الجمعة، ٢٩ كانون الأول ٢٠٠٦

الناس أذكياء














صحيفة" ثقافات إفريقية"
Africultures Oct.Dec.2005



ترجمة مقترحة لحوار مع الفنان حسن موسى نشر في ثقافات إفريقية الإلكترونية
Africultures.comأجرى الحوار
لوسي تويا وتيري وليام كوديدجي












LucieTouya et Thierry William Koudedji
ترجمه من الفرنسية إسمعيل طه



أنطلق في حياتي من مبدأ بسيط وهو أن الناس أذكياء


حسن موسى فنان سوداني متعدد المواهب فهو رسام, مصمم قرافيك ومعلم لكنه يعرف نفسه ببساطة كصانع صور. التقينا به في جنوب فرنسا حيث يقيم, وكان أن فتح لنا أبواب فنه وأفكاره. لقد تقدم للمعرض الجماعي الذي أقامهAfrica Remix تحت عنوان : فن قارة , بمركز بومبيدو في أغسطس الماضي, بعملين فنيين. و تعد هذه سانحة أن نكتشف عمل هذا الرجل الكريم والملتزم والذي لا يدعنا دون أن يثير تساؤلات



.
لقد نشأت في مدينة بغرب السودان وتعيش في فرنسا منذ سنوات عديدة وتمارس فيها الإبداع (الرسم))والتعليم، كيف



تتعايش كفنان وكفرد مع الثقافتين؟
لا أقول بأنني أحمل ثقافتين, لدي ثقافة واحدة لكنها معقدة التركيب, وهي التي أتقاسمها مع العالم, إنها تتعلق بثقافة السوق, ثقافة المجتمع الاستهلاكي الذي بنى معالمه حسب منطق سوق الرأسمالية العالمية. إضافة لبعض العناصر وافدة من ثقافات البحر المتوسط, من التقاليد المسيحية الخ من ما يسمى بالغرب. أما الكليشيه المعتاد في العبارة اليومية المبتذلة التي تقول بأنني أحمل من جانب ثقافة عربية إسلامية شرقية أو إفريقية ومن جانب أخر أحمل ثقافة غربية, فإنها تعد في ظني انحرافا واضطراب في الرؤى أن نفكر في مفهوم الثقافة بهذه الطريقة. لانه ليست هناك غير ثقافة واحدة سيطرت وافترست الثقافات الأخرى, لكنها بالغة التعقيد وذات تشابك عظيم. فعندما آخذ إحدى الدوائر جانبا, كالمرجعية العربية الشرقية أو الإفريقية, فاجد نفسي دائما في داخل منظومة ثقافية هضمت وعضونت ثقافات أخرى في داخلها. إنني اعتبر نفسي انتمي بصورة نهائية إلى هذا العالم. ليست هناك عوالم وثقافات أخرى فكلنا شركاء داخل هذه الدائرة الثقافية, لكن يجب علينا مبدئيا أن نعي مدى تعقد وتشابك ثقافتنا. هذا هو ما أحاول أن اشتغل عليه في أعمالي



الفنية.
انك تلامس عدة مجالات من خلال أعمالك الفنية وفي نفس الوقت تعرف نفسك كصانع صور ما هو مشوارك الفني؟




كنت مبهورا بالصور منذ طفولتي. وتطبعت أولا بأول,بتقاليد فن الرسم الأوربي, لأن تلك الصور كانت مثار فضولي. كنت أراها في الكتب المدرسية, في المجلات, في الإصدارات, على البطاقات البريدية وعلي كل منتجات فن الرسم والتشكيل. وهكذا أردت أن أصنع ذات يوم مثل تلك الصور التي كانت تكشف لي عن عالم عجيب. فيما بعد في كلية الفنون بالخرطوم تعلمت تقنية صناعة الصور و حاولت تملّك تصاوير تقليد
الفن الأوربي. اليوم, وكصانع صور أو عندما أتحدث عن هذا المجال فإنني أجد نفسي في داخل تاريخ الفن الأوربي. اشعر بنفسي وريثا له,ولو أنني اشعر في نفس الوقت بأنني وريث تواريخ أخرى ربما يجهلها من هم في جيلي من الأوربيين. اعمل كشخص يمتلك عدة أدراج, فهناك درج الخط العربي, درج الرسم الأوربي ودرج الرسم بالمائيات الصينية وهكذا . إنني أحيا بكل هذه العناصر المركبة. وهي تمدني بعلبة أدوات تسمح لي بعمل ما أحب من صور.

إذن, كأنك تقوم بمد جسور بين بقاع مختلفة في شخصيتك, وبالتالي هل تعد أعمالك من الصور التي ترافق كتاب الأحاجي الموجه لجمهور الأطفال, هل تعدها وسيلة عبور لطفولتك؟




الصور التي تتحدث عنها توجد في كتب الأحاجي التي صممتها, إنها تعتبر بصورة رسمية كتبا للأطفال لكنها موجهة أصلا للكبار واعتبرها كتب للصور أساسا, فأنا لا أعدها كنوع من الكتب التوضيحية. إنها قبل كل شيء تضم صورا احبها. غالبا ما نتحدث عن كتب موجهة للأطفال لكن الكبار هم الذين يختارون في نهاية الأمر, هذه الكتب تتوجه إليهم في الغالب وكأنها تقول لهم, هذه مادة طيبة لأطفالكم. لكن إذا تجاوزنا نظرة الكبار, فان أطفال اليوم يملكون قدرة بصرية معقدة ومتطورة جدا. فمثلا, الطفل الذي في سن العاشرة ، لكي يلعب لعبته الإلكترونية، عليه ان يتمكن من إدارة ثلاثة بؤر صورية للحركة البصرية على شاشة اللعبة الإلكترونية, فهكذا نجد انه عليه أن يراقب و يعمل على ثلاثة محاور في نفس الوقت, إضافة لذلك يلزمه أن يدير اللعبة بأصابعه. إنها تجربة بصرية معقدة تتجاوز قدرات الكثيرين من الكبار. فعندما أتوجه للأطفال بكتبي وصوري, فإنني اعي جيدا بأنني أمام جمهور ذي أهلية بصرية عالية. ولهذا السبب أعتقد أن نظرة الأطفال النافذة القائمة على خبرة بصرية مركبة ستقلب موازيين وطرق صناعة الصور في السنوات القادمه. و في المستقبل القريب سوف تكون هنالك صور عديدة التي لن يتسنّى لها أن تجد قبولا في عالم كتب الأطفال



.
بمناسبة معرض افريكا ريمكس. قمت بتقديم عملين هما" أدوات للعباد"ة و" العارية الأمريكية الكبيرة", قماشة الرسم عبارة عن مجموعة من الأنسجة التي ضبطت وخيطت مع بعضها البعض لماذا هذا الخيار ؟




العمل على القماش الكطبوع يعد إحدى وسائلي التقنية التي أستعملها..وجدت نفسي يوما ما أمام إشكالية الخلفية أو الصفحة العذراء. لأن الخلفية البيضاء (العذراء) ليست خالية لكنها بيضاء بمعنى أنها مؤثـّثة بقيمة البياض. وعندما أبدأ الضرب بالريشة على جسد اللوحة البيضاء يجب على أن أتعامل مع هذا البياض. هذه العملية قادتني إلى التساؤل عن البداية الفعلية للصورة. فهي تبدأ أولاً في الرأس ثم تنعكس على المسند المادي. ونفس السؤال نجده قائماً فيما يخص نهاية اللوحة, ولأن أمر البداية والنهاية يعد مسألة من صميم الأفكار الدينية, التي تسمح للناس أن يبنوا عالماً بين الاثنين بتحديد يوم الخلق و يوم القيامة. أعتقد أن اللوحة توجد في مكان ما داخل علب رؤوسنا ، وفي لحظة ما نجد لها خلفية مناسبة لتمثيلها ومن ثم نتقاسمها مع نظرة الآخرين. ولا يعني والحالة هذه أن اللوحة قد وصلت نهايتها حالما سجلت ووضعت على الخلفية، إننا نراها باستمرار في داخل عقولنا، وينبغي العمل عليها وتحسينها بصورة دائمة. ولكي أواجه مسألة البداية على مستوى اللوحة ، بدأت العمل أولاً على مساند من ورق الحيطان. إنها خلفية تحمل آثار خطابها التشكيلي البصري وكذلك عناصرها الرمزيةالخاصة بها. ولها تاريخها الخاص لترويه وتدعى على أساسه بأنها منجزه. و أنا أباشر عليها عملي كشخص يلعب مع الشخص الذي بنى هذا الخطاب البصري على خلفية الورقة، و أبحث عن منفذ من خلاله يتسنّى لي أن انزلق إلى داخلها وأتملكها لأبنى فيها عالمي أنا، حتى أشعر بأنني أهيمن كل عناصرها المكونة.وهكذا وجدت نفسي منتبها لنوعية المسند المادي للصورة (جسد اللوحة). في وقت ما أخذت ملاءات قديمة مطبوعة، محاولاً إدخال طريقتي في تشكيل الصورة. ولذلك أرى لوحاتي.كتكملة لما هو موجود. لأن وجودي في العالم ما هو إلا تكملة لما هو موجود من قبل. في ظني هنالك الكثيرين من الفنانين الذين يتصرفون وفق هذه الطريقة. بعض الرسامين يفعلونه بوعي والبعض الآخر دون وعي. النسيج ،نسيج المسند، أي نسيج يعتبر عنصراً موجوداً وله وظيفة بطبيعته، كأنسجة تسجيل الأحداثً ذات الطبيعة الرمزية والتقنية ، أنه أي النسيج يفتح لي مجال لاستطلاع جمالي غير متوقع العواقب وهكذا عندما أجد نسيجاً مطبوعاً عليه وحدات زهر عباد الشمس فهو يقودني إلى فان جوخ Van Gogh.بنفس الطريقة التي يقودني بها نسيج مطبوع بتصاوير الموز إلى جوزفين بيكر. إنها مسألة" حتمية بصرية" ولا أستطيع أن أتخطاها. فيما يخص لوحة (أدوات عبادة) ففي اليوم الذي وجدت فيه القماش منقوشاً بعناصر تعود إلى القرن التاسع عشر, بدأ لي في أول وهلة كعالم مميز يشبه عالم الأشياء المتحفية. في ذلك الزمان ، كنت مشغولاً بصورة "سارة بارتمان "، تلك الفتاة الأفريقية التي يسمونها La Venus Hottentot . " فينوس الهوتنتوت". ولقد أثار فضولي ما تمثله في المخيلة الأوروبية . هذه الفتاة الأفريقية التي جلبت إلى أوربا في القرن التاسع عشر لكي تعرض كحيوان ، أو كشيء في معرض ، وكان الناس يتوافدون لمشاهدتها كأنهم في حلبة سيرك. لقد مثلت بها الشخصية الأفريقية ، وبعد موتها، تم الإستيلاء على جثتها باسم العلم و حنّط جسدها في فرنسا و حفظوا فرجها و مخها في علب زجاجية ظلّت معروضة في متحف الانسان (ميوزي دو لوم) إلى وقت قريب.إنها تشكل أيقونة لسوء الفهم الأوروبي الافريقي العظيم المعاصر و الذي لم يعترف به أحد بعد الصورة التي استعملتها هنا تتمثل في نموذج جبس سائل مـُقـَوْلَـبْ فوق جسدها. فالذين صمموا هذه الصورة وقدموها بهذه الطريقة أرادوا أن يعرضوها كما كانت، أي كل بطنها وأعضائها التناسلية بدعوى إظهار حقيقة ذلك الجسد. الأفريقي حينما رأيتها أول مرة وجدتها صورة مشبعة بالعنف والشراسة البالغة. فأردت أن أعرض هذا التمثّل وأدخلت في لوحتي جسد بارتمان كعنصر متحفي معرض للنظر لأنها كانت هكذا في حياتها كلها معروضة حتى بعد موتها داخل علب في إحد أكبرالمتاحف الباريسية. أدخلتها ضمن عناصر أخرى متحفية مطبوعة على القماش. ثم أدخلت بعد ذلك شكل حارس ملائكي وقررت أن كون أنا هذا الحارس كنت أهم حينذاك بأن أحيطها بأكبر قدر من الحراس.و بدا لي كل هذا التدبير كوسيلة لرد الاعتبار لهذه السيدة. في منطق التواصل،يتعلق الأمر بالنسبه لي في إعادة الصور للعالم, أن نعيد العالم صوره. فهي ، أي الصور، لها خصائص الضربات واللكمات. إننا نأخذ ونعطي اللكمات كذلك نقوم بإرسال وتوصيل العنف لأننا نستقبلها بذات الطريقة, كما يحدث هذا في حالات أخرى. كنت مؤخراً في لندن بصحبة بعض الأفارقة المتعلمين وكانوا يتساءلون إذا ما كان ممكنا للفن أن يغير العالم. أنا لست راغباً في تغيير العالم وإلى ماذا نغيره ؟ كلنا يعرف النتائج المترتبة على ما فعله الذين أرادوا تغيير العالم. لا أريد أن أغير العالم لكني لا أريد من العالم أن يغيرني . جورج بوش و كونداليزا رايس يريدون أن يغيروا العالم و يرسلوا الجنود لإقامة الديمقراطية وتغيير المجتمع ولكن مقابل ماذا ؟ ما هو الثمن ؟ وعوداً للبدء، أقول عندما يرسل العالم لي صوراً .متعفنة وعنيفة, أقوم أنا بدوري بإرسال نفس الصور إليه. و رد الصور طريقة في المقاومة ، إنها نوع من خط دفاع بالنسبة لي



.
تركيبة لوحة (أدوات عبادة) في شكل صليب تستدعي موضوع الصلب في اللوحات الكنسية و نجد فيها موضوع النحت الجنائزي النصبيي



.
أعلن هنا انتمائي الكامل لفناني عصر النهضة،و تقليد القرنين السادس عشر والسابع عشر ، و صوري تتشكّل فوق هذه المرجعيات بطريقة مقصودة. إنني أعلن عن قرابتي الفنية مع فناني عصر النهضة ، القرنين السادس والسابع عشر. أن لوحاتي تقوم على تلك المرجعية وبشكل مقصود. في هذا الإرث آخذ هذه التصاوير التي هي اليوم مجرد تصاوير متحفية .... ، إنها لوحات ميته أصبحت أشياء لدراسة تاريخ الفنون أشياء للعبادة إذا جاز التعبير لكنني عندما أستعيرها في مواضيعي فإنني أعرّضها لمعاملة جديدة فلنقل بأنني أبعثها من جديد وانشط فيها تلك الطاقة المهدودة لكي تصبح محفزاً للتفكير في أعمالي. نعم فالمسألة كما لو كنت أدخل إلي مشرحة موتي و أستخلص الجثث ثم أبعث فيها الحياة من جديد ، فإذا نجحت في أن أعيد احياء جثث اللوحات العظيمة التي وسّمت تاريخناً فياله من تشريف هائل. أعتقد أن تأثير الصور على الناس بشكل عام هو تأثير قوى بشرط أن يظل المعنى المراد إعطائه من خلق الصورة فعالاً. ويطرح هذا الواقع معضلة كبيرة ، لأن الصورة في النهاية ما هي إلا كمثل زجاجة في البحر. أنا أكتب خطاباً وأودعها الزجاجة التي تم رميها في البحر ، قد يصل الخطاب إلى أحد لا يستطيع أن يقرأ كتابتي أو الى أحد يستطيع أن يقرأني ولكنه لايفهم ما أقوله له من خلال الخطاب ، دائماً ما أكتب العنوان عنوان اللوحة بالخط العريض ، و بهذه الطريقة لا أظن إننا سنخطىء في فهم موضوع الصورة حينذاك. لكن كوني أخذت في الاعتبار كل شيء ، فذلك لا يعني أن الناس يمكن أن يفهموا معنى صورتي. بطريقة ما ، أو في لحظة ما تعتبر عملية ابراز النص ا الذي يؤطر العمل شيئاً محبطاً بالنسبة لمنطق الصورة، ولكنها يمكن لها أن تنجح أحياناً وإذا نجح لقاء العنوان المكتوب و الصورة المرسومة فذلك مصدر رضاء كبير لي



.
هل تتحدث لوحة أدوات للعبادة عن مسألة تقديس الفن المعاصر ؟




أعتقد أن الفن أصبح اليوم أداة للعبادة . فمثلاً إذا سألنا الناس في داخل مسرح أو متحف :هل بينهم من يؤمن بإله ؟ فيمكن أن يكون جواب الأغلبية بالنفي. لكننا إذا سألناهم (هل تؤمنون بالفن ؟) فالناس سيجيبون بالإيجاب .لأن الفن أصبح شىء من قبيل الاعتقادات الدينية . فالمواد الفنية أصبحت أدوات عبادة دينية ينتجها الفنانين. إنهم أصبحوا وكأنهم أنبياء مندمجين في النظام الحالي بمعنى أنهم أصبحوا تحت سيطرة السلطة, سلطة مدراء المتاحف وسوق الفن, و سلطة النقاد ومؤرخي تاريخ الفن.
لكن هناك اعتقاد بقدسية عالم الفن وهو في ظني آخر المقدسات. فالفن يبدو أنه يحتل المساحة الشاغرة بين عالم ديني قديم ومندثر وعالم ديني على قيد الظهور. إن اهتمام السلطات السياسية والاقتصادية بالفن وصرف مبالغ طائلة في هذا المجال يكشف عن القوة التي يتمتع بها الفن . أعتقد أنها مسألة ذات صلة بعقيدة مركزية في ديانة توحيد السوق. و هي عقيدة الملكية الخاصة لممتلكات عالمنا. الفن مفهوم قدسي يبرر عمل الفنان كملكية خاصة, بينما العمل الفني خلق أصلاً للعام لأنه ليس هناك سبب بأن يكون خارج إطار الصالح العام من جمهور المستفيدين الذين في داخلهم يتطور الفنان. إننا نتحدث عن الفنان كما لو كان نبيا, لكن الأنبياء ليس لهم حقوق الملكية التي يحددها السوق لصالح الملاك القانونين إن الجانب المقدس من الفن هو الذي يبررملكية الفنان لحقوق الوحي والإلهام. إنها فكرة عجيبة واعتقد إنها من صميم مجتمعنا المعاصر.فصاحب العمل يحسب نفسه مالكا لعماله, لأدواته ولكل ما يمكن أن يكون مصدر طاقة في مجال ملكيته. اليوم, لقد تم تضييق الحوار الذي يدور حول المسوغ القانوني و الأخلاقي لملكية براءة اختراع الأنسجة الحيوية، تم تضييقه و حصره بين كل من ممثلي شركات الصحة الصناعية والمؤسسات الدينية. ولا يعد هذا الحوار حوارا ذا مخاطر، بالنسبة لديانة السوق، إذا بقي في حدود المباديء الاخلاقية للثقافة الأوروبية أو حتى عند حدود الكاثوليكية. لكننا يمكن أن نفهم أهمية المشكلة عندما ننظر أليها على ضوء الأزمة التي نشبت بين الدول الفقيرة والشركات الصناعية العاملة في مجال الصحة حول أمصال مرض نقص المناعة المكتسبة الأيدز. ربما هنا تكمن الصلة بين الحياة, السوق وعالم الفن المقدس. هنالك علاقة بين هذين العالمين, لا ادري نوعيتها لكنني أعتقد أنها في حالة تشكل وينبغي أن نتأملها عن قرب.
ماذا يعني وجه بن لادن في لوحة العارية الأمريكية العظيمة؟




تعد هذه اللوحة اختصارا من وجهة نظر علم تاريخ الفن, فهي سمحت لي بإيجاد حلقة ربط بين إحدى لوحات الرسام الفرنسي" بوشي" و هي صورة كانت فضيحة في زمانها. وأعمال فنان البوب آرت" وسلمان" الذي قام بإنجاز سلسلة من اللوحات المسماة Great American Nude إضافة لهذا هناك حالة عالمنا المعاصر الذي أصبح فيه بن لادن كأيقونة رمزا محوريا من رموز المشهد السياسي و الإعلامي. لقد قمت هكذا بإيجاد وصلة ربط بين عالم اليوم وعالم تاريخ الفنون وبالتالي فهي ،أي اللوحة تعد عملاً على أيقونات متعددة ومعاصرة تحديداً. إنني أطرح سؤالاً هنا من أين خرج بن لادن ؟ إنه في الواقع فضيحة أمريكية. إنهم هم الذين شكلوه مثل فرانكنشتاين. لقد قاموا بتسليحه لكي يحارب الذئب الشرير في تلك الحقبة. حدث أنه كسب الحرب ثم انقلب ضد مشكليه وصناعه ما كان يهمني في الأمر هو أن بن لادن وجه أمريكي . إنه يخرج من المنطق الأمريكي في إدارة العالم لقد بنيت العمل في هذا الاتجاه. هنالك العلم الأمريكي كأيقونة من أيقونات عصرنا. إنها أيقونة عجيبة في حياتي. أتذكر حتى الآن المظاهرات الأولى التي سرت فيها و أنا طفل في السودان.و التي كانت ذات صلة بالولايات المتحدة, عمري آنذاك العاشرة أو الحادية عشر. كانت هناك مظاهرة إثر زيارة قام بها نيكسون أو شيئ من هذا القبيل. لم أكن أفهم شيئاً حينذاك وسط أولئك لطلبة الذين كانوا يهدرون غضباً Down down U.S.A فيما بعد عرفت بأنهم كانوا يقولون: تسقط تسقط أمريكا. في لحظة ما قاموا بحرق علم أمريكي, مرسوم على قماش بطريقة تنقصها المهارة، أمام البعثة الأمريكية. فهمت بأن العلم كان عنصراً من صميم المظاهرة. كما لو أنه يجسد أيقونة الشر. فيما بعد اشتركت في مظاهرات حرقت فيها العلم الأمريكي أبان فترة الحرب في فيتنام أو أبان أزمة الشرق الأوسط. يمثل العلم الأمريكي أيقونة ذات جبروت لا مثيل له. فيما بعد اكتشفت " جاسبر جونز" وفنانين آخرين عملوا على العلم الأمريكي.إنه أيقونة مفتاحية. كل هذه العناصر عبارة عن صور توجد معاً تتقاطع وتلتقي مع بعضها بطريقة تلقائية. إنها تتجاذب مع بعضها البعض كالمغنطيس لتشكل لوجه جديد. أعمل على أقمشة مرتقة ومخيطة أحياناً بطريقة سيئة لأنني لا أجيد الخياطة بالماكينة أو بالأحرى أحاول أن أخيط بطريقة سيئة حتى أتحايل على التقنية. إنها في نهاية الأمر تتعلق بحرفة يدوية. إنها تحايل لكي أتستطيع أن أخلق صورة تشبهني. أعرض الأشياء التي أجيد صنعتها جنبا إلى جنب مع الأشياء التي لا أجيد صنعتها, لأن عملي في النهاية هو كل هذه الأشياء معا




. إضافة إلى ممارسة تقنية الرسم, نجدك تمارس الكتابة النقدية في بعض المجلات, وتلقي محاضرات كيف فرض هذا المنهج نفسه عندك؟




إنها الإرادة في التصحيح لأننا قد نعبر عن أنفسنا بشيء وأحيانا يفهم الناس شيئا أخرا. انتقد ما يحدث لي كما انتقد نظرة الناس إلى. يمكن أن أقول أنني أصبحت ناقدا مجبرا. أقوم بإنتاج كلمات لأؤطر بها صوري, أو لتصحيح حديث يخصني, أو للتفاعل ضد أوضاع تحتم تدخلي فيها



.
لوحاتك الفنية تعج بوجوه أسطورية كالقديس سباستيان, الذي يفتح مجالات للتأويل
والمعاني الفنية والسياسية كيف تستعين بهذه المرجعيات؟




يعد القديس سباستيان أحد معالم كتاب الإنجيل, وجه إنجيلي, ويأتي اهتمامي بالإنجيل لسبب كونه كتاب المنتصرين. لقد احتلت الحداثة الرأسمالية مكانها في العالم كله, على نمط المجتمع الأوروبي المسيحي, عن طريق الإنجيل والمبشرين. قد يرتاد الناس الكنائس قليلا لكننا نجد مبادئ المسيحية ذائبة في الفضاء الثقافي السائد , فأيا كانت أصولنا, بوذيين, مسلمين أو يهود فنحن منصّرين بطريقة أو بأخرى. والانجيل بعد ذلك يعتبر ميراث إنساني أو (غنيمة حرب ) كما يقول كاتب ياسين. على عهد دراستي تاريخ الفن بكلية الفنون, انتهيت إلى حقيقة إنني لن أفهم نصف تاريخ فن الرسم الأوروبي دون قراءة الإنجيل. انه فن قام في خدمة المؤسسات الدينية, فالقديس سباستيان, القديس جورج, مريم العذراء والمسيح يشكلون جزاء من تجربتي التشكيلية. أنا أنتفع بالقديس سباستيان نموذجا لأنه يشكل بالنسبة لي مسندا لا مثيل له في خلق لوحات مركّبة تتناسب مع الرسالة التي أريد إيصالها. فالقديس سباستيان هو ذلك الرجل الذي يقرر الذهاب إلى الموت بقدميه, لأنه ان لم يذهب نحو الموت فلن تكن الحياة ذات معنى بالنسبة له. الحياة مليئة بمثل هذه الوجوه التي تذكرنا بسان سباستيان, فلذلك قمت برسم سباستيان بوجه فان جوخ أو بوجه شي غيفارا. في وسع الناس العاديين أن يصبحوا مثل القديس سباستيان. أتناول بنفس الطريقة القديس جورج وهو يقتل في التنين. انه شيق, لانه من الوجوه النصرانية القليلة التي تعمل بهذا العنف. وسيذهب القديس جورج المعاصر ليقتل التنين ويدمر متحف بغداد, كما يفعل كثير من القديسين الجورجيين الذين يدمرون في أماكن كثيرة بفضل خراقة قوتهم. هذه هي الأشياء. المتناقضة التي تتداخل في حيواتنا و أعالجها من خلال هذه الشخصيات الاناجيلية.

عندما نتأمل لوحة القديس جورج, فانه يذكرنابـ " البراق" مطية النبي محمد إلى السماء في ليلة الإسراء والمعراج)؟




عندما أختار الشخوص, فأنا أختارها حسب الجمهور الذي أتوجه إليه بالخطاب, لأنني أعرف ما ستثيره من ردود أفعال. أنا أعيش في فرنسا منذ عشرين عاما, ربما لو كنت في السودان, لاستعملت وجوه غير الوجوه المسيحية. فخيل" البراق" كائن عجيب غرائبي يحمل النبي إلى السماء مارا بالقدس, إنه يعمل بفاعلية في داخل المجتمع الإسلامي. لكنه يفقد فاعليته هنا. كان في استطاعتي أن ابني صورة كتلك, لكنها ستشاهد هنا كصورة دخيلة وغريبة اكزوتية. وأنا لا تهمني هذه. الإكزوتية



.
تعطي لوحاتك انطباعا بأنها تنطلق من حركتين, فمن جهة هناك حركة استوعبت تاريخ الفن الغربي, و حركة مقاومة نابعة من هذا العالم التوفيقي, من جهة أخرى. ماذا هناك من فعل للمقاومة في أعمالك؟




المقاومة مسألة مركزية في حياتي , ليس وحسب في أعمالي الفنية, إننا نحاول أن نقاوم, نحاول أن نجتاز الحواجز, لكن أحيانا قد لا يكون هنالك خيار, فنتخلى. اصعب الأشياء هو أن تفكر في خط التراجع, حينما يكون الأمر غير محتمل. أتذكر قصة حدثت معي قبل عشر سنوات, أثناء درس في الرقص المسمى في فرنسا بـ " رقص الجاز" .كنت الأفريقي الوحيد في الدرس. في لحظة ما, كان على المجموعة أن تقوم بحركة معينة ونحن نرقص. كنت من ضمن الذين نجحوا في أداء حركة الرقص. أخذتني المعلمة نموذجا وقالت لبقية التلاميذ ( انظروا إلى حسن, فبما انه إفريقي فقد قام بأداء الرقصة بطريقة تلقائية) .
لم أتجرأ حينذاك, لأقول لها بأنني قادم من بقعة في إفريقيا يعد فيها رقص الرجال عيبا. نرقص حينما نكون صغارا, لكن الأمر يصبح فيما بعد شأنا للفتيات والنساء, لكنني لم أتجرأ لأنني كنت محفوفا بنظرات الإعجاب التي كانت تطوقني, كأنهم ينظرون إلى الإفريقي الذي يجري الرقص في عروقه مع الدم. فلا يحتاج إلى بذل جهد للتعلم, بينما كنت أجتهد وأتعب في أداء هذه الرقصة. لقد بذلت جهدا كبيرا لتعلم هذه الحركات لكن لم يكن سهلا كذلك أن أشرح هذا لهؤلاء الناس الذين كانوا ينظرون نحوي باعجاب. وهنا, إذن, يأتي فعل التراجع, لقد قبلت بهذه الهالة التي حولي هالة الراقص الإفريقي بينما كانت المسالة ضد طريقتي وكينونتي في الحياة. لكننا نستطيع أن نقاوم, فكما أشرت سابقا, لا أريد أن أغير العالم و في الوقت نفسه, لا أريد من العالم أن يغيرني وهنا المعضلة. فمسألة استمراري في الرسم, بالرغم من وجود حواجز وأشياء معطلة, اعتبرها فعل مقاومة . فالرسم يفقد أولويته أحيانا أمام شروط البقاء. فنحن منقادين بأشياء أخرى كثيرة



.
. انك تقاوم مفهوم الفنان الأفريقي الذي يعرفك في إطاره الذين يحترفون العمل في مجال الفن المعاصر؟ في المقابل تتحدث عن" الفنافريقانية" ماذا تعني بذلك؟




الفنافريقانية مفهوم ديناميكي ابتكرته مؤسسات تجهل الواقع الاجتماعي للأفارقة. انه الفن الذي يفترض الأوروبيون أن الأفارقة ينتجونه . و يتم التفكير فيه هنا في أوربا للأفارقة. وهذا الفن الذي يعرض, أثناء التظاهرات الفنية الاوروبية التي تدور حول الثقافة الإفريقية, و التي تتوجه أساسا لجمهور أوربي. فكل شيء يتم صنعه هنا, الرعاة أوروبيون و الفنانون يعيشون في أوربا في أغلب الأحيان, وإذا كان بعضهم في إفريقيا, فان نظرتهم دائما ما تكون تجاه أوربا الخ. وعليه, يمكن القول بان مصطلح الفن الأفريقي هو جزء من هذه الآلة الاقصائية والتي تعي بأن الأفارقة المولودين في إفريقيا يعدون جزءا من مشهد الفن المعاصر لكنها لا تقبلهم داخله حتى وان كانوا عباقرة, وبالتالي يتم وضعهم في داخل منظومة الفن الغير الأوربي. إن الفنافريقانية ابتكار له عدة وظائف, لكنه لا علاقة له به بفن وواقع القارة الإفريقية, ويمكن أن ننتمي لهذه المنظومة أو لا لكنني أشير هنا إلى النتائج. وأعتقد انه وفي أغلب الأحيان يكون نتاج بعض مفاهيم الجيوسياسية الأوروافريقية. فالأفارقة لا يملكون المال اللازم للقيام بمثل هذه التظاهرات وبالتالي غالبا ما يأتي الدعم المالي من قبل الأوربيين أو الأمريكان, من خلال شركات ومصانع لها مصالح استراتيجية في إفريقيا



.
حسنا ما هو رأيك تجاه ممول معرض افريكا ريمكس القائم في مركز بومبيدو, وهو ليس سوى شركة توتال؟




لابد من وجود أمير راعي للفن, إنها فكرة من صميم التقاليد الأوربية. في عصر النهضة كان هنالك أمراء وملوك, فيما بعد في فترة الجمهورية الفرنسية هنالك رؤساء. اليوم, وفي عصر العولمة لقد تم إحلال دور الأمير بالشركات الضخمة التي تدير كل شيء. ففي هذا الاتجاه, يمكن لشركات مثل توتال, مايكروسوفت وموبيل أن تنشط من أجل الفن, وحري بها أن تقوم بهذا النشاط بصورة علنية. فيمكننا أن نعرف حينذاك أين مكاننا بالضبط, بدلا من أن يتستروا خلف قناع منظمات المساعدات الإنسانية. وبالتأكيد هنالك أسئلة كثيرة يمكن أن تثار ما دمنا نتحدث بهذه الطريقة. فمثلا, لماذا تهتم هذه الشركة بالفن الأفريقي؟ وبأي نوع من الفن الأفريقي؟ هل هنالك سلطة فكرية داخل هذه الشركة تقرر في مصير الفنانين؟ وبأي منهجية؟ هذه نماذج أسئلة مشروعة. ومن ثم أسأل نفسي هل لدي مصلحة كفنان أن أنتمي لمشروع كهذا؟ وإذا لم أنتمي ما هي النتائج المترتبة على ذلك؟ إنها أسئلة يجب أن يثيرها الجميع, الفنانون ومناصرو الفن. وفي الختام ما هي النتائج المترتبة, على المدى البعيد من عمل هذا النوع من الممولين المناصرين للفن؟

لكن وبالرغم من ذلك فأنت تقوم بالاشتراك في هذه التظاهرات, كيف تفسر هذا الالتزام؟




أعتقد أن الجميع في فضاء الفن الافريقي يعرفون كيف أفكر, و قد ينظرون إلى,أحيانا, كشخص مزعج, فكلما كان هنالك تجمعا للفنانين الأفارقة, فإنني أجاهر برأي في أن الفن الإفريقي ليس سوى أكذوبة كبيرة. لكنني في نفس الوقت أجد نفسي معهم, لأنني لا أملك مكانا أخرا. انه المكان الوحيد الذي يسمح بعرض ما أقوم به من عمل. لكن حتى إذا توفرت لي منابر أخرى أعرض فيها أعمالي, فإنني سأستمر في ارتياد هذا المنبر لأنه لا يشكل مجالا للفن وحسب انه أيضا مجال لممارسة العمل السياسي. وكل الذين يعملون في هذا المجال, سواء اللجان المنظمة للمعارض و مناصري الفنانين, على درجة من الوعي بالبعد السياسي لهذه التظاهرات. لكن هنالك كثير من الأفارقة الذين لا يعون مسألة تداخل السياسة مع الفن. وفي هذا الاتجاه, أعتقد انه يمثل مجالا سياسيا ثمينا لأننا حينما نفهم وظيفتها يمكننا حينئذ أن نغير مجرى وأهداف التظاهرة كلية. لا ينبغي أن نترك المجال كلية لسيطرة اللجان المنظمة لهذه التظاهرات



.
ألا تعتقد بأن خطابك هذا يصب في خدمة مناصري فن ومؤسسات الفنأفريقانية بإعطائهم وزنا وعمقا اكبر؟




كلا, إنني أنطلق من مبدأ بسيط وهو : الناس أذكياء ! فإذا أخذنا معرضا كبيرا يزوره حوالي 60 ألف متفرج في الأسبوع, فسنجد عددا من المشاهدين يتمتعون بدرجة من الحساسية لكي يفهموا الخطاب المزدوج المبثوث وينتقون منه ما يصلح. في اعتقادي أن الناس أذكياء بما فيه الكفاية لكي يعيشوا ويتأقلموا مع عالم يتطور بسرعة مذهلة, فقبل ثلاثين عاما لم يكن هنالك أحدا يتصور بانهيار الاتحاد السوفيتي وحائط برلين وأن ينتهي نظام التمييز العنصري في جنوب إفريقيا. واعتقد أننا سنضحك بعد بضعة سنوات لفكرة أن يضعوا الفنانين السود معا تحت مسمى ( انتم الفنانون الأفارقة)فعندما نعيد التفكير اليوم في ما حدث قبل قرن حينما تم جلب الأفارقة لكي يعرضوا في حديقة حيوانات ، ويأتي الناس لمشاهدتهم هنا في باريس, فبنفس الطريقة, تعتبر افريكا ريمكس وافريكا 05 وكل التظاهرات التي تتم باسم الفن الإفريقي حدائق حيوانات الحاضر. فربما سيأتي اليوم الذي سيقول فيه الناس, بعد ثلاثين أو خمسين عاما: كيف سمحوا بتنظيم شيئ من هذا القبيل؟