الثلاثاء، ١٤ آب ٢٠٠٧

علي المك " الفولوكس في القراش

حين كنا نعد فى لندن لتأبين الأديب الراحل على المك طلبت من الصديق حسن موسى أن يرسل لنا كلمة تقرأ فى المناسبة, وقد أستجاب للطلب بكلمة تقول الكثير عن على المك ومدينته وعن تى. اس. أحمد, وعن التشكيل .. وعن الخيبات والبؤس الذى مايزال يظلل ذلك البلد " الجاف المتلاف" كما تقول عبارة حسن نفسه.
فتحي م عثمان
________________________

على المك .. "الفولكس فى القرّاش"

"ياخى ديل ناس ما بفهمو!" قالها بحرقة فى حر ذلك النهار الغائظ من نهارات أغسطس 1977 وكان المضمر فى العبارة أن " الناس" الذين عناهم " ما بفهموا الفن", كان واقفا تحت ظل شجرة نيم بدار جامعة الخرطوم للنشر, يسند لوحة كبيرة كما يُسند الجريح المصاب, وكان يتسائل عن وسيلة يعالج بها مزقاً صغيراً فى أحد جوانب قماشة اللوحة. حين خرجت من قسم التوزيع (حيث كنت أعمل حينها) وقعت عينى على لوحة تاج السر أحمد "المابتغبانى" "الفولكس واجن فى القراش" والتى كانت بين أعمال تى. اس. أحمد فى فترة السبعينات, كان على المك يتحسر ويتفكّر وحوله "عم محمد" و "مارتينو" وبعض سعاة الدار وموظفيها وقد تحلقوا حول اللوحة يتأملون جرحها ويتساءلون عن الدواء.

كانت لوحة تاج السر قد تمزقت فى ركنها من جراء سوء التخزين فى مصلحة الثقافة التى كانت تعانى من من ضيق المجال وتدهور الحال وقد غادرها محمد عبد الحى بشعره وجنونه فآلت لنفر من الديوانيين العاديين. وأظن أن تاج السر أحمد قد استعاد لوحته من الدمار ووهبها لعلى المك, وهىعمل مدهش مفعم باللقيات التشكيلية الجديدة على ألاعيب تاج السر أحمد الماهرة فى معالجة أشكال المرئيات اليومية. وهى مثل معظم لوحات تاج السر كانت تمثل المدينة وأهلها من المنظور العلوى (المعكوس) الذى كان تاج يرى منه المدينة من على سطح بيتهم: فى المقدمة الشارع المقابل وحيطان البيوت ومرآب مودعة فيه سيارة "فولكس" ووراء الحائط حوش الرجال وحوش النسوان ثم الجيران وجيران الجيران ثم الشارع التالى ثم الحى التالى وبيوت وبيوت وبيوت متلاحمة فى نسيج محكم مع أعمدة الكهرباء والتلفون والأسلاك ولاقطات التلفزة والأشجار والسيارات والدراجات والناس والدواب.. مدينة بلا نهاية لا تترك للسماء إلا هامشاً ضعيفاً فى شكل شريط أزرق مواز للإطار العلوى.. إنها نفس المدينة التى يحكيها على المك فى أقاصيصه من "القمر جالس فى فناء داره" لـ "الصعود إلى أسفل المدينة" (ياله من عنوان قمين بلوحة تاج السرالجريحة!), إنها " مدينة من تراب" " تموت السلاحف فيها فى ليال تسع ويعمر بعوضها دهوراً". خطر لى يومها أن مفتاح صداقة على المك وتاج السر أحمد هو شغفهما المشترك بهذه المدينة التى رسمها الأتراك بحد السلاح وحصنوها ضد الأرياف والبوادى التى تحاصرها مثلما حصنوها ضد نفسها بلا جدوى فطفحت عن ماعونها التركى والثنائى والوطنوى وأخذت تستشرى وتكبر كورم خبيث تألفه حين تعجز عن علاجه وتتصالح معه بل وتحبه. كانا يتذمران من هذه المدينة المنفلتة ويعشقانها فى آن.

المهم توصلنا إلى معالجة المزق فى لوحة تاج السر أحمد وأقتضانا ذلك بعض الغراء وقطعة من القماش وساعة من الثرثرة حول أسلوب تاج السر فى الرسم ورؤيته الفنية.. كان إعجابنا المشترك برسم تاج السر أحمد واحدة من نقاط إتفاقنا وكنت فى بعض الأحيان أشاكسه فى يسر حين أتناول بالغمز بعض معارفه من "داجنة التشكيليين" الإستلهاميين فكان يسارع ويغير الموضوع ببراعة ودبلوماسية نادرة. كانت علاقة على المك بالرسامين السودانيين شئ إستثنائى وسط أهل الأدب من جيله, فكنت تقابله فى المعارض وتسمعه يعلق على مناظرات الرسامين, بل كان من القلة النادرة من أفندية الخرطوم الذين كانوا يدفعون من حر مالهم لإقتناء لوحة أعجبتهم , وأظن أن اللوحات التى نجح فى تجميعها عبر السنين والعلاقات تشكل كنزاً ثقافياً نادراً لكل من يسعى يوماً للتوثيق لحركة الرسم فى الفترة بين الستينات والثمانينات.

مرة اشترى منى رسماً بالحبر على ورق فى معرض أقمته بمكتبة المجلس البريطانى عام 1981 فقلت له محرجاً : " لو عاوز اللوحة دى شيلها, ما فى زول فى السودان بيشترى رسم!" لكنه أصرّ وقال لى مجاملاً :
" أنا زى "جيرترود شتاين" الكانت بتشترى أعمال التكعيبيين الشبان زى بيكاسو وبراك, أشترى أعمال الفنانين الشبان وبعد عشرين أو تلاتين سنة حتكون عندى أعظم مجموعة من لوحات الفن فى السودان!".
كانت تلك هى المرة الأولى والأخيرة التى بعت فيها رسماً لسودانى, وأنا جد فخور أن ذلك السودانى كان على المك.

حسن موسى
أليس, 20 / 10 / 92