الجمعة، ٥ كانون الثاني ٢٠٠٧

الفنأفريقانية، سحر و بهار و موز: 2،الموزة الأولى

الموزة الأولى
الصديق معتز نصر، فنان مصري شاب، كان بين العارضين في معرض آفريكا ريميكس.( عمله المعروض : تأثيث لفضاء الصالة بمئة طبلة في نوع من حوار ايقاعي مع فيلم فيديو لطبّال على الحائط ). و حضور معتز نصر ـ كفنان مصري ـ ضمن معرض أوروبي للفن الأفريقي المعاصر حدث يستحق الاشارة، كون دوائر الرعاة الأوروبيين للفن الأفريقي المعاصر قبلت مؤخرا أن عرب أفريقيا هم في النهاية أفارقة مثلهم مثل بقية سكان أفريقيا. و قد حكى معتز للحضور في سمنار نظمه المتحف البريطاني (12 فبراير 2005) حكاية ذات دلالة، فحواها أنه قبل سنوات كان قد تقدم بطلب لمؤسسة أوروبية تدعم الفنانين الشباب الافارقة بمنحهم فرص " اقامة فنية" لعام أو عامين في أوروبا، و توفر لهم شروط عمل و معيشة مريحة، حتى يتمكنوا من انجاز مشاريعهم الابداعية.قال معتز أنه ملأ كل الاستمارات الضرورية ، و أكمل كافة الشروط قبل أن يودع ملفه بريد الـ " فاونديشان" المعنية بمساعدة الفنانين الأفارقة.بعدها بفترة جاءته رسالة مقتضبة من المؤسسة المعنية تقول: نأسف لعدم الاستجابة لطلبك لأننا نمنح المساعدات للفنانين الافارقة و ليس للمصريين . اختتم معتز نصر حكايته بشكر القائمين على معرض أفريكا ريميكس لأنهم قبلوه كفنان أفريقي.
على ضوء هذه الحكاية لا مفر من طرح السؤال: ما الذي يجعل الافارقة أفارقة؟
و ما هي المواصفات التي تسوّغ للناس أن يوصفوا شخصا ما بأنه " افريقي"؟
الاجابة على مثل هذا السؤال تكمن في طيات الحجوة " الافريقية " القصيرة التي تقول أن طفلا صغيرا كان يأكل موزة و هو جالس في حجر جده،وخطر له سؤال فالتفت نحو الجد و قال:
" قل لي ياجدي ، هذه الفاكهة التي نأكلها ، لماذا نسميها موزا؟"
قالوا أن الجد صمت للحظات قبل أن يجيب:
" لأن شكلها يشبه شكل الموز، و لونها يشبه لون الموز، كما طعمها كطعم الموز تماما، فضلا عن كون الجميع يسمونها موزا ".


" و هكذا يا سادتي " ،
جئنا، بجاه جيوبوليتيك الفنأفريقانية
جئنا نتذرّع بسيماءنا الما بتغباكم ( و تعرفهم بسيماهم)،
جئنا من أفريقيا و جئنا من أوروبا و أمريكا و من واق الواق الما وراها ناس،
واجتمعنا في ذلك المنتدى" اللندنأفريقاني" الفاره، لأن بعض الجهات الأوروبية وجهت لنا الدعوة بوصفنا فنانين أفارقة.
و مالهم و الأفارقة ؟
أظن ـ وبعض الظن الآثم ضروري حين يتعلق الأمر بتفحّص أجندة الأوروبيين في العناية بأهل أفريقيا ـ أن مفهوم "الفن" في خاطر الأوروبيين لا يستقيم ما لم يعتمد على مفهوم " اللا فن".ذلك أن القوم أسسوا مفهوم الفن على قاعدة الامتياز الاجتماعي ضمن مشهد المجتمع الطبقي، و رتبوا تصانيفه الجمالية بما يتوافق و مصالح الطبقة ( فن أكاديمي عالم و فن شعبي و فن بدائي و فن ساذج و فن أطفال و فن جميل و فن تطبيقي الخ). و في هذا فالفن، كظاهرة اجتماعية متأثرة بواقع الصراع الطبقي، ليس معزولا عن بقية الظواهر الثقافية الاجتماعية الأخرى كالعلم و الأخلاق و القانون و الدين الخ ، و هو يخضع لنفس التدابير الآيديولوجية التي تصونه كأحد أدوات الهيمنة الطبقية بما ينطوي عليه من قوة رمزية ذات مردود سياسي قيم.
و عليه أزعم أن صفة " اللافن" ،المُمَوّهة بعناية حاليا، ( و بغير عناية في السابق)، في طيات الخطاب الأوروبي الذي يعالج التقليد الفني لغير الأوروبيين ، هي في الواقع صفة ضرورية لتقليد الفن الأوروبي كونها تلعب دور " المرجع المضاد"
Counter Reference
في تكريس صفة "الفن" لتقليد المهيمنين.و في هذا يمكن القول باستحالة فصل مفهوم " الفن " عن مفهوم " اللافن" ، فهما وجهان لجسم واحد هو فن المجتمع الطبقي., على هذا أزعم أن الأوروبيين انما يهتمون بالفن الأفريقي المعاصر من حيث كونه يبرر ـ في خاطرهم الطبقي ـ حالة " اللافن" الأكثر خلوصا.و أمضي في زعمي الى أن الأوروبيين لا يطيقون مجرد فكرة تجاهل هذا " اللا فن الأفريقي" كونهم يعرفون موقعه في صلب التأسيس الآيديولوجي لفكرتهم عن الفن.و هكذا يصبح موقف الفن الأفريقي المعاصر كـ " مرجع مضاد" ذريعة لتمجيد تقليد الفن الأوروبي المعاصر بطريقة ملتوية.و الالتواء يبدأ من مجرد المقابلة بين المفهومين مفهوم" الفن الأوروبي" ، بالتضاد أو بالمقارنة ، مع مفهوم " الفن الأفريقي"، و لا يهم ما اذا كان الفنانون الأفارقة قد تعلموا الفن و تمثلوا مبادئه و مراجعه على نهج المدارس الأوروبية، و أعادوا انتاجه كنوع ثقافي أوروبي.و يستمر منطق الالتواء في حرص الأوروبيين على عزل آثار الفن المعاصر الذي ينتجه الأفارقة في فئة اعتباطية تشوبها شبهات العرقية الشعبية الغليظة من نوع " الفن الأسود " أو "الفن الزنجي " أو حتى الفرز بين فنون " أفريقيا السوداء " و " أفريقيا الـ......بيضاء" الخ.
أقول : ان وضعية " المرجع المضاد " انما تمركز الفنانين الأفارقة في الوجه المظلم لتقليد الفن الأوروبي.و عليه تجوز عبارتي في كون الفن الأفريقي المعاصر هو " القارة المظلمة" في فضاء التقليد الفني الأوروبي. و في شعاب هذه القارة المظلمة يقبع الفنانون الأفارقة في انتظار الفرج حين يهل عليهم متعهدو المواسم الأفريقية، ممن لا يفقهون شيئا من أمر الواو الضكر ، ليكتشفونهم أو ليعيدوا اكتشافهم حسب الحاجة. حاجة الجيوبوليتيك الأفريقي المفتوح على احتمالات العولمة.

و ما الذي يجعل الأوروبيين " يشتهون الحنيطير" و يتنكبون أمرا في وعورة الفن الأفريقي المعاصر بما ينطوي عليه من اشتباهات جمالية و سياسية و أخلاقية تستعصي حتى على أهله العاكفين عليه عكوف النسّاك؟
ما الذي يجعل الأوروبيين بحاجة الى اكتشاف أفريقيا من جديد؟
ربما كمن تفسير الأمر في كون أفريقيا آخر فضاء يسكنه " الآخر" ، و في كون الانسان الأفريقي ما يزال يمثل، في خاطر الأوروبيين الذين تروّعهم تحولات العولمة المادية و الرمزية، باعتباره حامل مرآة الآخر الصمد الثابت المستعصي على التحول و التطور.و اشكالية الآخر التي يكابدها الفنانون الأفارقة هي في تحليل ما شأن أوروبي لا ناقة للأفارقة فيه و لا جمل من حيث المبدأ. أقول " من حيث المبدأ " لأن واقع الهيمنة المفروضة على الأفارقة يعرضهم ـ كما" خادم الفكي" ـ لتقلبات المزاج الروحي الأوروبي و نزواته العجيبة.
و اليوم حين يتأمل الأوروبي المتوسط في حال العالم المتعولم المعاصرفهو يرى العجب. بالذات حين ينظر للشعوب التي كانت تحت هيمنته الاستعمارية قبل عقود قليلة و يراها انمسخت لخصوم اقتصاديين بينهم من قويت شوكته في ساحة السوق فصار يشكل خطرا أكيدا على اقتصاد البلدان الأوروبية.هذا " الآخر " الفالت من هيمنة أوروبا هو بالضبط " الآخر " الذي لا يرغب الأوروبيون في رؤيته.ففي مرآة الآخر الياباني و الكوري و الصيني يرى الأوروبي عيوبه و نقاط ضعفه و قد ضخّمتها المسافة و سوء الفهم و اختلال البصر، فلا يملك الا أن يشيح بنظره عن هذه الصورة المقلقة و يهرب الى مرآة الآخر الأفريقي التي تعزيه أجمل عزاء بأن الدنيا بخيرها و أن أفريقيا ما زالت في طينها و رطينها خارج التاريخ.أن تخلف القارة الأفريقية ، الذي يتضامن الأوروبيون على صيانته كقدر نهائي للشعوب الافريقية، يرفع عن الأوروبيين الذين ينظرون نحو القارة المظلمة المخاوف و الشكوك التي أدخلها فيهم واقع عولمة مزلزلة لا يملكون زمامها.
على هذا التحليل أفهم " المحبة " الكبيرة التي يكنها الأوروبيون للتقاليد الأفريقية و الحماس الكبير للأصالة الثقافية الأفريقية ، بشكل يفوق محبة و حماس الأفارقة أنفسهم لتقاليدهم و لأصالتهم الثقافية.
واذا كان الولع الأوروبي المريب بالفن الأفريقي هو مشكلة أوروبية ، فما الذي يجعلنا، نحن الفنانين الوافدين من القارة الأفريقية ، ما الذي يجعلنا نحسب أيام هذا الشهر الأوروبي و لا نفقة لنا فيه ولا جمل ؟ما الذي يجعلنا نقبل صفة " الفنان الأفريقي"؟
ذلك أننا من اللحظة التي قبلنا فيهاالدعوة لـهذا " الموسم الأفريقي" أو لذاك الـ " ريمكس" الفلتكاني الخ فنحن ننمسخ طوعا الى صورة ذلك" الفنان الأفريقي" الذي يتوقع منّا الرعاة الأوروبيون أن نكونه.
الاجابة على هذا السؤال لا تكون الا مركبة تركيبا يليق بتركيب الواقع الثقافي الذي يتقاسمه الفنانون الأفارقة مع غيرهم من المبدعين المعاصرين، كونها تتصدى لشأن الفن المعاصر الذي ينتجه الأفارقة في مقام أسئلة الحياة و الموت.و هذا كله أمر جلل أرجو أن نخفف من وطأته بحكاية" الموزة الثانية" ، و هي ، لو تعلمون ، أزرط من حكاية " الموزة الأولى".