤال علاقة الأداة بالمنهج في منظور المشروع الجمالي التشكيلي أنا أقول فيه لمولانا بورديو: يا مولانا أقعد أسمع و شوف.و يقعد و يسمع و يشوف.شفت كيف؟
حكى النور حمد مرة أن الأستاذ محمود أوصى الجمهوريين بقولة فحواها:
Don’t r’ead the good books, read the best !
و هي من نوع العبارات القواطع التي تبقى في الذاكرة بمكيدة الشكل الأدبي. كون صدر العبارة يلتئم بعجزها على تناقض مركب يبدأ من النهي عن القراءة الذي يخلق توترا ( زائفا) في خاطر القارئ ـ المفترض أنه شغوف بالقراءة ـ لينتهي في نوع من " هابي إند"، لا تخلو من مداهنة حبيبة للقارئ، كونها تنبهه إلى أهليته الفكرية العالية، التي تجعله يتمنـّع على الكتب الجيدة ،لأنه يستحق الكتب الممتازة.
هذه العبارة المنسوبة للأستاذ محمودـ و أقول " المنسوبة " لأنني قرأتها من قبل منسوبة لأحد أعلام الأدب الإنكليزي ـ و قيل ج. بيرنارد شو( كان ما نخاف الكضب) ـ تغمرني بالتساؤلات كلما تذكرتها، كونها تصطنع تراتبا رأسيا للمعارف، في شكل سلـّم أسفله الكتب العادية ، و وسطه الكتب الجيدة و أعلاه الكتب الممتازة. و لابد أن في قمة هرم الكتب الممتازة كتاب واحد يحتوي على خلاصة المعارف هو " الكتاب" المعرّف بالألف و اللام.و لو سألت أصدقائي الجمهوريين عن هذا" الكتاب" لقالوا بلا تردد : هو القرآن.و لا جناح عليهم و لا حاجتين.فهم على سنة الكتابيين من أتباع موسى و عيسى لا يعرفون كتابا غير " الكتاب" ،" و ما فرّطنا في الكتاب من شيئ". و موضوعة المعارف الكتابية التي تحيل القارئ ـ بصرف النظر عن مقتضيات مشروعه المعرفي ـ إلى حكمة ناجزة مكتملة مكنونة في بطون الكتب الممتازة ، أو في بطن" الكتاب " النهائي، هي موضوعة دينية صلدة عبرت المعتقدات الدينية والنظريات العلمانية، المادية منها و المثالية ،بإطمئنان كبير و ألهمت أهل الثقافات المكتوبة آيات الأستعلاء الجاهل تجاه أهل الثقافات المروية، كما سوّغت للدوغمائيين الماركسيين أن يمسخوا نصوص ماركس و أنجلز إلى نوع أيقوني مغلق ممتنع على النقد.و ثمة قولة مشهودة منسوبة لمولانا جان بول سارتر في ما معناه: لقد عشت في عالم النصوص دهرا حتى بت أتصور أن لا عالم خارج النصوص.و قولة سارترـ الفيلسوف المهموم بالواقع الحي والناقد التشكيلي و هاوي الموسيقى ( و الرسم و الموسيقى يقيمان خارج عالم النص) ـ تلخص إشكالية النص كمخاطرة وجودية يتنكبها من يتصدى لإدراك ظواهر الوجود عبر إمكانات النص.
نهايتو،أظن أن " الكتب الجيدة" و " الكتب الممتازة" إنما تكسب صفات الجودة و الإمتياز كفاحا من واقع قدرتها على توفير الإجابات على الأسئلة التي تطرحها على القارئ خصوصية مشروعه المعرفي.و في نهاية التخليل فكل كتاب هو " كتاب ممتاز" من اللحظة التي يجد القارئ فيها ضالته بين دفتيه.و إذا كان " سيد الرايحة " يملك أن " يفتح خشم البقرة" فمن باب أولى كتابها.و لأهل الهند قراءات في كتاب البقرة.
" إنت " مولاكم" بورديو دا قريتو؟؟؟"
رحم الله الخواجة بوريس فيان ،الفنان و الشاعر و الموسيقي الفرنسي الذي قال مرة :الأشياء القليلة التي أعرفها أدين بها لإقراري بجهلي.
أها يا مازن سؤالك دا حفزني أمشي أنبش رف بورديو في المكتبة العامة لمّن لقيت الكتاب، و قعدت أقرأ الإقتطاف مقطوع الطاري الإنت جايبو كشاهد على دحض بورديو لموضوعة " وجود الطبقة".
تقول في إقتطافك ، عن بيير بورديو:
" ان النظرية الماركسية تقترف خطأ يماثل تماما الخطأ الذي فضحه كانط في الدليل الأنطولجي أو هو عين الخطأ الذي أخذه ماركس عن هيجل: انه يقفز " قفزة مميتة" من الوجود نظريا إلى الوجود العملي أو ،كما جاء في مقولة لماركس: "من أشياء المنطق إلى منطق الأشياء"..
"بيير بورديو،، العقلانية العملية، ط أكتوبر 1994"
صفحة كم يا شاب؟
و الطبعها منو طبعة أكتوبر 1994 دي؟
و بعدين الترجمها منو؟
و أنا بوجّه ليك الأسئلة دي عشان حكاية إنك تكون مقتطف النص بتاعك بالعربي من طبعة أكتوبر 1994 دي ما وقعت لي ، لأنو دا تاريخ صدور الطبعة الأولى بالفرنسية ، و أستبعد أن يكون كتاب بورديو صدر بالعربية و الفرنسية في نفس الشهر.
و بعدين يا" شاب" ـ و ده الأهم ـ الترجمة العربية للمقتطف فيها خلل يفسد المعنى الوارد في الأصل الفرنسي لبورديو.
و أنا أترجم نص بورديو الفرنسي كما يلي:
"النظرية الماركسية تقترف خطأ يماثل الخطأ الذي دحضه كانط في البرهان الكينوني( "الأونطولوجي" لو شئت) أو هو يماثل الخطأ الذي أخذه ماركس على هيجل:إنه يقفز" قفزة مميتة" من الوجود في حال الممارسة النظرية إلى الوجود في حال الممارسة العملية، او، حسب عبارة ماركس، " من أشياء المنطق إلى منطق الأشياء"
Pierre Bourdieu, Raisons Pratiques, sur la théorie de l’ action,Editions du Seuil,Octobre 1994, p.27.
.( و بمناسبة " الأونطولوجي"
ontologie
أقول:" لو شئت" لأني أفضل عبارة " الكينوني" على زعم أن عبارة " الأنطولجي" في رسم العربية تملك أن تلتبس بـ " أنطولوجي"
anthologie
التي تترجم في معنى المختارات الأدبية أ و الموسيقية).
قلت أن الترجمة العربية لنص بورديو مختلة و مكمن الخلل هو أن عبارة مولانا بورديو التي تقول:
" الخطأ الذي أخذه ماركس على هيجل"
« ..ou à celle que Marx lui-même reprochait à Hegel »
إنمسخت ، في إقتطافك، بقدرة قادر، إلى
" الخطأ الذي أخذه ماركس عن هيجل".و حين نقرأ إقتطافك نفهم أن ماركس هو الذي يقفز " قفزة مميتة"" من الوجود نظريا الى الوجود العملي " و دي يا مازن دايره ليها "محـّيط" تاني من طرف ماركس. شفت كيف؟.و لكي لا نطيل أقول: لو كان الإنمساخ مجرد تصحيف من طرفك فسنضايره لك ( بعد أن تعتذر) و نضيفه لحساب الطلاشة الشبابية العايرة فينا اليومين دي،و لو كان الخطأ في الترجمة العربية للكتاب الذي اقتطفت منه أنت النص العربي فالرماد كال حماد و بورديو و ماركس و اتحاد السودان الشبابي زاتو ، خصوصا إذا كان النص إياه هو الترجمة العربية الوحيدة المتاحة لقراء العربية.
لكن دا كلـّو كوم و فهمك لكلام بورديو " حول وجود الطبقة " كوم تاني.
تقول ،في كلامك المسبوق بمقدمة لم أفهم ضرورتها في منطق المناقشة ، ناهيك عن حشو القفشات المبهمة الذي تلبّك به كلامك بعبارات لا تلزم غيرك مثل:
"هنا ( و لإعتبارات الإشتراك المجاني و موضوع الكتابة) حنهتم بس بالدليل الأنطولجي"
أو
"أما محاولة استخراج " وجود " من " فكر" دي فتلقوها عند الباقر( و للباقر صاحبنا ـ المرتبط بالمقولة ـ حكاوي) "
ونوع الكلام دا يا مازن اسمو: كلام الطير في "الباقر".( صاحبكم).
نهايتو، لو رجعنا لخلاصة كلامك، و لو أشحنا النظر عن " شرح العنقريب" في دحض الدليل الأنطولوجي، فأنت تكتب:
"..يرى مولاكم بورديو أن الماركسية تقترف خطأ" يماثل " خطأ الدليل الأنطولجي " " عندما قالت بوجود الطبقات...."
فأنت تتصور أن بورديو ينكر" و جود الطبقات"، و هذا رجم بالغيب في حق الرجل الذي أفنى عمره لتقعيد مفهوم صراع الطبقات المعاصر على مقعد النقد في بلد مثل فرنسا ، سدنة الفكر المحافظ فيه يستغفرون و يعوذلون و يحوقلون كلما وقعوا على نص لماركس.
و يا مازن كدي " أسمع النكلمك ضحى":
مولانا بورديو لا ينكر " وجود الطبقات" و لا ينبغي له ، و مساهمته النقدية ـ كسوسيولوجي مسترشد بأدب ماركس ـ إنما تقوم على نقد المفهوم التبسيطي للطبقة كظاهرة خارج التاريخ. و هو المفهوم الذي كرّسه نفر من الماركسيين ـ و غير الماركسيين ـ من رهط التبسيطيين الذين استغنوا عن تركيب ظواهر الواقع الإجتماعي بجملة من الكليشيهات التقريبية لعلم الإجتماع البورجوازي .
و لو عدنا لنص بورديو على ضوء عبارة سالم موسى المشهودة:
" الحقيقة تبدو و لا تكون "، فالطبقة عند بورديو" تبدو و لا تكون".و هي تبدو لكل ناظر حسب زاوية النظر التي يختارها ضمن حساب المصالح و المطالح المادية و الرمزية.و في منظور تناقضات المصالح الطبقية يحصل الفرز بين السوسيولوجيا المتحالفة مع رأس المال و سوسيولوجيا بورديو التي تتحرّي تجليات الصراع الطبقي بين ثنايا الفكر السياسي البورجوازي بما فيه تياره المتسربل بسرابيل الماركسية .أقول لو عدنا لنص بورديو في أصله.أعني في كتابه" العقلانية العملية، حول نظرية الممارسة"، و بالذات في الجزء المعنون : " منطق الطبقات" لقرأنا تحت عنوان " منطق الطبقات"( و أخطاء الترجمة المحتملة عهدتي):
" إن بناء المجال الإجتماعي، الذي ينطرح، كواقع غير منظور و غير ملموس ، رغم أنه ينظّم ممارسات و تمثـّلات الذوات الفاعلة ضمنه ،بناء هذا المجال الإجتماعي يعني أننا نعطي أنفسنا، في الوقت نفسه، إمكانية بناء " طبقات نظرية" منسجمة بقدر الإمكان ، و ذلك من وجهة نظر عاملين حتميين رئيسيين على صعيد الممارسات و كل المواصفات التي تترتب عليها.و عليه ينطرح مبدأ التصنيف كموقف تفسيري: لأنه لا يقتصر على وصف مجمل الحقائق المصنفة، و لكن ، على نحو العارفين بالصـِّنـَافة ( الـ " تاكسينومي" : علم التصنيف)في مجالات العلوم الطبيعية ،فمبدأ الصنافة يرتبط بالخصائص الجوهرية لموضوع التصنيف، و التي هي ، بالتعارض مع الإختلافات الظاهرة للتصنيف الرديئ ، تتيح استنباط الخصائص المغايرة، و التي تفرز و تجمّع الذوات الفاعلة الأكثر تماثلا فيما بينها و الأكثر إختلافا من أعضاء الطبقات المغايرة المجاورة أو المستبعدة.
لكن صلاحية التصنيف المتحصّل نفسها لا تخلو من مخاطرة ، كونها تغري الباحث بالتعامل مع الطبقات الموجودة في حال المصنفات النظرية ،و هو حال خيالي لا يوجد إلا على الورق، تغريه بإعتبارها طبقات واقعية، أي مجموعات حقيقية موجودة ضمن ملكوت الواقع الملموس.
و هذا الخطر ، خطر إنمساخ الواقع الحي تحت تأثير صلاحية التصنيف النظري،يتفاقم بقدر ما ينجح البحث النظري في إكساب التقسيم النظري الماثل في " التمييز" الإجتماعي نوعا من المطابقة مع الفرز الحقيقي في المجالات الأكثر تباينا، بل و المجالات غير المألوفة تماما، من مجالات الممارسة العملية." ( ص 25).
هذا التعارض بين " اشياء المنطق" النظري إلى" منطق أشياء الواقع العملي ـ و هو بعض من ميراث ماركس عليه السلام ـ هو خلاصة هذا النص الذي قدمه بورديو كمحاضرة أمام جمهور من الباحثين اليابانيين في جامعة توداي في أكتوبر 1989.و قد نبه بورديو المستمعين في استهلال المحاضرة إلى ضرورة الإنتباه لمخاطر الإنسياق الغافل وراء هوى المنطق ضد معطيات الواقع الحي:
" لو كنت يابانيا فلا بد أنني كنت سأكره معظم الأشياء التي يكتبها غير اليابانيين عن اليابان.".." و عليه فلا تتوقعوا مني أن أحدثكم عن " الحساسية اليابانية" أو عن " السر" الياباني أو " المعجزة " اليابانية"( ص 15)، فكأنه يشير من طرف خفي لـما يمكن أن نطلق عليه " نظرية اليابان"، التي تسوّغ للأوروبيين أن يختلقوا ما يحلو لهم في صدد صورة يابان أزلي ثابت لا يدركه التحوّل و لا يطاله التاريخ. و قس على ذلك "نظرية أفريقيا" التي تسوغ للأفريقانيين الحديث عن أفريقيا خارج التاريخ أو" نظرية الإسلام" التي يبني عليها أهل الإسلامولوجيا النصرانية أكثر المفاهيم بعدا عن واقع المسلمين أو " نظرية المرأة " أو " نظرية الشرق" إلخ.
إن الطبقة عند ماركس ـ حسب التعريف الذي يورده بورديو(ص 26)، هي " مجموعة متحركة عموما نحو غاية مشتركة مثلما هي متحركة ضد طبقة أخرى."لكن هذا التعريف لا يشفي الغليل كونه يبقى في حدود التعميم الفضفاض.و قد تساءل كثيرون من دارسي ماركس عن السر في كون ماركس لم يقدم تعريفا محددا ناجزا للطبقة.و جهد بورديو النقدي يسعى للإجابة على هذا السؤال من واقع خبرة السوسيولوجي الذي يقارب مفهوم الطبقة ـ أو " نظرية الطبقة " ـ ضمن صيرورة" المجال الإجتماعي".(و هو ماسماه مترجم مازن بـ " المكان الإجتماعي")
يقول بورديو :
" إن الطبقات النظرية التي أؤسس لها قابلة لأن تتخلّق كطبقات في المعنى الماركسي للعبارة، أكثر من أي تصانيف نظرية أخرى كتصانيف الجنس أو العرق إلخ. و لو كان في عزمي ـ كزعيم سياسي ـ تأسيس حزب كبير يجمع أصحاب العمل و العمال معا، فإن فرصي في النجاح جد ضئيلة.و ذلك لأن أصحاب العمل و العمال يبقون على تباعد كبير داخل المجال الإجتماعي.رغم أنهم ، تحت ملابسات معينة ، تحت شروط أزمة وطنية، يمكن لهم أن يتقاربوا على أسس وطنية أو شوفينية.لكن هذا التقارب يبقى سطحيا و مؤقتا.و لا يعني هذا المثال أن التقارب على صعيد المجال الإجتماعي يخلق الوحدة ضربة لازب.التقارب داخل المجال الإجتماعي يعرّف إمكانية موضوعية للوحدة.أو ، لو شئنا الكلام بطريقة ليبنيتز فهو يعرف " ميل للوجود" الجمعي، كـ طبقة محتملة.إن النظرية الماركسية تقترف خطأ يماثل الخطأ الذي دحضه كانط في البرهان الكينوني ، أو هو يماثل الخطأ الذي أخذه ماركس على هيجل:إنه يقفز" قفزة مميتة" من الوجود في حال الممارسة النظرية إلى الوجود في حال الممارسة العملية، او، حسب عبارة ماركس، " من أشياء المنطق إلى منطق الأشياء".
و من المفارقات أن ماركس ـ الذي فاق كل المنظرين في العناية بـ تأثير النظرية، ذلك التأثير السياسي الخالص الذي ينطوي على بذل" الواقع" الذي لم يخرج تماما من رحم الغيب موضوعا للنظر ـ غفل عن تسجيل هذا التأثير في نظريته...فلا يمكن المرور من حال الطبقة على الورق لحال الطبقة في " الواقع" إلا من خلال عمل سياسي تعبوي : الطبقة "الواقعية"، إن قدّر لها أن توجد " واقعيا"، فهي ليست سوى الطبقة المتحققة، المعبأة سياسيا،كخلاصة " للصراع الصنافي" [.وحتى إشعار آخر، لا أجد عبارة أفضل من " الصراع الصنافي " لترجمة عبارة بورديو المحيرة :
« la lutte des classements »
]
كصراع رمزي ( و سياسي) محض ، لفرض رؤية إجتماعية للعالم، أو حتى، منهج في بناء هذا العالم ، على صعيد المفهوم و على صعيد الواقع، ولبناء الطبقات التي يمكن أن يقسّم عليها.
و وجود الطبقات ، على صعيد النظرية أو بالذات على صعيد الواقع ، إنما هو ، فيما خبرنا، محصلة صراعات.و هنا تقيم العقبة الرئيسية أمام المعرفة العلمية للعالم الإجتماعي و أمام حل مشكلة الطبقات الإجتماعية (و الحل موجود على كل حال). إن إنكار وجود الطبقات، كما اجتهد فيه التقليد المحافظ، و باسم حجج ليست كلها عبثية على الدوام ، ( و كل بحث طيب النية يمكن أن يقابل مثل هذه الحجج في طريقه) إنما يعني، في التحليل النهائي،إنكار وجود الإختلافات و إنكار مبادئ الفرز. و هذا عين ما يفعله ـ و بمفارقة بيّنة من واقع استخدامهم لمصطلح الـ طبقة ـ من يدّعون اليوم أن مجتمعات من شاكلةالمجتمع الأمريكي و المجتمع الياباني أو حتى المجتمع الفرنسي ، لم تعد تمثل غير " طبقة وسطى " واسعة.( لقد وجدت في تحقيق أن 80 بالمئة من اليابانيين يقولون بإنتماءهم لـ "الطبقة الوسطى".).و هو موقف لا يطاق بداهة. وكل مبحثي يوضح أن الإختلاف معمّم في كل شيء في بلد يقال عنه أيضا أنه بسبيل تحقيق المساواة و تمثـّل الديموقراطية إلخ .و في الولايات المتحدة اليوم ، لا يمر يوم دون أن ينشر بحث جديد يعرض الإختلاف في المواضع التي تمنـّى فيها البعض رؤية التجانس، كما يعرض النزاع في المواضع التي فيها أراد البعض رؤية الوفاق، و إعادة الإنتاج و الحفظ في موضع الحركة. و عليه فـ الإختلاف ( و هو ما أعبر عنه في حديثي عن المجال الإجتماعي) موجود و مؤكّد.فهل يعني ذلك قبول أو تأكيد وجود الطبقات؟ لا.فالطبقات الإجتماعية لا توجد( حتى و لو كان العمل السياسي المتأثر بنظرية ماركس إستطاع المساهمة ، في بعض الحالات ،في إكسابها وجودا ، على الأقل من خلال مؤسسات التعبئة و مفوضيات السياسة). و ما يوجد هو مجال إجتماعي، مجال من الإختلافات، ضمنه توجد الطبقة بطريقة ما في حال الإحتمال.بشكل تقريبي غير محدد المعالم لا بوصفها معطى مكتمل و إنما بوصفها مشروعا قيد التحقق.
و بعد هذا،يبقى القول بأنه إذا كان العالم الإجتماعي، بتقسيماته،ينطرح كمشروع قيد التحقق الفردي و الجمعي خصوصا، بجهد الذوات الإجتماعية الفاعلة ضمن مسار التعاون و التنازع ، فإن جهد البناء لا يتحقق على الفراغ الإجتماعي كما يتهيأ لبعض أنصار المنهج الإثنولوجي:
إن الموقع المتخذ ضمن المجال الإجتماعي، أي في بنية توزيع أنواع الرساميل المختلفة ، و التي هي أيضا أسلحة، إنما يتحكم في تمثلات هذا المجال و في المواقف التي ترمي إلى صيانتة أو تحويله.
و لتلخيص هذه العلاقة المركبة بين البنيات الموضوعية و المفاهيم الذاتية، و التي تتمركز فيما وراء البدائل العادية لموضوعات الموضوعية و الذاتية و لموضوعات البنيوية و التركيبية، بل و حتى فيما وراء موضوعات المادية و المثالية. أقول :كثيرا ما طاب لي أن أستشهد بعبارة الفيلسوف باسكال المشهودة ، بعد تحويرها بعض الشيئ:" إن العالم يحتويني و يبتلعني كأنني نقطة لكني أفهمه."[ وعبارة باسكال تلعب على إزدواجية المعني في عبارة
comprendre
التي تعني في آن "أحتويه" و" أفهمه"].و المجال الإجتماعي يحتويني كما النقطة، لكن هذه النقطة هي زاوية نظر وموقع إستشراف من نقطة محددة في المجال الإجتماعي.زاوية نظر ضمن منظور معرّف، في شكله و في محتواه، بالموقع الموضوعي الذي يتم منه النظر.إن المجال الإجتماعي هو الواقع الإبتدائي و النهائي طالما هو الذي يتحكم في تمثلات الذوات الإجتماعية الفاعلة."(ص 29)
و حين يقول بورديو " الطبقات لا توجد" يستولي أصحاب القراءة المغرضة على عبارته مقطوعة من سياقها ، بطريقة "لا تقربوا الصلاة"، و يؤسسون عليها نهاية الصراع الطبقي ، و قيل " نهاية الآيديولوجيا" بالمرة و كفى الله المؤمنين شر القتال.لكن بورديو حين يقول : " الطبقات لا توجد" فهو يعني إستحالة وجود الطبقات خارج سياق ـ و لو شئت قلت " صياغ" ـ " المجال الإجتماعي".(و كفاءة "صياغ" هنا تكمن في كونها تجسّر المسافة بين الصياغة النظرية و السياق المادي للممارسة ، ويمكن القول أن وجود الطبقة عند بورديو ينطرح كمشروع " صياغ" نظري و تعبوي. شكرا يا جريفاوي) .
إن وجود الطبقة ، بل و وجود المجال الإجتماعي نفسه ،أمور غير ممكنة بدون جهد نظري تحفزه و تغذيه مصلحة وجودية طبقية.فالطبقة و المجال الإجتماعي في مشهد بورديو ـ و في مشهدي ـ تبدو( و لا تكون) كظواهر كامنة في جسم الواقع الإجتماعي كما يبدو التمثال للنحات في جسم الرخام،أو كما قال سيدنا مايكل أنجلو بوناروتي كرّم الله وجهه: حين يقع نظري على كتلة الرخام الخام أرى تمثالي كامنا فيها، وبعدها ـ( بعد النظر ، و لو شئت قلت بعد " النظرية") ـ يقتصر عملي على تخليص تمثالي من الرخام الذي يلبكه..طبعا نظرة (نظرية) مايكل أنجلو التي تمكنه من النفاذ إلى التمثال داخل كتلة الرخام الخام ، في حين لا يرى غيره من أصحاب النظر الغشيم أي حضور آخر بخلاف كتلة الرخام، هذه النظرة العالمة هي نتاج تدريب و تحصيل وتقصّي طويل أهّلها لرؤية ما لا يراه عامة النظارة.و هنا، في منطقة النظر المؤهل يلتقي بورديو بمايكل أنجلو و بغيره من أهل النظر النـّفـّاذ.لكن فضل بورديو على مايكل أنجلو يبقى في طبيعة المشروع الذي يعمل عليه.فمايكل أنجلو يسعى وراء تمثاله الكامن في الرخام حتى يتملكه كمنجز مادي. في حين أن بورديو يعمل على تعريف الطبقة و جسمها (المتخيل و الواقعي) لا يني يتفلـّت و يتقلّب من حال إلى حال ضمن خامة "مجال إجتماعي" تاريخي متحوّل بطبيعته.( يعني عايرة و أدوها سوط).
هذا الكلام عن علاقة مفهوم النظر/ النظرية بموضوعات الطبقة و المجال الإجتماعي يحتاج لتمحيص و فلفلة أكثر حتى نقف على قيمة مساهمة مولانا بيير بورديو في مشهد الصراع الطبقي المعاصر ، بعيدا عن التبسيط وأنواع سوء الفهم العفوي و الإرادي مما يتربص بنا جميعا( و لا أستثني نفسي ) و نحن نتحاور في أحوال مجالنا الإجتماعي.و من أمثلة التبسيط و سوء الفهم، يا مازن ، كلامك البتقول لي فيهو :
"أمشي أقرا بورديو ـ برضو ـالعقلانية العملية.. في الفصل الأول البتكلم فيهو عن استبدال مفهوم الطبقة" التخيلي" بمفهوم " المكان الإجتماعي" الأكثر قدرة على توصيل علاقات مستويات السلطة ببعضها ..".و أنت حين تستخدم عبارة " إستبدال مفهوم الطبقة إلخ" فكأنك فهمت عن بورديو أنه يعارض "مفهوم الطبقة" بـ " مفهوم المكان الإجتماعي" و بورديو لم يعارض مفهوم الطبقة بمفهوم المكان الإجتماعي ، و لم يتطرق أبدا إلى " إستبدال" مفهوم بمفهوم ،(و لا ينبغي له )، و كلامه واضح في أن الأمر أمر" علاقة" مركبة متحولة بين المفهومين.فالطبقة توجد كامنة (ماديا) ،و " في حال الإحتمال"( نظريا) ضمن المجال الإجتماعي الذي هو جملة من الإختلافات المادية و الرمزية. و هذه العلاقة، علاقة الطبقة مع المجال الإجتماعي تظل رهينة بنوعية النظرة/ النظرية التي قد تملك ـ أو لا تملك حسب المصلحة ـ التأسيس للطبقة( نظريا) و تعبئتها (سياسيا) كطبقة واقعية متميزة بمشروعها.
سلام للجميع
حسن موسى
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)