الجمعة، ٥ كانون الثاني ٢٠٠٧

الفنأفريقانية سحر و بهار و موز:3الموزة الثانية

الموزة الثانية
أثناء المجاعات الكبيرة التي اجتاحت بعض البلدان الأفريقية في الثمانينات ، قالوا أن رجلا جائعا غادر قريته ليطوّف بالخلاء يبحث عن أي شيء يقيم الأود.قالوا أن الرجل في نهاية تطوافه جلس، وقد بلغ به الاعياء مداه ، فصلى و توسل الى الله أن يرأف بحاله و يرحمه بشيء من الطعام.قالوا أن الرجل ما أن قام من مكانه حتى وقع بصره على عنقود موز ناضج فسارع و أخذه في لهفة كبيرة و هو يهتف:
الـلّـه ربي ، موز... نحمدك يا ربي النّجّيتني من موتة الجوع.
و بينما كان يأكل الموزة بعد الموزة بتلذذ، وقع بصره على موزة فاسدة، فقطعها من العنقود و رماها أرضا و هو يقول:
دى معفّنة ما بتنأكل لي.
و ذهب في سبيله.
و في اليوم التالي مر جائع آخر يبحث عن أي شيء يؤكل في نفس المكان، فوقع بصره على الموزة الفاسدة التي كان الجائع الأول قد رماها البارحة، فصرخ بفرحة كبيرة :
الله ربي ، موزة معفّنة..
فاخذها و قشرها بحنو و التهمها في سعادة كبيرة ثم رمى قشرتها على الأرض و ذهب ولسانه يردد :
نحمدك يا ربي ، نجيتني من موتة الجوع.
و في اليوم الثالث ، كان جائع ثالث قد سمع اشاعة غريبة عن وجود موز في هذه المنطقة فقصدها و بدأ يبحث بهمة في كل شبر من شعابها. و في نهاية نهاره كان الاعياء قد تمكن منه، فاضطجع و سند ظهره على جذع شجرة جافة.ثم رفع بصره نحو السماء و تضرّع لله أن يرزقه شيئا يؤكل.قالوا أن الرجل ما أن خفض بصره حتى وقع على قشرة الموزة المعفنة، التي كان الجائع الثاني قد رماها البارحة، فتهللت أسارير الرجل و صاح:
الله ربي ، قشرة موزة معفنة..
ثم مال على قشرة الموزة و أخذها و نفض عنها التراب برقّة ، قبل أن يدفع بها الى فمه و يأكلها بتلذذ ظاهر، و لسانه يلهج بالحمد و الشكر للخالق الذي نجاه من الموت جوعا.
هذا الجائع الثالث هو فنان أفريقي معاصر ، و هو يعرف تماما أنه ان لم يلتقط قشرة الموزة المعفّنة، التي تنعم بها عليه الآلهة الأوروبية التي ترعى الفنأفريقانية المعاصرة، فمصيره الموت جوعا وسط لا مبالاة الجميع.هذا الفنان الأفريقي المعاصر على وعي بأن الرعاة الاوروبيين يعرفون أن لا خيار آخر أمامه سوى قبول قشرة الموزة الفاسدة التي قد يمنحونها له في حالة تعاونه معهم.
و هكذا نعرف جميعنا أن فرص الفنان المعاصر، الأفريقي المولد، في عرض عمله في محافل العرض العالمية ـ بما فيها المحافل الأفريقية نفسها ـ تضيق بشكل طردي كلما ابتعد العمل عن مواصفات الفنأفريقانية الرسمية التي يعرّفها الرعاة الأوروبيون ضمن اطار مرجعي تتمازج فيه الاستراتيجيات السياسية و الاقتصادية مع الاعتبارات الانثروبولوجية و مساعي البر النصراني بانواعه.
و في ما وراء هذه التعميمات يجدر التذكير بأن الفنأفريقانية، قبل أن تكون فترينة عرض ينتفع بها نفرمحدود من الفنانين الافارقة يعرفهم الجميع، فكأنهم الـ " المتهمين المألوفين"،
« The Usual Suspects »
في عرض نتاجهم الابداعي للأوروبيين المهتمين بأفريقيا، فهي في مبدأها أداة سياسية تتوسل بالثقافة و تطوّر من كفاءتها ضمن منظور سياسي مستديم و محكم البناء.
و اذا كان للفنانين الافارقة أن ينخرطوا في " بيزنيس " الفنأفريقانية السائدة اليوم فمن الضروري أن يدخلوا هذه الأرض المفخخة و هم على بصيرة نقدية بطبيعتها كفضاء جيوبوليتيكي تتقاطع فيه تناقضات الطبقة و العرق و التاريخ.و جيوبوليتيك الفنأفريقانية كما تطرحه علاقة الاوروبيين بالثقافة الأفريقية، ما زال قارة عذراء تائهة بين تيارات المصالح الاستراتيجية المتضاربة ضمن محيط العولمة المريع.و حين أقول" محيط العولمة المريع" ، فالروع واقع على الأوروبيين قبل الأفارقة،فالسلخ لا يضير الشاة الافريقية بعد الذبح و الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه ، الروع واقع على الأوروبيين كونهم يكتشفون كل يوم غيلان و سعالي عولمانية جديدة( أمريكية و آسيوية) تنازعهم في مستعمراتهم( السابقة؟) و في مناطق نفوذهم وفي أسواقهم التي ورثوها عن آباءهم و تعودوا على استغلالها كأمر طبيعي، و قد تتطاول وتمسك بخناقهم في عقر دارهم الأوروبية نفسها.و الحملة الاعلامية الأوروبية لصالح بناء" الاتحاد الاوروبي" تعتمد أساسا على عنصر التخويف، تخويف المواطن الأوروبي بغيلان العولمة التي تتربص به سواء من جهة أمريكا أو من جهة الصين ، حتى يقبل الانضواء تحت راية الولايات المتحدة الأوروبية القمينة بمواجهة عمالقة السوق المتعولم و حفظ نصيبها في القسمة الوشيكة لثروات العالم المادية و الرمزية.
لفهم جيوبوليتيك الفنأفريقانية ، فالفنان الأفريقي مطالب بتطوير منهجية نقدية سياسية لمقاربة ظواهر الفن الأفريقي المعاصر.و هو موقف يمكن تلخيصه في بضعة أسئلة بسيطة " بوليتكلي انكوريكت" بيد أن منفعتها بيّنة. و هي كالآتي:
1- من يدفع نفقات التظاهرة الثقافية الفنأفريقانية؟
هذا السؤال ينطلق من واقع الفقر المدقع اللاحق ببلدان أفريقيا و الذي يحول بينها و تنظيم تظاهرات ثقافية في أفريقيا ، ناهيك عن تنظيمها في أوروبا.و عموما يمكن القول بأن نوعية الجهة التي تدفع نفقات التظاهرة الثقافية الفنأفريقيانية تؤثّر بشكل حاسم على طبيعة التظاهرة و موضوعها.في واحدة من المنتديات التي نظمها المتحف البريطاني و غاليري هايوارد و أفريكا ريميكس كان النقاش يدور حول موضوع الفن و الهوية في أفريقيا،فطاب لي أن اسأل المتحدث الرئيسي " سيمون نجامي"، قوميسير معرض أفريكا ريميكس، عن هوية الجهة التي تدفع نفقات التظاهرة، و كنت أتوقع من الرجل أن يفتح بابا للريح في اتجاه حكاية الفنان الأفريقي المعاصر و حكاية قشرة الموزة الفاسدة التي تنجيه من الهلاك جوعا، و لكن " سيمون نجامي " المثقف الضليع العارف ببواطن الجيوبوليتيك الأفريقاني عمل " أضان الحامل طرشاء" و أحالني لمسئول مكتب الحسابات في المتحف البريطاني..و تعامي " نجامي " عن المؤسسات السياسية و الاقتصادية التي موّلت أفريكا ريميكس و " الموسم الأفريقي" " أفريكا 5" هو في الحقيقة اجابة صريحة تؤشر لطبيعة الجهات المريبة التي تدفع نفقات الفنأفريقانية ، و سأعود لهذا الأمر في براح منفصل.
2-
لماذا تهتم البلدان الصناعية الغنية و المؤسسات الثقافية و الاقتصادية الأوروبية و الشمال أمريكية ـ و أخيرا الآسيويةـ بالفن الأفريقي المعاصر لدرجة أن تخصص لرعايته ميزانيات ضخمة، تتجاوز أحيانا الميزانيات المخصصة للثقافة في جملة البلدان الأفريقية؟
منذ نهاية الحرب الباردة و الأقوياء- أو من يتوسمون القوة في أنفسهم – يحاولون اعادة اقتسام خيرات العالم المادية و الرمزية و يتوسلون الى ذلك الهدف بتنظيم الاحلاف و المعاهدات السياسية و الاقتصادية و العسكرية.و في هذا المشهد تنطرح أفريقيا بمواردها الطبيعية و بقيمتها الاستراتيجية، كفريسة سهلة يحلم كل من هب و دب بأن يحجز لنفسه فيها موضع قدم لنفوذ أو تأثير سياسي و اقتصادي محتمل.و كل الوسائل تبرر الغايات بما في ذلك وسيلة الفنأفريقانية.و اذا أخذنا مثال تظاهرة "آفريكا ريميكس" ، فان هذا المعرض الذي يعتبر الأكبر من نوعه( أكثر من ثمانين فنانا أفريقيا) سيكون من أهم تظاهرات الثقافية الافريقية المعاصرة في اليابان ، حين يستضيفه متحف " ماوري للفنون" بطوكيو(أبريل /يونيو 2006 ).و اهتمام اليابانيين ( و الصينيين و الكوريين و الهنود ) المتأخر بأفريقيا يمكن فهمه في اطار أزمة الطاقة البترولية التي يتوقعها العالم في العقود القليلة القادمة.و اذا كان اليابانيون و الصينيون ( و آخرون)، قدعارضوا ـ في الامم المتحدة ـ مشروع قرار فرض عقوبات على السودان في قضية دارفور، و اذا كان الايطاليون قد وقفوا، في الاتحاد الأوروبي، ضد حظر بيع الأسلحة الأوروبية لنظام القذافي ، فكل هذه المواقف تؤشر مباشرة الى حرص القوم، شرقا و غربا ،على تأمين مصادر البترول بأي ثمن، و لات " قشة مرّة" تثنيهم.و هذه فولة تحتاج لكيال آخر.
3-
أين تتم التظاهرات العالمية للفنأفريقانية ؟
معظم التظاهرات الكبيرة للفن الأفريقي المعاصر يتم تنظيمها في الحواضر الأوروبية و الشمال أمريكية.و هي تظاهرات تمولها مؤسسات و دول أوروبية و شمال أمريكية لصالح الجمهور الأوروبي و الأمريكي الذي يرى صورته بشكل محمود في المرآة الأفريقية المداهنة.و اذا كانت السنوات الأخيرة قد بدأت تشهد بعض المهرجانات الفنية و البيناليات في بعض العواصم الأفريقية كمعرض " بينالي داك آرت" في السنغال ، و معرض بينالي التصوير الفتوغرافي في مالي، فان هذه التظاهرات تمول بشكل رئيسي من قبل دول أوروبية كفرنسا أو من قبل جهات دولية أوروبية كالاتحاد الأوروبي أو " الوكالة الدولية للفرانكوفونية" أو مؤسسات فورد أو روكفلر أو الأمير كلاوس أو معهد جوتة أو المجلس البريطاني الخ.
هل يمكن أن نستنتج من هذا الواقع أن الفنأفريقانية ليست سوى وجه آخر من وجوه التعبير الثقافي الأوروبي يصنعه الأوروبيون لمنفعتهم الخاصة و لا علاقة لأهل أفريقيا به؟مندري ، لكن الشاهد هو أن معظم نجوم الفن الأفريقي المعاصر التي تطوي شهرتها الآفاق الأوروبية و الشمال أمريكية هم نكرات أو شبه نكرات وسط جمهور الفن في البلدان الأفريقية.
4-
ماالذي يجعل بعض البلدان الأفريقية تبدو أكثر حضورا من غيرها في المحافل الأوروبية للفنأفريقانية بينما يبدو البعض الآخر مستبعدا أو غائبا تماما من دائرة الضوء؟ هل يتم اختيار الفنانين بالنسبة لمواهبهم و قدراتهم الابداعية أم أن الاختيار له علاقة بالمصالح الاستراتيجية السياسية و الاقتصادية التي تطرح نفسها على الجهات المنظمة لحظة تنظيم التظاهرة؟ ما الذي يجعل بلدانا مثل نيجيريا و جنوب أفريقيا تستأثر بنصيب الاسد من حيث عدد الفنانين الذين يمثلونها في التظاهرات الفنية الدولية في العقدين الأخيرين ، في حين أن دولا أفريقية كـ السودان و يوغندا و تنزانيا و اثيوبيا و تونس و ليبيا و النيجر و تشاد و غينيا و غانا و اريتريا وموريتانيا الخ، تبدو غائبة أو مهمشة من قبل الرعاة الأوروبيين الذين ينظمون تظاهرات الفنأفريقانية؟
أظن ـ و الظن الآثم ، كما قلت لكم ، مشروع و مطلوب حين يتعلق الأمر بتفحّص دوافع الأوروبيين في الاعتناء بفن الأفارقة ـ أن قسمة أفريقيا الوشيكة، التي يتهيّأ لها الأوروبيون مع الشمال أمريكيين و بعض الآسيويين ، ضمن النظام (الفوضوي) العالمي الذي عقب الحرب الباردة، تبدو مستحيلة بغير" وكلاء" أفارقة قويين و قمينين بالتذرّع بذرائع الجغرافيا المشتركة و التاريخ المشترك و العرق المشترك، لارسال أفارقة لقهر أفارقة آخرين ، لصالح سادة السوق الرأسمالي المتعولم.و " أفرقة" العنف الامبريالي ، ليس أمرا مستجدا في ذاكرة السياسة الاوروبية الافريقية ، ففي منتصف السبعينات استخدم الفرنسيون أيام الرئيس " جيسكار"، بالتواطوء مع نظام الملك الحسن، استخدموا الجيش المغربي لسحق الانتفاضة الشعبية المسلحة التي كانت تتهدد نظام" موبوتو" في زائير. و قد عمل الجنود المغاربة آنذاك تحت امرة الفرنسيين التامة.غير أن الاستخدام الأداتي للجيوش الأفريقية من قبل الأوروبيين لم يعد ممكنا اليوم ، فالظروف الجيوبوليتيكية للعالم المعاصر صارت تحبّذ منطق" التعاون" مع الأنظمة الأفريقية، و أضع العبارة بين الأهلّة لأن " التعاون " بين الأقوياء و الضعفاء انما يعكس علاقة القوة غير المتعادلة و يمسخ التعاون لمعاني الابتزاز السياسي و الاقتصادي مما شاع في العلاقات الدولية الأوروبية الأفريقية بعد " استقلال" البلدان الأفريقية.و التعاون يتم اليوم بين بعض الأوروبيين و بعض الافارقة لحماية مصالح السوق من عواقب الفوضى الاجتماعية و السياسية في القارة" المظلمة"، بالتي هي أحسن، كما في حالة جنوب أفريقيا الغنية التي يتحرك رئيسها " الأجاويد" ـ على رأس المال الرمزي لانتصارالأفارقة على نظام الأبارتايد ـ بهمة بين الكونغو وساحل العاج و السودان. أو بالتي هي أسوأ، كما في حالة نيجيريا الغنية التي انمسخت شرطيا دوليا لغرب أفريقيا، و جيشها الجرار لا يكف عن الحركة بين ليبيريا و سيراليون، وربما السودان مؤخرا.. و في كل الحالات فان ذريعة التدخل الاولى هي " انسانية بحتة" لحماية المدنيين العزل و النساء و الأطفال.و في الفضاء " الانساني " لا يصح الكلام عن مصير الثروات و المقدرات المادية و الاستراتيجية في البلدان الأفريقية المشتعلة.
و اذا رجعنا لحجوة قشرة الموزة الفاسدة ،فان مغزى الحكاية ينطوي على رؤية متشائمة للعالم المعاصر: فقدر فناني أفريقيا هو أن يتنكبوا عواقب الوجود في عالم الفن المعاصر الذي لا يطيقهم الا كمنبوذين على هامش نظامه الشرير.و في نهاية التحليل ، فان كان الرعاة الأوروبيون للفن على غير استعداد لفهم طموح الفنان الأفريقي و مطالبه ، فذلك ببساطة لأن لا مصلحة مادية أو أخلاقية لهم في تفهّم ما يحدث في الفضاء الاجتماعي الثقافي الذي يعمل ضمنه الفنان المعاصر في أفريقيا.و في سوء ظني أن القوم سيبذلون قصارى جهدهم لتجنب الملابسات الثقافية التي تملك أن تجرهم لمخاطر تفهّم ما يحدث حقيقة في حركة الثقافة النقدية بين الأفارقة.و في هذا المشهد ، مشهد صيانة سوء الفهم المتعمّد تجاه التعبيرات المعاصرة للثقافة الفنية في أفريقيا ، فليس هناك أفضل من حجوة الموزة الثالثة.
أواصل
...........