من اخترع الافارقة
الحلقة الثامنة
و من اخترع السودانيين؟
غاية الآلة الأفريقانية هي تشكيل نوع من الافارقة يشبهون الصورة المزيفة للأفريقي التي تخلّقت في الخاطر العرقي الأوروبي، ثم تسويغ التباسات هذه الصورة بالصورة الواقعية حتى يخلص الافارقة، قبل غيرهم،الى قبول صورتهم المزيفة الممسوخة و تبنيها وانكارغيرها.و اذا كان سدنة الفنأفريقانية الاوروبية يخوضون حرب التصاوير الافريقانية بمثل هذه الضراوة المكلّفة فما ذلك الا ليقينهم من أن انتصارهم في هذه الحرب العجيبة انما يعني الهيمنة على رأس المال الرمزي لأهل أفريقيابشكل حاسم.و هي غنيمة ثقافية مردودها الاقتصادي و السياسي لا يقدّر بثمن.و اذا كان رواد الصنعة الفنأفريقانية في البداية يقتصرون علىبعض بلدان غرب أوروبا المهمة كفرنسا و بريطانيا، فان الثقل الجيوسياسي للصنعة الفنأفريقانية أصبح يحفّز الكثيرمن الاوروبيين اليوم على تنظيم المبادرات الفنأفريقانية كما في مثال ألمانيا و اسبانيا و ايطاليا و البرتغال...و بين الدول الآسيوية المهمة يبدي اليابانيون اليوم اهتماما أكيدا بالفنأفريقانية.و لا أحد يعرف بعد الشكل الذي ستتخذه الآلة الفنأفريقانية الصينية غدا. و في النهاية لا أحد يعرف كيف يستعد الافارقة لاستقبال هؤلاء و أولئك، هذا ان كانوا يستعدون فعلا.
هذه السطور لا تكفي للاحاطة بمجمل التشعب و التركيب اللاحق بالآلة البديعة التي ينتفع بها الأوروبيون في فبركة صورة أفريقيا على مقاسهم النيوكولونيالي.و اقول: " الآلة البديعة"، كون القوم تمكنوا من اختراع ألة للقهر سحرها يأسر القاهر و المقهور في آن.و عبارة " الآلة البديعة" تستدعي لخاطري صورة تلك الآلات التي ترتجل في عجلة شرط السوق الرأسمالي لتصبح في زمن وجيز جزءا من الأمر الواقع، كما منحوتات السويسري " جان تينغلي" الانتحارية التي عرف بها في مطلع الستينات.و هي منحوتات آليةـ أو آلات نحتية ـ مزودة بمحرّك. و ما ان ينطلق محرك المنحوتة، حتى تدور أجزاءها الموصلة بالمحرك في حركة عشوائية مجنونة في كل الاتجاهات الى أن ينفصل كل عضوعن أصله بفضل القوة المركزية الطاردة و تنتثر الأجزاء في الفضاء و لا يبقى سوى المحرك الذي يظل يدوروحده الى أن يستنفذ طاقته ويهمد تماما.و لكن خلافا لآلات " جان تينغلي" الانتحارية فان الآلة الفنأفريقانية حين تشرع في صيرورتها الانتحارية فهي تجر الافارقة معها في مسار التدمير الذاتي.وأنا أقول هذا بعيدا عن المجاز البلاغي، اذ يكفي التأمل في مصير هذه الآلة المسماة بـ "الدولة القومية" التي غنمناها،بدون تفحّص نقدي ـ كما الهدية المسمومةـ ضمن ما نابنا من ميراث غنائم الحداثة الاستعمارية ، فدخلت علينا بالساحق و الماحق،و انحطت لحالة "الدولة القبلية" في الصومال و في رواندا و في ليبيريا و في الكونغو الخ(وماخفي أزرط). و تأملوا في مصير هذه الآلة المسمّاة بـ " التبادل الاقتصادي" بين بلدان أوروبا و أفريقيا، الذي انمسخ الى دَين مزمن وذريعة لاستعبادنا لأبد الآبدين، و نحن قوم نعبر في حكمتنا عن عبودية الدَين بعبارات مثل " سيد الدين سيدك".ثم ما قولكم في هذه الآلة الأخرى المسمّاة " التعاون الثقافي" التي انكشفت عن كونها مجرد ذريعة للتدخل في تدبيرنا الرمزي و الانحراف بمساراته لصالح استراتيجيات الهيمنة و الوصاية و صيانة مناطق النفوذ، لغاية هذه الآلة المسماة بـ " الثقافة الأفريقية" بصيغة الافراد لشعوب قارة بحالها.و هي آلة مهمتها مصادرة التعدد الثقافي الاجتماعي التاريخي و العرقي لأهل القارة، و اختزالها في هيئة كيان زنجوي مبسّط و طيّع و قابل للقسمة بين غيلان رأس المال و سعاليه التي لم تكف عن افتراس خيراتنا المادية و الرمزية منذ فجر الاستعمار.و ضمن آلية الثقافة الافريقية تبدو " الفنأفريقانية" كمجرد ترس صغير.لكن هذا الترس الصغير يلعب دورا كبيرا في تسويغ صورة أفريقيا كما يتمناها الخيال الاوروبي الملتوي كتجسيد لفكرة الاصالة الخالصة المنزهة عن كافة الشوائب.
ماذا نفعل بهذه "الأصالة الافريقية" التي صممها الفنأفريقيون الاوروبيون ـ كما قميص عامر ـ على مقاسهم قبل أن يبذلوها للأفارقة. ماذا نفعل بهذه الصورة المشاترة التي رسموها لنا من وحي خيالهم ثم طالبونا بأن نشبهها؟
ان مشكلة مفهوم" الاصالة الافريقية" تكمن في كونه يفترض للثقافة الافريقية أصلا خالصا منزها من الشوائب، تتميّز به عن غيرها من الثقافات.و في مبدأ الاصل الثقافي الخالص ضلال مفهومي كبير يدحضه الواقع التاريخي للظاهرة الثقافية.فالثقافة، مطلق ثقافة، انما ترتهن بحركة التاريخ الذي تتخلّق في اطاره، تاريخ التناقضات بين مصالح الفرقاء الاجتماعيين.والثقافة بهذا تتشكل ـ كما الكائن الحي ـ على صورة تناقضات المرحلة التاريخية ، وان غفلت عن هذه المهمة تفنى. و ضمن هذا الافق، افق البقاء، تفاوض كل فئة اجتماعية يتفق أفرادها عند مصالح اجتماعية بعينها، تفاوض نصيب ثقافتها من الشوائب التي لا مناص منها و تسعى لتوليفها و تكييفها مع مشروعها الاجتماعي.و الواقع الثقافي المعاصرلثقافات أهل السودان غني بالامثلة على مساعي المفاوضة المستمرة التي تتكشف عنها عبقرية السودانيين، بسبيل التوفيق بين تناقضات الجغرافيا و التاريخ تحت شروط الواقع الاجتماعي المعاصر، وهذا مبحث يفيض عن سعة هذا المقام.و خلاصة الامر هي أن الثقافة لا تكون الا ملغومة بنصيبها المعلوم ، و غير المعلوم، من شوائب شرطها التاريخي.( و" الشوائب" في لسان العربان صيغة جمع تدل على" العيوب و الادناس و الاهوال"، و في مادة" شوب" معنى الخلط و الغش و الخديعةو هي صفات شحنتها الدلالية الدينية البيّنة تسوّغ لأنصار "الأصالة الثقافية" تهريب السؤال الثقافي خلسة لأرض الدين بلا مناقشة أو تمحيص.و أعني بـ "أرض الدين" تلك المنطقة التي يتحلل فيها الناس باسم الاعتقاد أو باسم الذوق،أو بكلاهما، من مقتضيات المنهج العقلاني الموضوعي، و هي أرض يتقاسمها أهل الاعتقاد الديني الرسمي مع الكثيرين من المتدينين الفطريين المتنكرين وراء الاقنعة العلمانية الرسمية، و هذه فولة تنتظر كيّالها في مشهد مناقشة التديّن و العلمنة المبذولة للمسلمين اليوم).أقفل قوس الدين هنا و أعود لمسألة "شوائب" الثقافة الافريقية التي تفسد على الفنأفريقانيين الاوروبيين و غير الاوروبيين بهجة الكرنفال العرقي السعيد.أقول : ان الثقافة لا تكون الا مشوبة، و هذه قولة لا يطيقها أنصار ثقافة الهجنة و التمازج، الذين تتأسس فكرة الهجنة في خاطرهم على افتراض الصفاء الثقافي لدى الثقافات المتهاجنة قبيل مباشرتها لفعل الهجنة.و لو شئت ترجمت عبارة " فعل الهجنة" بفعل" الخيانة"و " الغش" و "التدنيس" لعناية الخلاسيين العربسلاميين الذين يموّهون وراء زهوهم الجمالي المغالي بصُدفة التخلّس الزنجعربي في السودان ، أزمة وجودية عميقة سببها الاحباط العرقي الذي يتخلّق في ما يمكن أن نطلق عليه " مُرَكّب ود الحرام" في الثقافة السودانية العربسلامية، و ذلك في معنى الكائن الخلاسي الذي يعاني من كون أبيه العربي لا يطيقه بينما هو شخصيا لا يطيق أمه الزنجية.و قد مر على السودانيين ـ قبل أن ينمسخوا لـ " سودانويين" ـ مر عليهم عهد كانوا فيه " عارفين عزّهم" العرقي و " مستريحين" و " أولاد بلد" يقعدوا و يقوموا على كيفهم الخ..في ذلك الزمان لم يكن عدد المشغولين بـ " مدرسة الغابة و الصحراء" يتعدى ذلك النفر القليل من أهل الصفوة الخرطومية الذين كنت تشاهدهم، بسلامتهم، في المحافل الثقافية التي كانت تنشط داخل أرض " استحكامات غردون". ثم جاء عهد خرج " أولاد البلد " فيه من جغرافية" البلد" و تشتتوا ايدي سبأ، في بلاد العرب و السجم و الرماد، وعيّرهم" الاخوة في العروبة" بسوادهم و بزنوجتهم، وداخلهم شك كبير في " عزّهم" وفقدوا الراحة و الامن الرمزي العرقي المتوارث أبا عن جد في " البلد" اياها.صار أولاد العرب "دياسبورا " في بلاد العرب، و لم يعد بامكانهم أن يقعدوا و يقوموا على كيفهم في بلاد طيرها العربي عجمي مستعرب و مستغرب من فصاحة السودانيين.و كتب عليهم أن يشرحوا لداجنة العربان لغتهم ونسبهم و خصوصيتهم كتجسيد حي لواقع الهجنة العربية الافريقية.و في هذا المشهد اكتشف شعب المتعلمين بين المغتربين السودانيين عزاءا كبيرا في أدب " الغابة و الصحراء"، كونه أدب يشرح للعربان(و هيهات) تعقيد المسألة السودانوية في أناقة عربية معاصرة، فضلا عن كونه يقعّد هؤلاء العرب" السود"(انيين) مقعد قبول في محافل الثقافة الرسمية الـ" كل عربية"بأنواعها.و هي ثقافة بروباغاندا ترعاها سلطات الانظمة العربية القومية و تتعزّى بها عن واقع الخلافات و أنواع الشتات العربي الازلي.
لكن الرواج الشعبي الذي يلقاه أدب شعراء " الغابة و الصحراء" وسط الدياسبورا السودانية في بلاد العربان يتميز بطابع انتقائي يختزل التنوع الابداعي لشعراء الآفروعروبية المهمين لحدود التعبير الايديولوجي السودانوي للطبقة الوسطى العربسلامية في السودان.و لو تمعنا في كم الاقتطافات الاجبارية التي تتواتر في أدبيات الهويولوجيا السودانوية لوجدناها لا تتجاوز الابيات و المقاطع الشهيرة التي" تأيقنت" بفعل التكرار و تحولت الى نوع من ستار يحجب المساهمة الشعرية لهؤلاء الشعراء المهمين.مثلما يحجب من وراءهم شعراء سودانيين مهمين لم تكن صيانة السودانوية بين أولوياتهم. و مما "زاد الطين بللا" أن بعض محترفي السياسة الناشطين في منافي التسعينات وجدوا في عظم الأدب السودانوي" كدّة" فاستولوا عليه وغنـموه جهارا، و أدباء السودانوية الاحياء ساكتين و متواطئين ـ و قيل " مستفيدين " ـ و مافيهم زول قال:" بغم"...( و هذه فولة أخرى لا أجد لها براحا في هذا الكيل فصبرا يا حضرات).
أقول أن الثقافة لا تكون الا مشوبة. و هي قبل كل شيء، و بعد كل شيء، مشوبة بنوعية النظرة التي ينظر بها اليها أهلها مثلما هي مشوبة بنوع النظرة التي يلقيها عليها الآخرون من منصّات ثقافاتهم.و نحن اذ ننظر لما نعتبره ثقافت"نا" فان ضمير الجماعة الناظرة يقبل القسمة لغاية أقل تشكيل ممكن لأصغرجماعة قمينة بانتاج ثقافة ما بين ثقافاتنا. و حين ينظر الآخرون لما يعتبرونه ثقافتنا فهم انما يفعلون ذلك من واقع تعددهم و اختلاف رؤاهم و مصالحهم .و في هذا الافق يجدر التعامل بكثير من الحذر مع عبارة " الثقافة الافريقية" التي يؤسّس عليها كثير من الناس طرائق و اساليب التعامل مع الافارقة.ففي الـ" بيزنيس" السياسي و الاقتصادي الذي يقوده الاوروبيون في أفريقيا تتمتع عبارة " الثقافة الافريقية" بثقل نوعي خطير.وهذا الثقل الدلالي المميز لعبارة " الثقافة الافريقية" هو ، في تحليل نهائي ما، أمر لا مصلحة لأهل أفريقيا في تجاهله.
و على هذا فان افريقيا التي َنفَدتُ بجلدي منها في نهاية السبعينات لا علاقة لها بأفريقيا البحّاث الاثنولوجيين و من لف لفهم من الأفريقانيين المحترفين،مثلما لا علاقة لقارتي المظلمة و الحارة الجافة المتلافة بأفريقيا" الام"(موذرآفريكا)، التي تهجس خواطر السود
" الآفرواميريكان" و لا خواطر رجال " الراستا" البريطانيين وسلالات أهل جزر البحر الكاريبي الذين يصلون الارحام السوداء بذريعة الدياسبورا. ان لأفريقيا التي تسكن خاطري صورة عامرة بالاشتباهات المشروعة و غير المشروعة التي يبذلها لي الاعلام المتاح على علاته. صورة القارة التي تفاوض أسباب البقاء بين الحروب و المجاعات وايقاعات الطبول الاكزوتية اياها.و هي على كل حال الصورة الوحيدة المتاحة لأفريقيا تحت الشرط الراهن . فما ذا نصنع بهذه الصورة ؟
أنا شخصيا، افضل الاحتفاظ بهذه الصورة الخائنة الممسوخة،و" مضايرتها" و امعان النظر النقّاد المتأنّي في مكوناتها، مهتديا بمقولة " الجن التعرفه أخير من الجن الما بتعرفه". كون هذا الـ "جن " المعروف لنا هو ، في تحليل نهائي ما، "جرادة في الكف.."، بل هو" الجرادة "الوحيدة التي نتقاسم معرفتها مع الافارقة و مع غيرهم من أهل شمالي المتوسط و أهل آسيا و أمريكا.هذه "الجرادة المشتركة" هي الحد الادنى الذي يمكن لنا أن ندبّر عليه فرص المخارج التنموية المشرفة لمجتمعات أفريقيا.
و حين أقول بـ " مضايرة" الصورة المتاحة لأفريقيا فأنا استخدم العبارة في معنى الاعتناء النقدي الواعي بها في مدلول فعل" المظاءَرة".و المظاءرة في لسان العربان تدل على عطف الناقة أو المرأة على ولد غيرها فتتبنّاه وترضعه بدلا عن أمه الغائبة.و فكرة مضايرة هذه الصورة الممسوخة لأفريقيا تفرض نفسها علينا بحكم أنها الصورة الوحيدة المتفق عليها فضلا عن أن ضرورات البقاء المادي تفرض أولوية تعريف المخارج الواقعية العاجلة لأهل القارة على الجدل البيزنطي حول تعريف الصورة المثلى لأفريقيا. فلا وقت أمامنا حتى نصرفه في ترف تعريف الصورة المثلى للقارة.
و"مضايرة" صورة أفريقيا يستدعي الى الخاطر هذا التقليد " الافريقي" القديم، تقليد " البصارة " المهنية و الحكمة الحرفية الذي يعتمد عليه الـ " اسطوات" الاميون في فهم و ترويض و ترميم و اصلاح، بل و اعادة اختراع آليات المجتمع الصناعي المكلفة التي ترد بين ظهرانينا بشكل فوضوي، بلا تدريب أو تحضير مسبّق، و بدون" دليل الاستعمال" اياه ،ثم تهلك في أصقاع بلادنا بفعل الحر و الغبار ووعورة المسار، فيتأمل القوم في مصيرها الأفريقي قبل أن يتفتّق خيالهم الحرفي الشعبي عن أذكى المخارج التقنية لبعث الحياة في أوصال الآلة النافقة. و " الحاجة" التي هي" أم الاختراع"( و أبوه كمان)، راكمت في خبرة الأهالي تراثا واسعا من أدب البصارة التقنية الشعبية ، و هو تراث فريد في نوعه ، له أعلامه و مواقفه و حلوله البراغماتية الذكية التي تحفظها ذاكرة الاجيال. وذلك وجه من وجوه الحداثة الافريقية يجهله خبراء الفنأفريقانية.
ان المظاءرة النقدية لصورة أفريقيا المتاحة يقتضي حيلة و خيالا واسعا من قبل كل المهمومين بمصير أفريقيا.و أول الحيلة انما يكون في الاستفادة من كل المادة المبذولة في صدد أفريقيا، بما فيها المادة الفنأفريقانية اياها(بصرف النظر عن رأيي الشخصي في مزالقها الاكزوتية المشهودة).و على منطق الاستفادة لا أستبعد أي من الفنأفريقيين الميامين من نوع" جان هيبير مارتان " أو"جان كلير" أو " سوزان فوغل" الخ ...فهؤلاء القوم يظلون مفيدين لفهم فنون الافارقة بحكم كونهم ، و حتى اشعار آخر، يمثلون ـ و بصرف النظر عن دوافعهم الحقيقية ـ القلة القليلة التي تبدي الاهتمام بما ينتجه الافارقة من فن. و ضمن هذا المنظور فهم يعرّفون مجالا نظريا لمباشرة الحوار حول الأسئلة التي يطرحها على العالم المعاصر فن الافارقة.
في فجر الغزوة الاستعمارية وجد الاوروبيون أنفسهم أمام لحظة خيار فادح يقتضي منهم اتخاذ موقف تاريخي بالنسبة لأهل المجتمعات غير الاوروبية التي بسطوا عليها سلطان رأس المال بذريعة عبء الرجل الابيض النصراني المتمدّن:
اما أن يتآخوا مع المهزومين، و يتضامنوا و يتقاسموا معهم خيرات العالم المادية و الروحية محققين بذلك حلم الحضارة الانسانية النبيل بامكان يوتوبيا السعادة النصرانية الناجزة حيث " يسكن الذئب مع الخروف و يربض النـمر مع الجدي و العجل و الشبل و المسمّن معا و صبي صغير يسوقها. و البقرة و الدّبّة ترعيان. تربض أولادهما معا و الاسد كالبقر يأكل تبنا. و يلعب الرضيع على سرب الصل و يمد الفطيم يده على جحر الافعوان. لا يسوؤون و لا يفسدون في كل جبل قدسي لأن الارض تمتلئ من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر.."(العهد القديم، اشعياء، الاصحاح الحادي عشر).
أو أن يهيمنوا و يستعمروا و يستغلوا هؤلاء الناس المقهورين الذين ما كان فيهم من يمانع مبدئيا في الانخراط في يوتوبيا السادة و الاستفادة من خيراتها المادية و الروحية.
و اليوم في فجر العولمة الليبرالية يجد الاوروبيون أنفسهم أمام خيار اخلاقي فادح مشابه: هل يتضامنوا مع المقهورين و الفقراء بسبيل استعادة اليوتوبيا الانسانية المفقودة ، أم يتحالفوا مع الاغنياء الاقوياء بسبيل استعادة نصيبهم من غنائم حرب العولمة الليبرالية
التي يشنها رأس المال على الفقراء.و هي غنائم تافهة لا تسمن و لا تغني من جوع و لا تكفي لترميم اليوتوبيا النصرانية المتداعية التي يتمترس خلف أسوارها بناة أوروبا البواسل. هؤلاء الرجال و النساء العلمانيون الذين لا يتورعون عن الاحتجاج بالدين لاستبعاد تركيا المسلمة من قسمة الاتحاد الاوروبي. و رغم أن عرضي لمأزق الطوباويين من عيال النصارى ينطوي على شيء من التبسيط ، الا أن تبسيطي انمايجد تبريره في البساطة المقابلة التي تغلّف بها بروباغاندا رأس المال المتعولم التناقض التاريخي، في عرضها لحال الحرب الجارية بين الاغنياء و الفقراء، كحرب بين الحضارات المصنفة شرقية ضد تلك المصنفة غربية.ان حرب "قوى الخير " ضد "قوى الشر" التي تشنها البلدان الغنية تحت قيادة " بوش"( الاب و الابن) على البلدان الفقيرة، التي يزعم قيادتها الانبياء الكذابون من شاكلة " أسامة بن لادن" أو" صدام حسين"أو "معمر القذافي"( و أولادهم)، انما تجسد أغلظ أشكال التبسيط المغرض الذي يهدف لتمويه الواقع الراهن، واقع اغتنام العالم كما يباشره الاغنياء على انقاض اليوتوبيا النصرانية البائدة.و هي حرب مصطنعة اصطناعا، حرب مزعومة" وقائية"و " نظيفة" و "جراحية" لمجرد أنها تبدأ من شاشات التلفزة و تنتهي على شاشات التلفزة، كما لوكانت وجها من وجوه اللعب الالكتروني. غير أن دم الفقراء الذي يسيل على أرض الواقع يدحض اللعب الالكتروني و يكذّب تمويه البروباغاندا مهما عظمت حيلتها.
بلا شك ، كل هذا يبعدنا عن الفن الافريقي كما يحتفل به سدنة الجمالية العرقية الأوروبية. و ربما كان من الاقوم لنا، بسبيل مقاربة الواقع الذي يعيشه الافارقة اليوم، أقول : ربما كان من الاقوم لنا أن نتأمل في هذا النوع من فنون الافارقة الذي لا يحفل به الاوروبيون كثيرا : فن البقاء على قيد الحياة.
ـ هذا النص هو حصيلة ترجمة حرة للنص الفرنسي الذي نشر في مجلة " الازمنة الحديثة" عدد أغسطس / نوفمبر 2002
« Qui a inventé l »es Africains ? », in Les Temps Modernes, Aoùt-Novembre 2002.