الأربعاء، ٤ تموز ٢٠٠٧

سحر النـّوْبـَـنـَـة

سحر النـّوْبـَـنـَـة
الفنأفريقانية المصرية في مشهد حسّان الفنان




رُبّ صدفة و رُبّ وعْـد...

الزمان: أبريل 1999
المكان: الصالة الرئيسية للسوق العالمي لكتب الاطفال بمدينة بولونيا ( ايطاليا ).
الحدث : المعرض التشريفي لرسامي كتب الاطفال الافارقة.
دخلنا باتريسيا و أنا و الاطفال، و نحن نتحرك وسط الخلق و السحنات المتنوعة التي تجول في الصالة. و قبل أن نشرع في مشاهدة المعرض لمحته فجأة، و هو في عمق الصالة متأبطا" بورتفوليو" كبير ( مثل معظم المتجولين في المعرض) لا بد أنه يضم مشاريع للنشر ، ذلك أن معرض بولونيا هو " سوق " بالمعنى التجاري للعبارة يلتقي فيه الناشرون و الكتاب و الرسامون و تقنيو الطباعة و التربويون المهتمون بثقافة الطفل. قلت لباتريسيا:
" الزول الواقف هناك دا سوداني و أنا بعرفه"
.فاستغربت قولي واحتجت:
" انت كل ما تشوف زول أفريقي تقول دا سوداني"،
قلت لهاأن للسودانيين أسلوب في الحركة و في السكون يميزهم عن الكثيرين من خلق الله ( هذا باب للريح في أدب الجسد أسدّه مؤقتا حتى أخلص من حكاية حسان) ، وناديت بالصوت العالي :
" يا حسان".فالتفت مندهشا و أشرق وجهه بضحكة فتعانقنا وسط الصالة و تبادلنا التحايا و الاشواق و السؤال عن الاحوال بعربية جهيرة وسط زحمة الرطانات الاخرى و لم نبال ، ذلك أن انقطاعتنا كانت قد طالت لحوالي عقدين من الزمان.
عرفت منه أنه حضر قبلنا بيوم ليشارك في المعرض الذي يضم نماذج لأعمال 176 رساما أفريقيا ممن نشرت لهم كتب أطفال بين أفريقيا و أوروبا و أمريكا.تجولنا في المعرض و بعدها اقترحت عليه ان نعرض مشاريعه على ناشر " قراندير" الذي نشر لي كتبي، و كان حاضرا في المعرض. فذهبنا كلنا و عرّفنا حسان على" آلين" و" روني تورك" ،( و هم أصدقاء أعزاء يُعتدُّ بهم في كل معاني العبارة).قالت لي "آلين":" لقد لفت نظرنا عمله المعروض و حين وجدنا أنه من السودان تساءلنا عمّا اذا كنت تعرفه".
و نبهني حديث "آلين" الى تلك الايام في مطلع السبعينات حيث كانت دوائر الشبان و الشابات المهتمين بالفنون تتداخل بين كلية الفنون و معهد الموسيقى و المسرح و المسرح القومي و جامعة الخرطوم و نادي السينما و المعارض التشكيلية الخ.كان تداخل الغوايات و الحساسيات يطبع الحراك الثقافي في مجمله فقد كنا في كلية الفنون نباشر التشكيل كنشاط محوري دون أن تمنعنا محورية التشكيل من الانشغال بالمسرح و الموسيقى والفلسفة الخ.و كان الاصدقاء الوافدون من معهد الموسيقى و المسرح(محمد بلة ،و السني و تماضر والسر و عثمان علي الفكي و عكود و آخرين) يساهمون في حواراتنا التشكيلية و نشاطاتنا المسرحية بعفوية كبيرة دون أن يخطر ببال أحد التنبيه على تجاوز هؤلاء أو أولئك للحدود الرسمية بين فضاءات الخلق.في تلك الفترة عرفنا حسان بين نفر من طلاب جامعة الخرطوم( محمد عمر بشارة و صلاح حسن أحمد و الشقليني(بيكاسو) و صلاح حسن الجرّق و آخرين) من الذين انخرطوا بكليتهم في دروب الممارسة التشكيلية بالتوازي مع غوايات فكرية و ثقافية أخرى.و كنا نساهم في المعارض الجماعية و في الندوات و في العروض المسرحية و السينمائية الخ بطريقة جعلت منا شبكة واسعة مركّبة من الذوات المتضافرة على صيانة عصب الحداثة الثقافية كأسلوب في المعارضة السياسية.

صورة الفنان كعصامي
و كون حسان، كتشكيلي، لم يخرج من كلية الفنون فذلك أمر ما كنا نعيره أهمية أبدا.ذلك أننا خبرنا في كلية الفنون نفر من " الجماعة الطيبين" الذين قتلوا السنوات الطوال على مقاعد الدرس في كلية الفنون دون أن يعود عليهم ذلك بنفع أو بضرر يذكر،كما كان بيننا نفر من زملاءنا من " مطاريد " كلية الفنون الذين جعلهم الفصل التعسفي(السياسي) من الكلية أكثر حمية في الانشغال بشاغل الفن(هاشم م صالح و علاء الجزولي و آخرين).و خلاصة الامر هو أن حسان بيننا فنان تشكيلي قبل كل شيء ـ و ان كان يحمل بكالوريوس كلية الاقتصاد من جامعة الخرطوم (1976) و دبلوم عال من معهد التخطيط القومي بالقاهرة(1986) كمان ـ و الناظر في أعماله التشكيلية يجد نفسه في حضور مبدع كبير، تشهد أعماله عن تجربة جمالية غنية بالمباحث المتنوعة على أصعدة الخامات و الادوات و المساند التشكيلية.أو كما قال مرة ، في حوار له بجريدة" الخرطوم":
" الرسم و التلوين عندي تجربة ذاتية ، غير معزولة عن الهموم الحياتية الاخرى، و هي حوار و جدل بين ما أشاهده و ما أحسه، فهي اشكالية جدلية بين معرفتي و طريقة تعبيري. و لا تبدأ لوحتي من أفكار مسبقة و انما تنطلق من صور، و قد تبدأ بمساحات أو بقع لونية، خطوط متشابكة أو غير متشابكة، و تتطور من واقع الصراع مع الخامة و السطح حتى تصير شكلا.."( أنظر كتالوج " حسان علي أحمد 1980 ـ 1996" ).
و عبارة " واقع الصراع مع الخامة" هي بحق واحدة من العبارات المفاتيح في تجربة حسان التشكيلية.فجل أعماله تشهد عن هذا الصراع المحموم المتصل الذي يخوضه حسان بسبيل اكتشاف امكانات الخامة و قوانين الأدوات و تطويعها جميعا في خدمة غايات التصميم و تقعيد" الصورة" ، صورة الخيال ، على مسند الواقع المادي.و حسان يعي تماما أن " واقع الخامة" ينطوي على تاريخ طويل يمتد لقرون من التجارب التشكيلية لتشكيليين مختلفي المشارب. هذا الوعي يطرح على الفنان أكثر من تبعة جمالية و تقنية تجاه تاريخ الخامة و الاداة.و تلك مسؤولية كبيرة تصدى لها حسان ـ و ما زال يفعل ـ بمنطق البحث المضني المتصل الذي لا يغفل عن أي شاردة أو واردة يمكن أن تخصّب عمله التشكيلي.

و من واقع انشغاله بالتشكيل كبحث في الخامات و المساند و الادوات يدخل حسان على تصميم كتب الاطفال مسلحا بتجربته الطويلة الثرة كتشكيلي عصامي، و العصاميون في منطقة البحث المعرفي قوم يطرحون على أنفسهم أسئلة معينة و يتفرعون بكليتهم للبحث عن الاجابة المناسبة. و بحث العصامي ينمسخ في لحظة ما الى نوع من تحامل شخصي يتجاوز الاشتطاط ليدخل في منطقة الهوس المرضي ، ذلك لأن الباحث العصامي يتحرك ، منذ البداية ، في مساحة حرية بلا حدود.و على خلاف البحّاث النظاميين فالباحث العصامي غير ملزم بحدود برنامج مدرسي يرسم للتلاميذ النظاميين آفاق المبحث ضمن حدود برنامج المرحلة الدراسية. و قد أشار مولانا " امبيرتو ايكو" مرة ـ احسبها في " حرب الزيف" ـ ( مجموعة مقالات صدرت بالفرنسية تحت عنوان"
Umberto Eco
La Guerre du Faux, Grasset 1985/
الى الحظوة المميزة للبحاث العصاميين الذين يتمخض عنهم عصر التقنية الالكترونية.فالحاسوب يبذل للباحث المعاصر الجزء الاكبر من حصيلة المعلومات التي كانت في السابق وقفا على المؤسسات المدرسية .و يموضعه أمام كافة الاحتمالات التي يمكن أن يتطور عليها بحثة ( بما فيها احتمال اعادة اختراع العجلة). و قد أشار" ايكو" الى أن هذه الوضعية الجديدة للبحاث العصاميين المعزولين المنتثرين عبر شبكة النيت تطرح خطر احتمال انهيار الثقافة المنمّطة من خلال المؤسسات التعليمية الجمعية كالمدارس و الجامعات التي تصوغ المعارف بشكل يثبت في التجربة الجمعية جملة من المراجع و المناهج المشتركة بما يسوّغ لافراد المجتمع الاعتقاد بكونهم يتقاسمون نفس الثقافة.و هكذا يقدم ايكو الباحث العصامي الحر الذي يعمل خارج الاطر المدرسية النظامية كنوع من " بُعْبُع" منفلت من كل رقابة و قمين باجتراح ما قد يتهدّد تماسك و اتساق الثقافة الجمعية المنمطة التي توارثناها عبر المؤسسات التعليمية النظامية منذ قرون طويلة .و في نهاية تحليل ما ، تبدو الوضعية العصامية قدرا لا فكاك منه حتى بالنسبة لمن تخرجوا في المؤسسات التعليمية النظامية، ذلك أن مسارالباحث المتفرد الخلاق القادر على التطور لا بد أن ينتهي به الى دروب البحث الى تلك الارض البكر التي لم يرسم خرائطها أحد بعد.و هناك، حيث كل شيء جديد، يشعر الباحث الخلاق بوحشة لا تطاق و بعزلة قاتلة، لا عزاء منها الا في ثقة الباحث في كفاءة منهجه و في ايمانه( الديني) بصلاح غايته و جدواها.و لعل في هذا المصير" الموحش" بعض التفسير للواقع الذي يجعل اغلب البحّاث المدرسويين ينكصون عن البحث بمجرد انتهاء سنوات الدراسة النظامية ، و نيل الشهادة الأكاديمية (المبرّءة للذمة الطبقية.. و هيهات). و من هذا أخلص الى ان كل باحث متفرّد هو في النهاية عصامي مستوحش، مقيم على برزخ، بين ما كان و ما سيكون ، و" عسى أن تكرهوا شيئا..".



الهيروغلوفية الشخصية :
.ولعل مداومة حسان والحاحه المستميت على شاغل الخامة هو أهم ملمح يعقله المشاهد في تجربة حسان التشكيلية.و أنا لا أشتط حين أقول أن هَمْ استقصاء الخامة هو الذي أنقذ حسان من خطر الانزلاق في فخ الـ " فَـلْـكَرَة" السعيدة ( لو جازاشتقاقي من مادة فولكلور)
Folklorisation
و " الفلكرة" فخ مريح عامر بالمنافع و الامتيازات( السياسية) المهلكة التي محقت تجربة فنانين واعدين ممن حفّزتهم السلطات السياسية على الانخراط في مولد استلهام التراث القومي المحلي.و تنويهي لا يقتصر على حواريي" مدرسة الخرطوم" وحدهم ،أو على ذوي قرباهم الجمالية كالحروفيين العرب و العجم. فمدرسة الخرطوم ليست سوى حالة بين حالات عديدة في مناطق الموسيقى و الأدب و المسرح الخ. حيث يصطنع الفنان لنفسه سجنا وهميا، حيطانه العالية المصنوعة من تراث الاسلاف العرقيين، تحجب عنه مواريث الآخرين و منجزات العصر.واذا كان البحث المُـعَـرْقَـنْ ، في الخامة و في الصورة الايقونية ،ينمسخ عند الاستلهاميين" التقاليديين" لنوع من" نهاية مطاف" جمالي ، عنده يكرّس الفنان ذاته كحارس لتمائم الاسلاف العرقيين، فان البحث الحر الطليق يصبح عند حسان ثغرة ينفذ منها لفضاء الاختراع التشكيلي الرحيب.و حسان في هذا الموقف، موقف الباحث الأصيل، كمثل غول نهم واسع الاطلاع، يلتهم كل ما يطاله فضوله التشكيلي البصير و يهضمه و ينساه ليخرجه في صياغة شخصية متفردة و جديدة . و المتأمل لأعماله يكاد يقرأ عبرها جملة المصنفات التقنية والمراجع الايقونية المبذولة من فجر حركة الحداثة الاوروبية( كاندنسكي و بول كلي وماكس ارنست و شاغال و آخرين) لمحاولات التشكيليين العرب( المصري عبد الهادي الجزار و آخرين) والتشكيليين السودانيين ( صلحي و تاج السر و حسين شريف و كمالا و عبد الجابر بدري و آخرين) ، مرورا بالمصنفات و المراجع الشعبية الأوروبية و العربية و النوبية و الزنجأفريقانية و خلافه.و في " خلافه" أجد نوعا من الموتيفات الشعبية التي اختلقها حسان و ولّفها توليفا، من محض خياله التشكيلي، و دون أن يتمكن أحد من احالتها الى أي تقليد شعبي معروف، و هي الموتيفات التي لاحظها كل من" جوليا" و" توم كواش" من شعبة الفنون البصرية في الجامعة الامريكية بالقاهرة ضمن مقالتهما عن معرض حسان المنشورة في "مصر اليوم"
ووصفاها بكونها:" نوع من خربشات لغة أفريقية منسية أو ربما هي نسخة الفنان من هيروغلوفيتة الشخصية.."
(Julia & Tom Coach in Egypt Today, Jan. 1996)
.و هذه المنطقة الغميسة، منطقة" الهيروغلوفية الشخصية"، في فضاء حسان التشكيلي تظل عاطلة في عتمة الزاوية العمياء لنظر نقاده الاستلهاميين التقليديين، الذين ينطلقون في نقدهم عادة من معرفتهم المسبقة بحسان كشخص سوداني نوبي الاصل، ليرددوا نفس المفاهيم و الافكار" الكليشيهات" التي يمكن أن تسري على كل نوبي على الاطلاق.و هي في الغالب أفكار لا تخلو من شبهة الجمالية المعرقنة .

الفنأفريقانية المصرية :
و ربما كان لهذا الامر علاقة بصورة افريقيا في خيال المثقفين المصريين. ولـ " النوبة" في الخاطر الرمزي المصري مساحة أفريقانية عامرة بالاوهام و الاحلام التي تتمازج مع قدر من الحقائق و الهواجس التاريخية،و التي لابد أن البحاث، المصريون و النوبيون و غيرهم ، سينبرون لها حين يتوفر لهم براح للتأني عند صورة النوبي في سيكلوجية المجتمع المصري الحديث .و وراء صورة الفنان النوبي في الثقافة المصرية اشكالية" فنأفريقانية" و بلاوي عرقية يشيب لهولها الولدان، و الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه. و لأستاذنا و صديقنا ،الباحث المصري حلمي شعراوي، له دراسة شيقة ـ غير منشورة ـ بعنوان:
" صورة الافريقي لدى المثقف العربي ،
محاولة تخطيطية لدراسة ثنائية " قبول/استبعاد".( ورقة قدمت في مؤتمر الجمعية العربية لعلم الاجتماع ـ تونس ، سبتمبر 1996 ) . في هذه الدراسة يتقصّى حلمي شعراوي ظروف تأسيس صورة الافريقي في الخاطر العربي من خلال ثنائية " الصراع / الاستبعاد" ، و ثنائية "القبول/ الاستبعاد" في عصر الامبراطورية العربية الاسلامية ،وصولا لمرحلة الدولة الحديثة و التحرر الوطني من خلال ثنائية "التوافق / الاستبعاد " .و ديمومة محور" الاستبعاد" على تواتر "الصراع" و"القبول" و" التوافق " تجد بعض تفسيرها، عند حلمي شعراوي، في مفهوم " الفراغ " الحضاري الافريقي المترسّخ في خاطر معظم "المستفرقين" العرب. و "المستفرقين" تخريج موفّـق من حلمي شعراوي كونه يؤسس لقرابة أيديولوجية بين جمهرة من الافريقانيين العرب و آبائهم من المستشرقين الاوروبيين. هذا ال" فراغ الحضاري " الافريقي يعتبر عند نفر من المستفرقين المصريين المعاصرين بمثابة دعوة لمصر، " أم الدنيا"، لتؤدي دورها في قيادة القارة المظلمة نحو النور. و يكتب حلمي شعراوي عن ثنائية " التوافق / الاستبعاد" في عصر الاستقلال الوطني و حركة التحرر" أن الثورة الوطنية للاستقلال و التحرر في العالم العربي ارتبطت{ بالمواجهة مع الغرب} و{ الاستقواء ببلدان الجنوب }، و فرض ذلك { اعادة بناء الذات العربية} لكنها لم تفرض { اعادة النظر } في صورة الغرب أو صورة بلدان الجنوب" ( ص 43).و هكذا ظل" الطين في طينه و العبد في تركينه" عند ابناء الفلاحين الذين ورثوا جاه الخديوي.و يلاحظ حلمي شعراوي التضخم الاعلامي الذي لازم صعود الدولة الوطنية بعد الحرب العالمية الثانية في صدد موضوعات " الدور " و " الرسالة الحضارية" و" الواجب التحريري"." و هي ـ في تعبير حلمي شعراوي ـ مقابل بسيط للتبليغ" و " الرسالة الخاتمة" و " اقامة دار الاسلام بالجهاد ". و اقتضى ذلك عند بناة الذات العربية الصاعدة بناء صورة للآخر الافريقي" الفاقد للذاكرة".." و التابع لقوى أخرى حاليا ..".
" و في عام 1957 يصدر كتيب" فلسفة الثورة" عن قائدها في مصر ، متحدثا عن رسالة مصر في نقل الحضارة الى مجاهل القارة المظلمة و تحريرها من سيطرة خمسة مليون من البيض." (ص 44).
و يمضي شعراوي في تعرية المخازي العرقية لدى مستفرقي الطبقة الوسطى المصريةمن خلال مثال المؤرخ " حسين مؤنس" الذي يطرز على كانفا الزعيم ، عبر" كتابه الشهير " مصر و رسالتها" (1955)،و الذي طبع خمس طبعات بعد ذلك حتى عام 1975 ". يقول حسين مؤنس:
"ان مصر أم الدنيا و رسالتها هي نشر النور و السلام .. و فتحها فتح حضارة لا فتح سياسة ".."و قد كانت مصر دائما منبع الحضارة الافريقية و مصدرها.. فمن اتصل بمصر تحضّر و تقدّم ، و من لم يتّصل بقي في مكانه"( حسين مؤنس: مصر و رسالتها، مطبوعات الشعب ، الطبعة الحامسة ، القاهرة 1976 ، ص 47).
و يرى شعراوي أن" غياب انثروبولوجيا عربية محايثة" سوّغ لـ "مدرسة التاريخ" المحافظة و المرتاحة على حجر السلطات"من أن تتغول على أرض الدراسات الافريقية و تعيث فيها فسادا بلا رقيب أو حسيب، سيّما و تواطؤها السياسي يكسب لها قدرا معتبرا من " النفوذ في الثقافة العربية بمصر" .و يورد شعراوي (ص 45) نص حسن ايراهيم حسن عام 1957 عن الشعوب الزنجية التي استقبلت الرسالة:
" أما عن الثقافة الاسلامية فانه يمكننا أن نقول في اطمئنان أن هذه الثقافة كان طابعها عربيا صرفا، لم تداخله أي تأثيرات أخرى. و السبب واضح ،هو أن هذه الشعوب الزنجية، التي اعتنقت الاسلام و تشرّبت ثقافته العربية، لم تكن لها تقاليد ثقافية مثل تقاليد الايرانيين و الاغريق التي أثرت في الثقافة العربية في بيئات الشرق الادنى".." لكن هنا حـُملت الثقافة الى بلادهم و تقبلوها كما هي". و يقول حسن ابراهيم حسن في موضع آخر:
"ان الاسلام جاء بحضارة جديدة أتاحت للشعوب الزنجية طابعا حضاريا متميزا لا زال واضحا حتى اليوم و مؤثرا في نظمهم السياسية و الاجتماعية". ذلك أن الاسلام حمل الحضارة الى القبائل المتبربرة ... و أتاح للزنجي الاسود الفرصة لأن يصبح مواطنا حرا في عالم حر "( حسن ابراهيم حسن، انتشار الاسلام و العروبة في ما يلي الصحراء الكبرى شرقي القارة الافريقية و غربها، معهد الدراسات العربية، القاهرة 1957 ).
حين يرد حلمي شعراوي مثالب ما أسماه بـ " المدرسة التاريخية"، في أدب الاستفراق المصري الحديث، الى " غياب انثروبولوجيا عربية محايثة" ، فهو يكشف عن قدر معتبر من حسن الظن و من التفاؤل بقوم هم في حقيقتهم الفكرية مفارقين لهم البحث "فُراق الطريفي لجمله" ، بل هم على بعد فراسخ لا تحصى من موقف المؤرخ المحافظ الكلاسيكي. "مدرسة" ايه و" تاريخ" ايه يازول؟ ، ديل ناس ارزقية بيتعملوا بيزنيس الزيانة (السياسية) على رؤوس اليتامى في مجاهل جيوبوليتيك مصر الافريقانية.واذا كان وزنهم الاخلاقي صفر كبير، على يسار القيم الانسانية الكريمة التي يقوم عليها المجتمع المصري المقهور، فان وزنهم السياسي و حظوتهم داخل آلة البروباغاندا الرسمية تمكنهم من تسميم الرأي العام المصري ـ و أحيانا العربي ـ بمفاهيم و مقوّلات عجيبة معجونة بأوهام الاستعلاء العرقي العربسلامي.و هي مفاهيم تلقي بظلالها السلبية على صورة الافريقي الاسود في خاطر قطاع مهم من المصريين الخاضعين لتأثيرات البروباغاندا الرسمية.و لعل ابلغ مثال على حقيقة التأثير السلبي للبروباغاندا الرسمية على المصريين ،هو ما حدث أبان اعتصام اللاجئين السودانيين في ميدان حديقة مصطفى محمود بالقاهرة. و هو الاعتصام السلمي الذي انتهى بقتل قوات الشرطة المصرية للعشرات من اللاجئين العزل و اطفالهم، في هجمة بربرية غير مبررة على الاطلاق.و قد لاحظ المراقبون الحملة الاعلامية الخبيثة التي شنتها أجهزة الاعلام الرسمية على المعتصمين. و هي حملة لم تكن تهتم كثيرا بتمويه أبعادها العرقية مما لاحظه الكثيرون.جاء في بيان أصدرة " مركز الدراسات الاشتراكية " بالقاهرة( نشر في موقع سودان للجميع بتاريخ 31 ديسمبر ضمن بوست للتضامن مع اللاجئين السودانيين بمصر):
" لقد غذت الصحافة، و غذى النظام المصري النزعة العنصرية ضد السودانيين.حاولوا ، و للأسف نجحوا الى حد كبير، أن يبموا سدا منيعا بين السودانيين الذين يعانون الاضطهاد و بين المصريين الذين يعانون الفقر و القمع و الذل.".."حتى قوى المعارضة و نشطاء التغيير، سقط كثير منهم في الامتحان و لم يفعلوا ما يتوجّب على أي مناضل من أجل الحرية فعله: التضامن مع كل مضطهد ".
و ضمن هذا المشهد لا ينج الشخص النوبي ، مصريا كان او سودانيا، من شبهة النظر المستريب من طرف المواطنين العاديين المتأثرين بتربية آلة البروباغاندا السياسية الغاشمة.و ذلك لمجرد كونه حاضر بسحنته الافريقية و بهيئته المتواضعة.

. فالنوبي في مشهد مصر الطبقة الوسطى الحضرية يتمتع بوضعية " الآخر" بكل ما تنطوي عليه صفة الآخر من اسقاطات لصورة الكائن الافريقي" الاكزوتي" الغريب غير المفهوم و الضحيةو المظلوم، وقيل المشبوه المثير للمخاوف أحيانا .و بذريعة "النوبي" يختزل القوم كل تنوّع المبدع النوبي المعاصر،و يلخصونه كنوع من ناطق رسمي باسم التراث التشكيلي المفقود لثقافة أفريقية عريقة ابتلعها يم الحداثة الى الابد .أو قل هو مجرد ممثّـل للباقين من فلول أهله الذين بعثرهم الشتات التراجيدي المعاصر ايدي سبأ ألخ .. و هي، في نهاية تحليل ما، محاولة بائسة لنفي المبدعين ذوي الاصل النوبي لخارج دائرة المبادرة الثقافية المعاصرة،و ذلك على زعم ساذج فحواه أن النوبيون، كأقلية عرقية ظاهرة في مصر، هم بالضرورة " ناس في حالها" ،أي في شغل شاغل عن حال العالم كونهم عاكفين على شؤونهم الخاصة لا يتدخلون فيما لا يعنيهم ولا يزعجون أحدا(اقرأ لا يزعجون السلطات) . و قد يسمونهم" ممثلين" لأفريقيا كما حدث قبيل " مهرجان الثقافة السوداء"( فيستاك) بنيجيريا في 1976 ، حيث سعى بعض المسؤولين بوزارة الثقافة المصرية لتكوين الوفد المصري لمهرجان " فيستاك" لاغوس من اغلبية نوبية.و في ما وراء الاشكالية الثقافية التي يطرحها الحضور النوبي في الخيال الاجتماعي المعرقن لمصر الطبقة الوسطى ، فان مسعي تحميل النوبيين المسئولية الرمزية للقارة المظلمة ـ بذريعة السحنة السوداء ـ ينطوي على رغبة سرية غايتها اخراج مصر( البيضاء؟) من أفريقيا، و هي ستراتيجية عرقية قديمة أسسها نفر من المؤرخين العرقيين بالتضامن مع بعض الأفريقانيين الأوروبيين المحافظين ، الذين استكثروا على أفريقيا واقع التعدد الحضاري الذي يحشر الفراعنة في جملة الافارقة.و قد انخرط في هذا النزاع نفر من العلماء و المؤرخين السود البواسل ممن دفعوا بسواد الفراعنة و بينهم السنغالي" شيخ آنتا ديوب" و الامريكي" مارتن بيرنال"( أثينا السوداء)،
Martin Bernal ,Black Athena, the afroasiatic roots of classical civilization,Rutgers University Press, 1987.
. و هو نزاع يستحق التأني ضمن براح أوسع من هذه السطور التي أكتبها في تصاوير حسان.أقول قولي هذا و أقفل الاقواس في صدد سواد المصريين الذي يروّع الكثيرين بين سدنة النيوكولونيالية المتعولمة الذين يحسبون ألف حساب من عواقب انخراط مصرالاخرى، مصر التقدمية، بكل طاقاتها في حركة المقاومة و الاستقلال (الاقتصادي) ضد غيلان العولمة في" حرب القطن" المستعرة حاليا في أروقة " منظمة التجارة الدولية" في هونغ كونغ بين مزارعي القطن في افريقيا و مزارعي القطن في أمريكا( و من وراءهم تحالف الامبرياليات الشمال أمريكية و الاوروبية و الآسيوية).
و حين يكتب المؤرخ المصري،حسين مؤنس،في كتابه " مصر و رسالتها" أن " مصر منبع الحضارة الافريقية و مصدرها" فهو يتخذ سيماء المصري العربي المسلم الابيض الذي يحتل الارض الافريقية التي أخلاها المستعمر الاوروبي، و يفتحها" فتح حضارة" لينشر فيها" النور و السلام".يعني بالعربي حسين مؤنس يرث من المستعمرين خرافة " عبء الرجل الابيض" ليفصلها على مقاس الطموح السياسي لدولة الطبقة الوسطى المصريه في القارة الافريقية و يجعل منها خرافة جديدة اسمها " عبء الرجل المصري".و موقف حسين مؤنس من المسألة الافريقية يحرم مصر من صفتها الطبيعية كبلد" أفريقي" ليمسخها الى مجرد بلد" مستفرق" يتحدث عن الافارقة بضمير الغائب، و الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، و اسمعني يا خواجة يا محترم، مصر دي افريقية، و أهلها، سواء كانوا من نسل العرب أ والقبط أو النوبة أوالشوام أو الاتراك أو الاغريق أ و الطليان أو الهكسوس أو العرقسوس هم، في نهاية التحليل، افارقة أقحاح و ان تلونت جلودهم بتلاوين شتى.طبعا الخواجة المصري" حسين مؤنس" بعيد كل البعد من موقف السنغالي" الشيخ آنتا ديوب" و مصره الفرعونية السوداء.و الخلاف بين مصر آنتا ديوب و مصر حسين مؤنس يتعذر فهمه من زاوية التعارض بين وجهتين للنظر تحمل كل منهما رؤية تاريخانية متميزة.و ذلك لسبب بسيط يمكن تلخيصه في كون آنتا ديوب و حسين مؤنس لا يتحدثان عن نفس الموضوع.فآنتاديوب الباحث المؤرخ يتحدث على مشهد الدراسات التاريخية بينما حسين مؤنس يتحدث على مشهد البروباغاندا السياسية للنظام المصري الذي( كان؟) يطمح لقيادة القارة الافريقية ( بعد قيادة الامة العربية) من الظلمات الى النور.و في مقابلة ذكية بين المعارضة التي لقيتها أطروحات آنتا ديوب" المصرية" و القبول الذي حظيت به اطروحات ليوبولد سنغور " الزنوجية" المعادية للعرب،وسط الدوائر المصرية الرسمية، يكشف حلمي شعراوي عن البعد الجيوبوليتيكي المركب لاشكالية صورة الافريقي في مصر الطبقة الوسطى العربسلامية.
لاحظ " حلمي شعراوي"، في دراسته عن " صورة الافريقي لدى المثقف العربي"،
أن دراسة قبول و استبعاد شخصية مثل سنغور، وفق قبول العرب أو استبعادهم للسياسة الغربية في أفريقيا،جديرة بأن تكشف لنا عن ظروف آلية صناعة الصورة السياسية عند العرب لهذا " الآخر " أو ذاك، وفق حالة تحررهم او تبعيتهم.ففي مقابل سنغور كان الموقف من الشيخ آنتا ديوب و التعامل مع نظريته في " الاصول الافريقية للحضارة الفرعونية. لقد لاقى الانتاج الفكري لهذا المفكر ـ المعارض الوطني لسنغور ـ قبولا محدودا في مصر ، رغم ترسيخه للعلاقات الحضارية بين شعب مصر و شعوب غرب أفريقيا، على النحو الذي أورد في كتابه ، مهما اختلف عليه.و وضح ان ذلك انما يرجع للقبول الواسع لسنغور بسبب نفوذه الفرانكفوني الذي يلقى ، مع الديجولية ، ترحيبا مستمرا في العواصم العربية أواخر الستينات، الى درجة منحه درجة الدكتوراة الفخرية في مصر و ترجمة بحثه الرئيسي عن " الافريقانية و العروبة". و لم يشأ أحد من أصحاب المدرسة التاريخية أن ينتبه الى عملية الفصل التي يقيمها سنغور بين الثقافات الافريقية و الثقافة العربية، بل و اعتباره أن الثقافة العربية بلورة للقطع مع التراث الافريقي، مطالبا بصيغة جديدة تجمع العرب و البربر و اليهود و الافارقة في " كلية " جديدة، يساعدها على التقدم لقاؤها باللاتينية، ثقافة العقل" الشمالية".و في مرحلة لاحقة من الثمانينات ، أقامت له القاهرة و الدوائر الفرانكوفونية جامعة باسمه في الاسكندرية، بينما أقام السنغاليون جامعة الشيخ آنتا ديوب في داكار.
و في معركة صحفية أحدث( مايو 1996)، وُوجهت الكتابة حول نظرية الشيخ آنتا ديوب عن " الاصول الافريقية للحضارة الفرعونية"،".."بانزعاج ملحوظ من الدوائر الاكاديمية و الصحفية، في وقت تتجه الموجة ـ هذه المرة ـ للمتوسطية بالأساس.
هل يفيد ذلك في درس انتاج و اعادة انتاج الصور لاعتبارات تتعلق بالبنية الداخلية لا الخارجية؟" ( ص 49).مندري، بيد أن كل ذلك يفيد في الوعي بطبيعة النفسية الطبقية التي يصدر عنها خطاب النوبنة المصري في شأن فنان كحسان على الاقل.

و يفسد مختار العطّار ما يصلحه الدهر
قلت : أقول قولي و أقفل الاقواس( و هيهات) ، و أعود لأولوية مبحث الخامات و الادوات، على غيره من المباحث، عند حسان علي أحمد.و عند النظر في الملاحظات النقدية و عروض المعارض الصحفية التي خطتها أقلام النقاد و الصحفيين العرب(والعجم) في خصوص أعمال حسان التشكيلية استوقفني التلخيص المتكرر لعمل حسان كنوع من شهادة توثق لحضور ثقافي نوبي بوسيلة التشكيل المعاصر.و هو تلخيص جائر في حق حسان لانه يسوّغ وضع كل الفنانين النوبيين في سلة واحدة لمجرد كونهم نوبيين و بدون اعتبار فوارق الموهبة والعلم و الخبرة. و قد برع نفر من نقاد التشكيل العرب( على درب نقاد التشكيل" العجم" طبعا) في هذه الصناعة السهلة التي تعفيهم من مشقة التأني عند الفرادة الابداعية لكل مبدع بصرف النظر عن طبيعه ميراثه الثقافي أو العرقي.أقول : " الصناعة السهلة " كون الخطاب النقدي المعرقن يبقى حبيس قاموس هويولوجي ضيق محدود بالعبارات الجاهزة من صنف " التراث" ، " البيئة المحلية " " الجذور "،" المنابع"، "الأرض"،"الذاكرة"، " الاغتراب"، " الشتات"، " الاسطورة " و" الطقوس"( الافريقية غالبا). هذا النوع من الادب هو كمثل " قميص عامر" الذي خاطوه في الفاشرو قدّوه ليوسف، من دبر، في القاهرة و ارسلوه لعثمان بمكة وكلّه صابون.كتب مختار العطار ناقد مجلة " المصور" المصرية (1987) تحت عنوان" الفن النوبي الحديث" مقالة، طويلة نوعا، في الاحتفاء بعمل حسان علي أحمد، الذي عرّفه بـ " الرسام النوبي الشاب":
"الا أن ما يرسمه حسان من مواضيع أو مناظر أو طبيعة صامتة ليس سوى استجابة لمثيرات في البيئة المادية ، أو الثقافية أو الذكريات الدفينة في أعماق النفس"..و " معظم لوحاته لا نتبين فحواها الا بعد قليل من التأمل، تبدو كبقايا فنجان القهوة، و سرعان ما تتشكل في عيون المتلقي و تتجسد الرؤى: كما أرادها الفنان أو تخيلها المتلقي. أما ملامس الصخور التي يسعى الى اظهارها بجد و اجتهاد فلا شك أنها عالقة في ذاكرته منذ كان في النوبة القديمة حيث ترتمي النجوع في أحضان التلال و الرمال".
و حسان، بعد أن يقعّده العطار في مشهد" النجوع" اياه، يقضي سحابة يومه يجتر ذكريات الاسلاف و أساطيرهم.أو كما قال: هو فنان " يحيا مع الذكريات و الاساطير وحكايات أبوزيد الهلالي الذي يطلقون اسمه على صورة أسد يحمل سيفا يرسمونه على واجهات البيوت ليحميها، رسمه حسان منزوع السلاح ، رمز التسليم و قلة الحيلة".
انتهت عبارة العطاربـ "قلة حيلة" حسان، و هذا وجه من وجوه" قلة حيلة "هذا العطار الذي يفسد كل ما يصلحه الدهر. "قلة حيلة" بتاعة فنيلتك يا خواجة؟ الزول ده أشطر منك و عارف بالتشكيل و العلوم السياسية و علم الاجتماع اكتر منك و كمان بتكلم تلاتة لغات نوبية و عربية و انجليزية. و لو هفّتْ ليهو يطلّع ليك البرق العبّادي زاتو من كم جلابيتو ممكن يطلّعو في اي لحظة،بعد دا كلّو تقوم تطلع ليه بالنجوع و أسد ابوزيد و و التسليم و قلة الحيلة؟
يا راجل أختشي، و لو كلامي دا وقع ليك أحسن تمشي تشوف ليك تشاشة في سوق العطارين تتعيّش منها بدل ما تقعد تشيل حال الناس بالفارغة. ولا شنو؟
و قد جرّت صفة " الفنان النوبي" على حسان وضعيات رمزية غريبة. فماري تيريز عبد المسيح ،ناقدة " الاهرام الاسبوعي"(الاهرام ويكلي) تقول في مقال عن حسان ، جزء منه منشور في كتالوج " حسان علي أحمد 1980ـ 1996" . تقول ماري تيريز في تعليق لها على معرض " ذاكرة فرس المفقودة"( القاهرة ، يناير 1996 ) :" حسان لا يوثـّق لتجربة الشتات النوبي". و رغم اعتراضها على قراءة تصاوير حسان كتوثيق لتجربة الفقد و الشتات التي كابدها المجتمع النوبي عقب بناء السد العالي، فهي تراها كـ "تجريد لتجربته مع النوبة بما يكسبها واقعية أكثر و يصون حسه بالهوية".
“Hassan is not transcribing the Nubian experience of loss, dispersion- the diaspora. His Nubian reminiscences of landscape, colour and the Farras murals , are not translated into trite symbolic elements,but rather are transformed into feelings which become alive on paper and canvas.He abstracts his experience of Nubia to make it more real, to restore his sense of identity.There are today fewer Nubian houses whose walls could be painted, but canvas and paper can be carried anywhere.Perhaps there is not much Nubian land left. But there will always be a Nubian space to be probed, to be brought alive with Nubian colour, anywhere and everywhere”
Marie Therese AbdelMessih, Cairo University, AlAhram Weekly, 1996
ومن ظاهر هذا التقرير المتفائل يفهم القاريء للوهلة الاولى كما لوكانت ماري تيريز عبد المسيح تحرر حسان من نير التوثيق المباشر للتراجيديا النوبية ، لكنه لدى النظر المتأني يتكشف عن رغبة ملتوية في سجن حسان الى الابد داخل سجن نوبي المعمار، جدرانه العالية ملونة و مزخرفة بالموتيفات النوبية البديعة. سجن يستمر حتى و ان اختفت الارض النوبية و المنازل النوبية اياها..لقد مات سيزيف النوبي غرقا يوم تواطأ رجال الامن شمالي و جنوبي الوادي على اعتقاله و ربطه على صخرة قبل أن يرموا به في عمق بحيرة ناصر( باسم الصالح العام طبعا). هذه التراجيديا المعاصرة ليست بحال نوبية، انها تراجيديا نيوكولونيالية، و من الجور التعامل معها كما لوكانت شأنا يخص النوبيين وحدهم.و لو في زول عاجباه" عتالة" صخور الهويولوجيا العبثية ( نوبية أوغيرها) بطريقتو، خليه يمشي يشيلها براهو بدل ما يعمل منها فرض كفاية اذا قام به النوبيون سقط عن الباقين.
قبل فترة، و بمناسبة معرض لي في لشبونة( عن فن الدياسبورا الافريقية) سألني خواجة من منظماتية جمعية " سلطة الثقافة" الهولندية
The power of culture(powerofculture.nl/uk/current/2005/march/bothways.html)
:” In which ways do you think you are contributing to the development of arts in your home country, even though you are not living there?”
أذكر انني سألت للخواجة المشفق على التنمية الفنية في " ماي هوم كانتري":
:” In which ways do you think you are contributing to the development of arts in my home country, even though you are not living there?”
وصهين الرجل، و أظنه اعتبر سؤالي خارج الموضوع كما يعتبر نفسه خارج " ماي هوم كانتري" و هيهات..و ستين هيهات..

آخر الموهيكان
و فخ الخطاب المعرقن" المُـنَوبََنْ" ( لو جازت ترجمتي لعبارة
Nubianisé)
واسع و مريح،و لا يقتصر على المصريين وحدهم من نقاد حسان، فقد كتبت " جوليا" و " توم كواش" في تعليقهما عن معرض حسان" ذاكرة فرس المفقودة"(من الجذور النوبية) في
Egypt Today, Jan. 1996
"تحكي الاساطير عن حضارة الاطلانتيس القديمة الراقية التي ابتلعها فيضان عظيم غامض.وكثيرون يعتقدون ان هناك ثقافة عظيمة ما، انقبرت تحت المياه مع غرق الاطلانتيس.و ربما لم يكن الغرق الذي أدرك الحياة الحقيقية للنوبة، بعد بناء السد العالي، يتمتع بنفس الوزن الأسطوري للأطلانتيس لكنه بالتأكيد أكثر مأساوية. حصيلة آلاف السنوات من فن الشعب الفريد بعمارته و صناعاته الحرفية تقبع الآن في أعماق بحيرة ناصر.و خلافا لمصير الاطلانتيس،فلحسن حظنا، ما زالت هناك بعض القطع الفنية من تراث النوبة محفوظة في المتاحف، بينما تتبدّى شذرات و أشتات من الثقافة النوبية على السطح عبر الاحلام و الذكريات و من خلال أعمال الفنانين النوبيين المُهجَّرين من نوع حسان علي أحمد"
فـ " جوليا" و " توم كواش" رغم حصافة نظرتهما لعمل حسان الا أنهما لم يقاوما اغراء تحميل حسان مسئولية انقاذ آثار النوبة.كما لو كانت آثار التراث الثقافي النوبي مضمنة في الشفرة الجينية البيولوجية(دي ان آي) للأشخاص النوبيين .و لو تمادينا بمنطقهما لنهاياته يصبح تعبير الفنانين غير النوبيين محلا للريب و للشبهات الجمالية اذا عنّ لهؤلاء الفنانين غير النوبيين استقصاء سؤال التشكيل ضمن احتماله الجمالي المبذول في تراث النوبيين.و من عواقب هذه النظرة العرقية أنها تلغي ـ بذريعة عدم الاصالة ـ كل مباحث الفنانين الاوروبيين، كبيكاسو و مودلياني و برانكوزي و ميرو و جياكوميتي و غيرهم ،ممن انخرطوا في لحظة من لحظات تطورهم في المبحث التشكيلي على هدي آثار التشكيليين الافارقة التقليديين .و حسان في خاطر " جوليا" و " توم كواش" هو نوع من مستودع أسرار القبيلة ، بل هو " آخر الموهيكان" والوريث الشرعي لسلالة" الاطلانتيد" الأفريقية المغمورة تحت مياه بحيرة ناصر.
و صورة حسان التشكيلي تكابد أحابيل" النّوْبَنَـة" الجائرة حتى عند نقاده السودانيين
ان انتماء حسان النوبي لايبرر اختزاله و سجنه داخل وضعية" الفنان النوبي" فقط، كما أن حيازته لدبلوم عال في العلوم السياسية و الانتروبولوجيا لا يمكن أن تغلق فنه في حدود المجالين الأكاديميين اياهما. و هذا الواقع المركب لوجود حسان في العالم يجعله يوصّف وضعيته كفنان تشكيلي بالعبارة البليغة:" الرسم و التلوين عندي تجربة ذاتية ، غير معزولة عن الهموم الحياتية الاخرى".، كونه في نفس الوقت، تشكيلي ونوبي و سوداني( و قيل مصري كمان)،و هو حائز على ألقاب أكاديمية مثلما هو" رجل أعمال" يعرف أن عليه أن يقاتل ليبقى في سوق أعمال القرافيك الاعلاني المتاح في مدينة كالقاهرة.و من بين نقاد حسان السودانيين الذين لم يقاوموا اغراء ال" نوبنة"المجانية أشخاص يعرفونه عن قرب حميم كونهم قاسموه تجارب الحياة الثقافية و السياسية في سودان السبعينات مثلما قاسموه تجارب الشتات السوداني في المنفى المصري. بين هؤلاء يكتب سامي سالم المعرّف بصفتي " كاتب و ناقد سوداني" في جريدة " الاتحادي " الدولية (1995):
" ثمة خيط لا مرئي يجمع بين لوحات حسان علي أحمد و موسيقى حمزة علاء الدين.. الصورة الموسيقية في أعمال حمزة علاء الدين تماثل" الموسيقى البصرية" في لوحات حسان علي أحمد. تلعب الذاكرة التراثية دورا محوريا في تكوين لوحات حسان، الى جانب شفافيات اللون، يدخل العنصران ـ الذاكرة التراثية و اللون ـ كخامات في حقل انتاج الرؤية الفنية ..أي أن الموسيقى البصرية تطلع من صراع الخامات و علاقاتها التركيبية. ".." ما يفعله حسان علي أحمد قريب مما يفعله حمزة علاء الدين، هذا ينتج صور" موسيقية" و ذلك يخلق " موسيقى بصرية" تنفصل فيها البقعة عن المنظور و يذهب الفنان من الرسم الى التكوين، الى اللوحة".
سامي سالم في هذا النص، يتجاهل ـ أو هو يجهل ؟ ـ كل الاشارات والاحالات التشكيلية المبذولة عيانا بيانا في عمل حسان، و التي تقعّده بشكل بديهي على المراجع الجمالية و اللقيات التقنية الرئيسية في تاريخ التشكيل الاوروبي و الآسيوي و الافريقي و السوداني الحديث و القديم ، مما فصلنا فيه أعلاه ، ليتأنى عند قرابة جمالية مُعَـرْقَـنة افترضها بين حسان و الفنان الموسيقي النوبي الاصل حمزة علاء الدين.و تساءلت عن دوافع سامي سالم لتخريج مقولة بمثل هذا القدر من الاعتباط المجاني.و أظن غير آثم أن سامي سالم يعرف جيدا رصيد الاحترام و المودة الكبير الذي يكنه قراءه السودانيون لكل من حسان علي أحمد و حمزة علاء الدين، و على هذا الرصيد يسوغ لنفسه تخريجات نقدية متعرقنة ما أنزل الله بها من سلطان، و هو آمن في طيات لغة شعروية غامضة، من نوع: " اللوحة تكوين لوني يستن شفافيته على ضوء سلسلة معقدة من الامتزاجات"، و لا جناح،فحسان و حمزة " كيف كيف" كما يقول أهلنا المغاربة. و في النهاية، يبدو أن كل أمر التشكيليين والموسيقيين النوبيين عند سامي سالم صابون في صابون..
و لعل أخف مساعي " النوبنة" وطأة على تجربة حسان التشكيلية يتمثل في ما كتبه الاخ صلاح حسن الجرّق ، رئيس قسم التاريخ بجامعة" كورنيل" الامريكية و المسئول عن مجلة "انكا" الامريكية المتخصصة في الفن الافريقي المعاصر و فن الدياسبورا الافريقانية. و ربما كان للأمر علاقة بكون صلاح حسن ، فيما وراء القابه الاكاديمية و صفاته الاعلامية الافريقانية ، هو في نهاية التحليل، و كصديق قديم لحسان، انما يعرف تماما طبيعة المسار الذي قطعه حسان و طبيعة الجدال الفكري والتناقضات الجمالية و السياسية التي كابدها حسان، منذ بداية السبعينات، بسبيل الوصول الى الحاصل الجمالي المطروح في اعماله الراهنة.و معرفة صلاح بحسان تملك ، في حسن ظني العريض، أن تعصمه من الانسياق السهل وراء أوهام النوبنة السعيدة التي يسعى الجميع ، تقريبا ، لحبس حسان في سجنها الجمالي الضيق.
و رغم أن صلاح حسن يرى في حسان صورة الفنان النوبي الحديث ، و وريث المبدعين الاسلاف، الذي يحمل على كاهله ذاكرة الهجرة و يعيش، بشكل يومي، تجربة الشتات( دياسبورا) التي خلّقت من صورة المجتمع النوبي في المخيلة الجمعية لمثقفي الطبقة الوسطى في مصر و السودان ،الا أن صلاح ـ على خلاف ماري تيريز عبد المسيح و جوليا و توم كواش الذين يردون حساسية حسان للمنبع النوبي الماضوي ـ يتذرّع بنفس الهوية المُـنَـوْبَـنة لحسان في تسويغ قابليته على تقبّل و هضم كل ما تجود به الثقافات المعاصرة من لقيّات جمالية و فكرية.و ذلك لأن الحضارة النوبية عنده
(عند صلاح) ،و بطبيعتها، هي حضارة قمينة بتوليف العناصر الحضارية الاجنبية عليها و تكييفها مع عناصرها المحلية ضمن سياق التأصيل الحضاري الحقيقي.بل أن قدر حسان الجمالي يبدو، في مشهد صلاح حسن، مشروطا بطبيعته النوبية فيستوعب و يولّف و يكيّف و يؤصّل وفق غريزة جمالية مودعة في دخيلة أناه النوبية.
« The reference to Faras, a now submerged underwater ancient Nubian church, evokes, as again expressed by Julia A. and Tom Coach, loss, memory,and dreams; yet , it also forgrounds the artist’s desire ti assert his present identity.Along with the symbolic value, the real attraction of ancient Nubia’s artistic accomplishment lies in its ability as a civilization to synthesize the foreign and adapt it to the local and in the process of creating a truly authentic civilization.Ahmed reference to Faras is not the sort of “ return to the source” escapism that characterized the products of postcolonial third world intellectuals, but serious research into one’s heritage and past accomplishments, with an eye on the ability to synthesize the old and create the new.”
( أنظر نص صلاح في مقدمة كتالوج " حسان علي أحمد 1980ـ1996 ":
Of memory, exile and encountering the present :
The art of Hassaan Ali Ahmed


النوبة هاجسي
و في ما وراء مساعي النوبنة التي تستهدف حسان من خارج تجربته، فان حسان نفسه يعبر، في كثير من الحالات، عن نزوع عفوي لقبول هدية " النَـوْبَـنَـة " التي ينعم بها عليه نقاده كموقف جمالي بديهي، و لا عجب، فحسان نوبي، "عارف عزه" و" مستريح" كمان، و من العسف ملاحقته في كل مرة تبذل له فيها هدية النوبنة المريبة .أقول : ان انتماء حسان للنوبة انتماء عفوي مثلما هو انتماء معقلن ضمن منظور البصيرة الاجتماعية الناقدة.و حين يقول " أجرّب والنوبة هاجسي " فهو يعبر عن علاقة عضوية مع النوبة في كامل تمثلاتها الروحية و المادية (العائلية و السياسية و الفنية و الاقتصادية الخ)، و هو في هذا المشهد لا يقتصر على اجترار ذاكرة الاطلانتيد المفقودة التي تحتفي بها دوائر الفنأفريقانية المحلية و الأجنبية، و انما هو يبذل نفسه بكليتها كطرف فاعل في جسد منظمات المجتمع المدني الناشطة في منطقة النوبة. و حسان في هذا لا يشذ عن موقف الغالبية من صفوة المتعلمين من أبناء منطقة النوبة ممن يعون ضرورة تنظيم المجتمع النوبي المعاصر و تهيئته لمواجهة التحديات الحضاريةالكبيرة التي ستفرض نفسها على أهل المنطقة تحت شروط التحولات العولمية الراهنة.و من متابعة المناقشة الاسفيرية الجارية حاليا، بين بعض مثقفي النوبة، في موضوع " المؤتمر النوبي الجامع" يمكن تلمّس الهموم الاجتماعية الواقعية التي لا يمكن لأي عاقل تجاهلها بالذات في هذه اللحظة التاريخية الحرجة من تاريخ السودان حيث تتهيأ البلاد لنوع من " فدرلة" ملغومة بمخاطر" الاقلمة المعرقنة" أو الانفصال أو (و) الحرب الاهلية. و " المؤتمر النوبي الجامع " يمثل أحدى المبادرات الاهلية التي تسعى لصيانة تماسك النسيج الاجتماعي للنوبيين " أمام انهيار الخدمات و سوء التنمية في الاقليم ".."و المؤتمر النوبي هو بذلك وسيلة لحشد جهود كافة النوبيين من أجل المطالبة باستحقاقاتهم في مشروع السلام و حقوقهم في ظل الدولة الفدرالية القادمة" كما عبر أشرف يس ( في بوست أحمد علاء الدين بعنوان " المؤتمر النوبي الجامع ، لماذا و كيف و متى؟" في موقع " سودانيزأون لاين دوت كوم" بتاريخ 28/5/2005). و حين يقول حسان :" أجرّب و النوبة هاجسي " فهو نوبي، لا متنوبن، أي لا يلعب دور النوبي، و انما يكون ذاته كمثقف عضوي ،انتماءه التاريخي للنوبة هو الطرف القريب من انتماء انساني كبير. و حين نؤكد على صفة حسان كـ " نوبي" فذلك التأكيد لا يلغي مزالق العرقنة التي تترصد من يقارب الامر بمجرد النوايا الطيبة و بس. وذلك لأن في ثنايا صفة " نوبي" الظاهرة البراءة يقيم الخطر المضمر المموّه لانزلاق المعاني، من وضعية حسان كـ " نوبي و فنان " الى وضعيته كـ " فنان نوبي"،( و قيل كـ " الفنان النوبي"). و بين الموقفين فرق شاسع، يتجاهله، أو ينتبه له، نقاد حسان حسب المصلحة التي تترتب على هذا الموقف أو على ذاك.ذلك أن انتماء حسان المشروع كـ " نوبي " لا يسوّغ لأحد تسليبه من انتماءاته الحضارية الاخري لتعليبه في علبة المنتج النوبي الخالص و المنزّه من كل شائبة ثقافية أخرى.و مسعى تعليب حسان كمنتج نوبي" كامل الدسم" ، حين يعبر عنه النوبيون، فهو يكشف عن نزوع (مشروع؟) للاحتماء ـ و قيل للانغلاق ـ في قوقعة النقاء العرقي المستحيل، لقوم يقيمون عند بوابة/ملتقى طرق تاريخية تعبر منها المؤثرات الحضارية بين شمالي الوادي و جنوبه و بين شرقيه و غربه.أما حين يأتي مسعى تعليب حسان كمنتج نوبي خالص من طرف المصريين و السودانيين غير النوبيين، فهو يموّه نزوعا عرقيا لاستبعاد النوبيين عن دائرة المبادرة الحضارية ( بأبعادها السياسية و الاقتصادية) في مصر و في السودان.
و حديث بعض المثقفين النوبيين مثل" أشرف يس"، في موضوع " المؤتمر النوبي الجامع" ،عن الحقوق المترتبة على " اتفاقية نيفاشا" يلمس اشكالية الوجود النوبي من منظور موضوعات " اقتسام السلطة و الثروة مع الحكومة الفدرالية ".." و تكوين المجلس التشريعي للولاية " .." و رؤية أبناء الاقليم في مسائل مثل الهوية و علاقة الدين بالدولة و السمات الاساسية للدستور" ( سودانيزأون لاين 29/5/2005 ). و هي موضوعات اجتماعية عواقبها الاقتصادية و السياسية تملك أن تثير قلق ـ بل و روع ـ السلطات في القاهرة و في الخرطوم ، سيّما و أن النوبيون تعلموا ان يصنعوا من جرح تجربة التهجير القسري مرجعا من مراجع الهوية النوبية الحديثة، و هو مرجع ينطوي في ثناياه على اتهام صامت موجه لسلطات الدولة القمعية البوليسية الحديثة التي تتصرف في مصائر الناس دون ادنى اعتبار لحقوقهم المادية ( الارض) و حقوقهم المعنوية ( الهوية).
في شعاب هذه الارض النوبية العامرة بمزالق الغبن التاريخي الروحي و المادي، و المفخخة بالغام الغوغائية العرقية الظاهرة و الخفية ، كتب على حسان أن يمشي على البيض أولا: كتشكيلي يحمل هم الخلق الجمالي، و ثانيا: كنوبي يحمل هم النوبة الاجتماعي، و ثالثا: كسوداني يحمل هموم التحولات الحضارية لبلد هو قارة بحالها من الاسئلة الوجودية الحرجة التي تتجاوز السودان لاشكاليات العولمة المعاصرة.و هو مسار عسير، و حسان بين قلة من الفنانين النوبيين الذين يعون تراكب كل هذه الهموم الجليلة.
أذكر انني طلبت من حسان قبل سنوات ان يكتب لي نصا عن عمله كنت أنوي نشره في "جهنم" التي توزع وسط عدد محدود من الاصدقاء و أصدقاء الاصدقاء ، و جلّهم فنانون تشكيليون ، فاعتذر حسان متذرعا بـ " ياخي انا ما بعرف أكتب" ، و في حينها حيرتني اجابته، كوني كنت انتظر منه كتابة فنانين تحكي عن كيف؟ و ماذا؟ وعن أين؟ ومتى؟ في خصوص معالجة تصاويره .و هذا النوع من الأدب" التقني" يكتسب قوته، ككتابة ابداعية، من علاقته بموضوعه و من قدرته على تأطير التصاوير و توجيه النظر لمواضع الحظوة الجمالية فيها.أقول : حيرتني اجابة حسان ، و أظنني احلتها الى نوع الحياء الريفي الذي يجعل كثير من السودانيين يتهيّبون الكلام عن ذواتهم ،و قد " يدخلون في اضافرينهم" خجلا اذا وضعتهم الظروف تحت دائرة الضوء.و قد اقتضاني الامر فترة قبل أن أفهم ان الكتابة عن التجربة الجمالية المتخلّقة في ارض الاشتباهات الآيديولوجية الغميسة التي يقيم عليها حسان تقتضي من الكاتب مكيدة ادبية كبيرة و براحا زمانيا أكبر.و أظن ان اولويات حسان الابداعية كانت ـ و لم تزل ـ في موضع آخر بخلاف الموضع الذي تدبر فيه مكائد الادب.
أقول قولي هذا ، و استغفره و أبذل ختام مكيدتي الأدبية المتواضعة في أمر حسان بكلمات قالها في حوار بجريدة "الخرطوم" أجراه معه الصديق أحمد عبد المكرم :
" .. و باختصار فان اللوحة عندي عمل لا نهائي و وصول لغير المرئي.
مهموم بالتراث و لكن أرفض استلهام التراث بطريقة فجّة
لا شيء يؤطّرني و لا قانون يحكمني سوى رؤيتي الذاتية و تجربتي و تجريبي.
المزاوجة بين التراث و الرمز و اللون في اللوحة تؤرّقني، و ذلك يحدث بقدر عال من التعقيد و الشفافية لدرجة يصعب معها التحديد ".." حتى أنني احيانا لا أدري، هل أنا ارسم اللوحة؟ أم ان اللوحة هي التي ترسم نفسها؟.."

حسن موسى
7/1/2006