الأربعاء، ٤ تموز ٢٠٠٧

في الطبقة المتكنّـزة داخل رخام الواقع

ملاحظات في " الطبقة" المتكنـّزة داخل رخام الواقع
أومحـّيط بوردي)
............... .

" إنت " مولاكم" بورديو دا قريتو؟؟؟"
سألني " الشاب " مازن مصطفى هذا السؤال المتبوع بثلاث علامات استفهام ،أظن أن الغرض منها التأكيد على دهشته، كون كتاب مولانا بورديو المعنون في العربية بـ " العقلانية العلمية" فلت من نهم القراءة الذي توسمه في شخصي الضعيف.
لا و الله يا مازن، هذا الكتاب لم أقرأه ، و أنا آسف كوني خيبت توقعاتك فأنا لا أقرا أي شيء" من طرف ".و ذلك لسبب بسيط هو أن فعل القراءة ،في مشهدي مشروع. أعني مشروع معرفي خياراته محكومة بنوع الأسئلة التي تنطرح عليّ فأعرّف عليها أولويات القراءة. و من يدري فقد أنقلب يوما على الخواجة لوتريامون بتاعك دا أو على ميلان كونديرا، أو حتى على لورد بايرون هيمسيلف، فأقرأهم قراءة رشيدة لو وقعوا تحت طائلة مشروعي المعرفي، و" كل شي في الحيا جايز". ولمعلوميتك يا مازن: شوية الكتب التي قرأتها لمولانا بورديو لا تتعدى أصابع اليد الواحدة ، و هي بين آثاره التي تعالج سوسيولوجيا الثقافة و تداخلات الآيديولوجيا وعلم الجمال في مشهد صراع الطبقات، و حتي قراءتي المتواضعة لبورديو هي في الحقيقة قراءة متفاوتة لأنني و إن كنت أقرأه بإنتباه معقول في أغلب الأحوال ، إلا أني لا أخفي حقيقة كوني أجدني في بعض المواضع أقفز فوق الأسطر التي تعالج التفاكير التي لا خلاف عليها بيننا أو تلك التي لا تهمني حين أجدها مغرقة في حرفية صناعة السوسيولوجي.أقول هذا و أنا أحفظ في خاطري هامشا لإحتمال أن أقرأ لمولانا بورديو مزيدا من آثاره ـ و قيل كلها ـ لو إقتضى مشروعي ذلك، و لو تيسرت لي فسحة في المجال و شيء من استقرارا الحال، فأتعقبه و لو دخل في جحر ضب خرب .. و هيهات . و أقول" هيهات "لأن كتابة بورديو لا تخلو من وعورة أسلوبية بيّنة ، و هي وعورة أسلوبية مردّها ، ربما كان، في ضيق وسيلة اللغة المتاحة له عن استيعاب تركيب الفكرة، فكرته المشدودة بين أقطاب السوسيولوجيا و الفلسفة و السياسة و علم الجمال ـ بالذات في هذا الكتاب الذي تكونت معظم نصوصه من تسجيل المحاضرات التي ألقاها في أوقات متفرقة ـ، و ربما كان مردّها أيضا في تحسّب بورديو نفسه من مزالق الأسـْلـَبـَة الأدبية على وضوح العبارة العلمية ، ناهيك عن قلة حيلتي أنا نفسي كقارئ وافد على الفرنسية من لغة ما زالت تقيم في ضواحي لغات الحداثة.
لكن يا مازن ، بعد دا كلو، في أسئلة معرفية في حتت غميسة بورديو "ظاتو" ما عندو فيها دبارة. ليه؟ لأنها ببساطة خارج حدود مشروعه المعرفي.سؤال زي سؤال علاقة الأداة بالمنهج في منظور المشروع الجمالي التشكيلي أنا أقول فيه لمولانا بورديو: يا مولانا أقعد أسمع و شوف.و يقعد و يسمع و يشوف.شفت كيف؟
حكى النور حمد مرة أن الأستاذ محمود أوصى الجمهوريين بقولة فحواها:
Don’t r’ead the good books, read the best !
و هي من نوع العبارات القواطع التي تبقى في الذاكرة بمكيدة الشكل الأدبي. كون صدر العبارة يلتئم بعجزها على تناقض مركب يبدأ من النهي عن القراءة الذي يخلق توترا ( زائفا) في خاطر القارئ ـ المفترض أنه شغوف بالقراءة ـ لينتهي في نوع من " هابي إند"، لا تخلو من مداهنة حبيبة للقارئ، كونها تنبهه إلى أهليته الفكرية العالية، التي تجعله يتمنـّع على الكتب الجيدة ،لأنه يستحق الكتب الممتازة.
هذه العبارة المنسوبة للأستاذ محمودـ و أقول " المنسوبة " لأنني قرأتها من قبل منسوبة لأحد أعلام الأدب الإنكليزي ـ و قيل ج. بيرنارد شو( كان ما نخاف الكضب) ـ تغمرني بالتساؤلات كلما تذكرتها، كونها تصطنع تراتبا رأسيا للمعارف، في شكل سلـّم أسفله الكتب العادية ، و وسطه الكتب الجيدة و أعلاه الكتب الممتازة. و لابد أن في قمة هرم الكتب الممتازة كتاب واحد يحتوي على خلاصة المعارف هو " الكتاب" المعرّف بالألف و اللام.و لو سألت أصدقائي الجمهوريين عن هذا" الكتاب" لقالوا بلا تردد : هو القرآن.و لا جناح عليهم و لا حاجتين.فهم على سنة الكتابيين من أتباع موسى و عيسى لا يعرفون كتابا غير " الكتاب" ،" و ما فرّطنا في الكتاب من شيئ". و موضوعة المعارف الكتابية التي تحيل القارئ ـ بصرف النظر عن مقتضيات مشروعه المعرفي ـ إلى حكمة ناجزة مكتملة مكنونة في بطون الكتب الممتازة ، أو في بطن" الكتاب " النهائي، هي موضوعة دينية صلدة عبرت المعتقدات الدينية والنظريات العلمانية، المادية منها و المثالية ،بإطمئنان كبير و ألهمت أهل الثقافات المكتوبة آيات الأستعلاء الجاهل تجاه أهل الثقافات المروية، كما سوّغت للدوغمائيين الماركسيين أن يمسخوا نصوص ماركس و أنجلز إلى نوع أيقوني مغلق ممتنع على النقد.و ثمة قولة مشهودة منسوبة لمولانا جان بول سارتر في ما معناه: لقد عشت في عالم النصوص دهرا حتى بت أتصور أن لا عالم خارج النصوص.و قولة سارترـ الفيلسوف المهموم بالواقع الحي والناقد التشكيلي و هاوي الموسيقى ( و الرسم و الموسيقى يقيمان خارج عالم النص) ـ تلخص إشكالية النص كمخاطرة وجودية يتنكبها من يتصدى لإدراك ظواهر الوجود عبر إمكانات النص.
نهايتو،أظن أن " الكتب الجيدة" و " الكتب الممتازة" إنما تكسب صفات الجودة و الإمتياز كفاحا من واقع قدرتها على توفير الإجابات على الأسئلة التي تطرحها على القارئ خصوصية مشروعه المعرفي.و في نهاية التخليل فكل كتاب هو " كتاب ممتاز" من اللحظة التي يجد القارئ فيها ضالته بين دفتيه.و إذا كان " سيد الرايحة " يملك أن " يفتح خشم البقرة" فمن باب أولى كتابها.و لأهل الهند قراءات في كتاب البقرة.

" إنت " مولاكم" بورديو دا قريتو؟؟؟"
رحم الله الخواجة بوريس فيان ،الفنان و الشاعر و الموسيقي الفرنسي الذي قال مرة :الأشياء القليلة التي أعرفها أدين بها لإقراري بجهلي.
أها يا مازن سؤالك دا حفزني أمشي أنبش رف بورديو في المكتبة العامة لمّن لقيت الكتاب، و قعدت أقرأ الإقتطاف مقطوع الطاري الإنت جايبو كشاهد على دحض بورديو لموضوعة " وجود الطبقة".
تقول في إقتطافك ، عن بيير بورديو:
" ان النظرية الماركسية تقترف خطأ يماثل تماما الخطأ الذي فضحه كانط في الدليل الأنطولجي أو هو عين الخطأ الذي أخذه ماركس عن هيجل: انه يقفز " قفزة مميتة" من الوجود نظريا إلى الوجود العملي أو ،كما جاء في مقولة لماركس: "من أشياء المنطق إلى منطق الأشياء"..
"بيير بورديو،، العقلانية العملية، ط أكتوبر 1994"
صفحة كم يا شاب؟
و الطبعها منو طبعة أكتوبر 1994 دي؟
و بعدين الترجمها منو؟
و أنا بوجّه ليك الأسئلة دي عشان حكاية إنك تكون مقتطف النص بتاعك بالعربي من طبعة أكتوبر 1994 دي ما وقعت لي ، لأنو دا تاريخ صدور الطبعة الأولى بالفرنسية ، و أستبعد أن يكون كتاب بورديو صدر بالعربية و الفرنسية في نفس الشهر.
و بعدين يا" شاب" ـ و ده الأهم ـ الترجمة العربية للمقتطف فيها خلل يفسد المعنى الوارد في الأصل الفرنسي لبورديو.
و أنا أترجم نص بورديو الفرنسي كما يلي:
"النظرية الماركسية تقترف خطأ يماثل الخطأ الذي دحضه كانط في البرهان الكينوني( "الأونطولوجي" لو شئت) أو هو يماثل الخطأ الذي أخذه ماركس على هيجل:إنه يقفز" قفزة مميتة" من الوجود في حال الممارسة النظرية إلى الوجود في حال الممارسة العملية، او، حسب عبارة ماركس، " من أشياء المنطق إلى منطق الأشياء"
Pierre Bourdieu, Raisons Pratiques, sur la théorie de l’ action,Editions du Seuil,Octobre 1994, p.27.

.( و بمناسبة " الأونطولوجي"
ontologie
أقول:" لو شئت" لأني أفضل عبارة " الكينوني" على زعم أن عبارة " الأنطولجي" في رسم العربية تملك أن تلتبس بـ " أنطولوجي"
anthologie
التي تترجم في معنى المختارات الأدبية أ و الموسيقية).
قلت أن الترجمة العربية لنص بورديو مختلة و مكمن الخلل هو أن عبارة مولانا بورديو التي تقول:
" الخطأ الذي أخذه ماركس على هيجل"
« ..ou à celle que Marx lui-même reprochait à Hegel »
إنمسخت ، في إقتطافك، بقدرة قادر، إلى
" الخطأ الذي أخذه ماركس عن هيجل".و حين نقرأ إقتطافك نفهم أن ماركس هو الذي يقفز " قفزة مميتة"" من الوجود نظريا الى الوجود العملي " و دي يا مازن دايره ليها "محـّيط" تاني من طرف ماركس. شفت كيف؟.و لكي لا نطيل أقول: لو كان الإنمساخ مجرد تصحيف من طرفك فسنضايره لك ( بعد أن تعتذر) و نضيفه لحساب الطلاشة الشبابية العايرة فينا اليومين دي،و لو كان الخطأ في الترجمة العربية للكتاب الذي اقتطفت منه أنت النص العربي فالرماد كال حماد و بورديو و ماركس و اتحاد السودان الشبابي زاتو ، خصوصا إذا كان النص إياه هو الترجمة العربية الوحيدة المتاحة لقراء العربية.
لكن دا كلـّو كوم و فهمك لكلام بورديو " حول وجود الطبقة " كوم تاني.
تقول ،في كلامك المسبوق بمقدمة لم أفهم ضرورتها في منطق المناقشة ، ناهيك عن حشو القفشات المبهمة الذي تلبّك به كلامك بعبارات لا تلزم غيرك مثل:
"هنا ( و لإعتبارات الإشتراك المجاني و موضوع الكتابة) حنهتم بس بالدليل الأنطولجي"
أو
"أما محاولة استخراج " وجود " من " فكر" دي فتلقوها عند الباقر( و للباقر صاحبنا ـ المرتبط بالمقولة ـ حكاوي) "
ونوع الكلام دا يا مازن اسمو: كلام الطير في "الباقر".( صاحبكم).
نهايتو، لو رجعنا لخلاصة كلامك، و لو أشحنا النظر عن " شرح العنقريب" في دحض الدليل الأنطولوجي، فأنت تكتب:
"..يرى مولاكم بورديو أن الماركسية تقترف خطأ" يماثل " خطأ الدليل الأنطولجي " " عندما قالت بوجود الطبقات...."
فأنت تتصور أن بورديو ينكر" و جود الطبقات"، و هذا رجم بالغيب في حق الرجل الذي أفنى عمره لتقعيد مفهوم صراع الطبقات المعاصر على مقعد النقد في بلد مثل فرنسا ، سدنة الفكر المحافظ فيه يستغفرون و يعوذلون و يحوقلون كلما وقعوا على نص لماركس.
و يا مازن كدي " أسمع النكلمك ضحى":
مولانا بورديو لا ينكر " وجود الطبقات" و لا ينبغي له ، و مساهمته النقدية ـ كسوسيولوجي مسترشد بأدب ماركس ـ إنما تقوم على نقد المفهوم التبسيطي للطبقة كظاهرة خارج التاريخ. و هو المفهوم الذي كرّسه نفر من الماركسيين ـ و غير الماركسيين ـ من رهط التبسيطيين الذين استغنوا عن تركيب ظواهر الواقع الإجتماعي بجملة من الكليشيهات التقريبية لعلم الإجتماع البورجوازي .
و لو عدنا لنص بورديو على ضوء عبارة سالم موسى المشهودة:
" الحقيقة تبدو و لا تكون "، فالطبقة عند بورديو" تبدو و لا تكون".و هي تبدو لكل ناظر حسب زاوية النظر التي يختارها ضمن حساب المصالح و المطالح المادية و الرمزية.و في منظور تناقضات المصالح الطبقية يحصل الفرز بين السوسيولوجيا المتحالفة مع رأس المال و سوسيولوجيا بورديو التي تتحرّي تجليات الصراع الطبقي بين ثنايا الفكر السياسي البورجوازي بما فيه تياره المتسربل بسرابيل الماركسية .أقول لو عدنا لنص بورديو في أصله.أعني في كتابه" العقلانية العملية، حول نظرية الممارسة"، و بالذات في الجزء المعنون : " منطق الطبقات" لقرأنا تحت عنوان " منطق الطبقات"( و أخطاء الترجمة المحتملة عهدتي):
" إن بناء المجال الإجتماعي، الذي ينطرح، كواقع غير منظور و غير ملموس ، رغم أنه ينظّم ممارسات و تمثـّلات الذوات الفاعلة ضمنه ،بناء هذا المجال الإجتماعي يعني أننا نعطي أنفسنا، في الوقت نفسه، إمكانية بناء " طبقات نظرية" منسجمة بقدر الإمكان ، و ذلك من وجهة نظر عاملين حتميين رئيسيين على صعيد الممارسات و كل المواصفات التي تترتب عليها.و عليه ينطرح مبدأ التصنيف كموقف تفسيري: لأنه لا يقتصر على وصف مجمل الحقائق المصنفة، و لكن ، على نحو العارفين بالصـِّنـَافة ( الـ " تاكسينومي" : علم التصنيف)في مجالات العلوم الطبيعية ،فمبدأ الصنافة يرتبط بالخصائص الجوهرية لموضوع التصنيف، و التي هي ، بالتعارض مع الإختلافات الظاهرة للتصنيف الرديئ ، تتيح استنباط الخصائص المغايرة، و التي تفرز و تجمّع الذوات الفاعلة الأكثر تماثلا فيما بينها و الأكثر إختلافا من أعضاء الطبقات المغايرة المجاورة أو المستبعدة.
لكن صلاحية التصنيف المتحصّل نفسها لا تخلو من مخاطرة ، كونها تغري الباحث بالتعامل مع الطبقات الموجودة في حال المصنفات النظرية ،و هو حال خيالي لا يوجد إلا على الورق، تغريه بإعتبارها طبقات واقعية، أي مجموعات حقيقية موجودة ضمن ملكوت الواقع الملموس.
و هذا الخطر ، خطر إنمساخ الواقع الحي تحت تأثير صلاحية التصنيف النظري،يتفاقم بقدر ما ينجح البحث النظري في إكساب التقسيم النظري الماثل في " التمييز" الإجتماعي نوعا من المطابقة مع الفرز الحقيقي في المجالات الأكثر تباينا، بل و المجالات غير المألوفة تماما، من مجالات الممارسة العملية." ( ص 25).
هذا التعارض بين " اشياء المنطق" النظري إلى" منطق أشياء الواقع العملي ـ و هو بعض من ميراث ماركس عليه السلام ـ هو خلاصة هذا النص الذي قدمه بورديو كمحاضرة أمام جمهور من الباحثين اليابانيين في جامعة توداي في أكتوبر 1989.و قد نبه بورديو المستمعين في استهلال المحاضرة إلى ضرورة الإنتباه لمخاطر الإنسياق الغافل وراء هوى المنطق ضد معطيات الواقع الحي:
" لو كنت يابانيا فلا بد أنني كنت سأكره معظم الأشياء التي يكتبها غير اليابانيين عن اليابان.".." و عليه فلا تتوقعوا مني أن أحدثكم عن " الحساسية اليابانية" أو عن " السر" الياباني أو " المعجزة " اليابانية"( ص 15)، فكأنه يشير من طرف خفي لـما يمكن أن نطلق عليه " نظرية اليابان"، التي تسوّغ للأوروبيين أن يختلقوا ما يحلو لهم في صدد صورة يابان أزلي ثابت لا يدركه التحوّل و لا يطاله التاريخ. و قس على ذلك "نظرية أفريقيا" التي تسوغ للأفريقانيين الحديث عن أفريقيا خارج التاريخ أو" نظرية الإسلام" التي يبني عليها أهل الإسلامولوجيا النصرانية أكثر المفاهيم بعدا عن واقع المسلمين أو " نظرية المرأة " أو " نظرية الشرق" إلخ.
إن الطبقة عند ماركس ـ حسب التعريف الذي يورده بورديو(ص 26)، هي " مجموعة متحركة عموما نحو غاية مشتركة مثلما هي متحركة ضد طبقة أخرى."لكن هذا التعريف لا يشفي الغليل كونه يبقى في حدود التعميم الفضفاض.و قد تساءل كثيرون من دارسي ماركس عن السر في كون ماركس لم يقدم تعريفا محددا ناجزا للطبقة.و جهد بورديو النقدي يسعى للإجابة على هذا السؤال من واقع خبرة السوسيولوجي الذي يقارب مفهوم الطبقة ـ أو " نظرية الطبقة " ـ ضمن صيرورة" المجال الإجتماعي".(و هو ماسماه مترجم مازن بـ " المكان الإجتماعي")

يقول بورديو :
" إن الطبقات النظرية التي أؤسس لها قابلة لأن تتخلّق كطبقات في المعنى الماركسي للعبارة، أكثر من أي تصانيف نظرية أخرى كتصانيف الجنس أو العرق إلخ. و لو كان في عزمي ـ كزعيم سياسي ـ تأسيس حزب كبير يجمع أصحاب العمل و العمال معا، فإن فرصي في النجاح جد ضئيلة.و ذلك لأن أصحاب العمل و العمال يبقون على تباعد كبير داخل المجال الإجتماعي.رغم أنهم ، تحت ملابسات معينة ، تحت شروط أزمة وطنية، يمكن لهم أن يتقاربوا على أسس وطنية أو شوفينية.لكن هذا التقارب يبقى سطحيا و مؤقتا.و لا يعني هذا المثال أن التقارب على صعيد المجال الإجتماعي يخلق الوحدة ضربة لازب.التقارب داخل المجال الإجتماعي يعرّف إمكانية موضوعية للوحدة.أو ، لو شئنا الكلام بطريقة ليبنيتز فهو يعرف " ميل للوجود" الجمعي، كـ طبقة محتملة.إن النظرية الماركسية تقترف خطأ يماثل الخطأ الذي دحضه كانط في البرهان الكينوني ، أو هو يماثل الخطأ الذي أخذه ماركس على هيجل:إنه يقفز" قفزة مميتة" من الوجود في حال الممارسة النظرية إلى الوجود في حال الممارسة العملية، او، حسب عبارة ماركس، " من أشياء المنطق إلى منطق الأشياء".
و من المفارقات أن ماركس ـ الذي فاق كل المنظرين في العناية بـ تأثير النظرية، ذلك التأثير السياسي الخالص الذي ينطوي على بذل" الواقع" الذي لم يخرج تماما من رحم الغيب موضوعا للنظر ـ غفل عن تسجيل هذا التأثير في نظريته...فلا يمكن المرور من حال الطبقة على الورق لحال الطبقة في " الواقع" إلا من خلال عمل سياسي تعبوي : الطبقة "الواقعية"، إن قدّر لها أن توجد " واقعيا"، فهي ليست سوى الطبقة المتحققة، المعبأة سياسيا،كخلاصة " للصراع الصنافي" [.وحتى إشعار آخر، لا أجد عبارة أفضل من " الصراع الصنافي " لترجمة عبارة بورديو المحيرة :
« la lutte des classements »
]
كصراع رمزي ( و سياسي) محض ، لفرض رؤية إجتماعية للعالم، أو حتى، منهج في بناء هذا العالم ، على صعيد المفهوم و على صعيد الواقع، ولبناء الطبقات التي يمكن أن يقسّم عليها.
و وجود الطبقات ، على صعيد النظرية أو بالذات على صعيد الواقع ، إنما هو ، فيما خبرنا، محصلة صراعات.و هنا تقيم العقبة الرئيسية أمام المعرفة العلمية للعالم الإجتماعي و أمام حل مشكلة الطبقات الإجتماعية (و الحل موجود على كل حال). إن إنكار وجود الطبقات، كما اجتهد فيه التقليد المحافظ، و باسم حجج ليست كلها عبثية على الدوام ، ( و كل بحث طيب النية يمكن أن يقابل مثل هذه الحجج في طريقه) إنما يعني، في التحليل النهائي،إنكار وجود الإختلافات و إنكار مبادئ الفرز. و هذا عين ما يفعله ـ و بمفارقة بيّنة من واقع استخدامهم لمصطلح الـ طبقة ـ من يدّعون اليوم أن مجتمعات من شاكلةالمجتمع الأمريكي و المجتمع الياباني أو حتى المجتمع الفرنسي ، لم تعد تمثل غير " طبقة وسطى " واسعة.( لقد وجدت في تحقيق أن 80 بالمئة من اليابانيين يقولون بإنتماءهم لـ "الطبقة الوسطى".).و هو موقف لا يطاق بداهة. وكل مبحثي يوضح أن الإختلاف معمّم في كل شيء في بلد يقال عنه أيضا أنه بسبيل تحقيق المساواة و تمثـّل الديموقراطية إلخ .و في الولايات المتحدة اليوم ، لا يمر يوم دون أن ينشر بحث جديد يعرض الإختلاف في المواضع التي تمنـّى فيها البعض رؤية التجانس، كما يعرض النزاع في المواضع التي فيها أراد البعض رؤية الوفاق، و إعادة الإنتاج و الحفظ في موضع الحركة. و عليه فـ الإختلاف ( و هو ما أعبر عنه في حديثي عن المجال الإجتماعي) موجود و مؤكّد.فهل يعني ذلك قبول أو تأكيد وجود الطبقات؟ لا.فالطبقات الإجتماعية لا توجد( حتى و لو كان العمل السياسي المتأثر بنظرية ماركس إستطاع المساهمة ، في بعض الحالات ،في إكسابها وجودا ، على الأقل من خلال مؤسسات التعبئة و مفوضيات السياسة). و ما يوجد هو مجال إجتماعي، مجال من الإختلافات، ضمنه توجد الطبقة بطريقة ما في حال الإحتمال.بشكل تقريبي غير محدد المعالم لا بوصفها معطى مكتمل و إنما بوصفها مشروعا قيد التحقق.
و بعد هذا،يبقى القول بأنه إذا كان العالم الإجتماعي، بتقسيماته،ينطرح كمشروع قيد التحقق الفردي و الجمعي خصوصا، بجهد الذوات الإجتماعية الفاعلة ضمن مسار التعاون و التنازع ، فإن جهد البناء لا يتحقق على الفراغ الإجتماعي كما يتهيأ لبعض أنصار المنهج الإثنولوجي:
إن الموقع المتخذ ضمن المجال الإجتماعي، أي في بنية توزيع أنواع الرساميل المختلفة ، و التي هي أيضا أسلحة، إنما يتحكم في تمثلات هذا المجال و في المواقف التي ترمي إلى صيانتة أو تحويله.
و لتلخيص هذه العلاقة المركبة بين البنيات الموضوعية و المفاهيم الذاتية، و التي تتمركز فيما وراء البدائل العادية لموضوعات الموضوعية و الذاتية و لموضوعات البنيوية و التركيبية، بل و حتى فيما وراء موضوعات المادية و المثالية. أقول :كثيرا ما طاب لي أن أستشهد بعبارة الفيلسوف باسكال المشهودة ، بعد تحويرها بعض الشيئ:" إن العالم يحتويني و يبتلعني كأنني نقطة لكني أفهمه."[ وعبارة باسكال تلعب على إزدواجية المعني في عبارة
comprendre
التي تعني في آن "أحتويه" و" أفهمه"].و المجال الإجتماعي يحتويني كما النقطة، لكن هذه النقطة هي زاوية نظر وموقع إستشراف من نقطة محددة في المجال الإجتماعي.زاوية نظر ضمن منظور معرّف، في شكله و في محتواه، بالموقع الموضوعي الذي يتم منه النظر.إن المجال الإجتماعي هو الواقع الإبتدائي و النهائي طالما هو الذي يتحكم في تمثلات الذوات الإجتماعية الفاعلة."(ص 29)
و حين يقول بورديو " الطبقات لا توجد" يستولي أصحاب القراءة المغرضة على عبارته مقطوعة من سياقها ، بطريقة "لا تقربوا الصلاة"، و يؤسسون عليها نهاية الصراع الطبقي ، و قيل " نهاية الآيديولوجيا" بالمرة و كفى الله المؤمنين شر القتال.لكن بورديو حين يقول : " الطبقات لا توجد" فهو يعني إستحالة وجود الطبقات خارج سياق ـ و لو شئت قلت " صياغ" ـ " المجال الإجتماعي".(و كفاءة "صياغ" هنا تكمن في كونها تجسّر المسافة بين الصياغة النظرية و السياق المادي للممارسة ، ويمكن القول أن وجود الطبقة عند بورديو ينطرح كمشروع " صياغ" نظري و تعبوي. شكرا يا جريفاوي) .
إن وجود الطبقة ، بل و وجود المجال الإجتماعي نفسه ،أمور غير ممكنة بدون جهد نظري تحفزه و تغذيه مصلحة وجودية طبقية.فالطبقة و المجال الإجتماعي في مشهد بورديو ـ و في مشهدي ـ تبدو( و لا تكون) كظواهر كامنة في جسم الواقع الإجتماعي كما يبدو التمثال للنحات في جسم الرخام،أو كما قال سيدنا مايكل أنجلو بوناروتي كرّم الله وجهه: حين يقع نظري على كتلة الرخام الخام أرى تمثالي كامنا فيها، وبعدها ـ( بعد النظر ، و لو شئت قلت بعد " النظرية") ـ يقتصر عملي على تخليص تمثالي من الرخام الذي يلبكه..طبعا نظرة (نظرية) مايكل أنجلو التي تمكنه من النفاذ إلى التمثال داخل كتلة الرخام الخام ، في حين لا يرى غيره من أصحاب النظر الغشيم أي حضور آخر بخلاف كتلة الرخام، هذه النظرة العالمة هي نتاج تدريب و تحصيل وتقصّي طويل أهّلها لرؤية ما لا يراه عامة النظارة.و هنا، في منطقة النظر المؤهل يلتقي بورديو بمايكل أنجلو و بغيره من أهل النظر النـّفـّاذ.لكن فضل بورديو على مايكل أنجلو يبقى في طبيعة المشروع الذي يعمل عليه.فمايكل أنجلو يسعى وراء تمثاله الكامن في الرخام حتى يتملكه كمنجز مادي. في حين أن بورديو يعمل على تعريف الطبقة و جسمها (المتخيل و الواقعي) لا يني يتفلـّت و يتقلّب من حال إلى حال ضمن خامة "مجال إجتماعي" تاريخي متحوّل بطبيعته.( يعني عايرة و أدوها سوط).
هذا الكلام عن علاقة مفهوم النظر/ النظرية بموضوعات الطبقة و المجال الإجتماعي يحتاج لتمحيص و فلفلة أكثر حتى نقف على قيمة مساهمة مولانا بيير بورديو في مشهد الصراع الطبقي المعاصر ، بعيدا عن التبسيط وأنواع سوء الفهم العفوي و الإرادي مما يتربص بنا جميعا( و لا أستثني نفسي ) و نحن نتحاور في أحوال مجالنا الإجتماعي.و من أمثلة التبسيط و سوء الفهم، يا مازن ، كلامك البتقول لي فيهو :
"أمشي أقرا بورديو ـ برضو ـالعقلانية العملية.. في الفصل الأول البتكلم فيهو عن استبدال مفهوم الطبقة" التخيلي" بمفهوم " المكان الإجتماعي" الأكثر قدرة على توصيل علاقات مستويات السلطة ببعضها ..".و أنت حين تستخدم عبارة " إستبدال مفهوم الطبقة إلخ" فكأنك فهمت عن بورديو أنه يعارض "مفهوم الطبقة" بـ " مفهوم المكان الإجتماعي" و بورديو لم يعارض مفهوم الطبقة بمفهوم المكان الإجتماعي ، و لم يتطرق أبدا إلى " إستبدال" مفهوم بمفهوم ،(و لا ينبغي له )، و كلامه واضح في أن الأمر أمر" علاقة" مركبة متحولة بين المفهومين.فالطبقة توجد كامنة (ماديا) ،و " في حال الإحتمال"( نظريا) ضمن المجال الإجتماعي الذي هو جملة من الإختلافات المادية و الرمزية. و هذه العلاقة، علاقة الطبقة مع المجال الإجتماعي تظل رهينة بنوعية النظرة/ النظرية التي قد تملك ـ أو لا تملك حسب المصلحة ـ التأسيس للطبقة( نظريا) و تعبئتها (سياسيا) كطبقة واقعية متميزة بمشروعها.
سلام للجميع

حسن موسى