من اخترع الأفارقة؟
الحلقة السادسة
"سحرة الارض" و أرض السحرة
كثيرون هم المنتفعون بلقيات الاثنولوجيا المـُعـَرقـَنة على نهج " ميشيل ليريس"المتأنسن. وعددهم لا يقتصر على منظمي التظاهرات الفنية فحسب، فهم يقيمون في أقاليم السياسة العالمثالثية مثلما هم في أقاليم الأدب و الموسيقى و الفلسفات أو حتى في أقاليم علم النفس"الاثني" الذي يحاول الأوروبيون أن يعالجوا به أدواء نفوس"الآخرين" مما لا تطيقه تدابير علم النفس الأوروبي المطبوع بتراث الثقافة المتوسطية اليهودينصرانية.
و ضمن هذا المنظور، منظور استثمار لقيات الاثنولوجيا المعرقنة، أعالج معرض " سحرة الأرض"
Les Magiciens de la Terre, 1989
الذي نظمه " جان هيبير مارتان" [قبل عام من وفاة "ميشيل ليريس"]. و هو المعرض الذي اصبح مرجعا و نموذجا لسلسلة من المعارض اللاحقة خلال سنوات التسعينات.
و في معرض " سحرة الأرض " نجد مفهوم عـَرقـَنة العالم يعمل بكامل طاقته على مبدأ المساواة بين الثقافات الذي طرحه "ميشيل ليريس".فـ "جان هيبير مارتان" يعرض أعمال الفنانين غير الأوروبيين، كما يقول:"على قدم المساواة مع أعمال طليعتنا الفنية". و لكن ، خلافا لـ "ميشيل ليريس"، الأستاذ الجامعي الذي يخاطب جمهورا من الباحثين والمطـّلعين، فان " جان هيبير مارتان" يخاطب الجمهور العريض من زوارالمعارض.و هو،في الغالب ، جمهور غير ذي دراية بتراكب اشتباهات الشأن الاثنولوجي مع اشتباهات الشأن الفني.و بالنسبة لـ "مارتان" فالجمهور العريض من زوار المعارض الكبيرة يمثل مركز قوته مثلما يمثل نقطة ضعفه على صورة "كعب آخيل"،ذلك أن الرجل أمام نوع من قياس أقرن حدّه الأول حار و حده الثاني لا يُنكوى به.فمن جهة الحد الأول ـ و لنسمه حد الفنانين ـ ينطرح خطر قصورالجمهورالعريض غيرالمدرّب عن استيعاب الاشتباهات الجمالية الغالية الكامنة في أعمال الفنانين المعاصرين،مما يرمي بـ " مارتان " تحت طائلة قولة عيسى بن مريم المشهودة :"لا تنثروا الدرأمام الخنازير".ومن جهة الحد الثاني ـ و لنسمه حد الجمهور العريض ـ ينطرح خطر تبسيط الآثار الفنية و قصقصتها لتناسب طاقة الجمهورالعريض على الاستيعاب. و كل هذا يردنا لحكاية الشاعر العربي القديم الذي سأله رجل من العامة: "لم لا تقول ما يفهم؟" فرد الشاعر:"و لم لا تفهم ما يقال؟".و"مارتان" في هذا المشهد يقف موقفا فريدا كونه من جهة ينمسخ رهينة في يد جمهوره العريض الذي لا يفهم ما يقوله الفنانون، مثلما هو يمسخ جمهوره رهينة في اطار الحد الفكري و الجمالي الذي رسمه هو، و الذي تصور أن فهم الجمهور غير قادر على تجاوزه.طبعا أمر معرض " سحرة الأرض" يملك أن يتكشّف عن ملابسات أكثر تعقيدا من شرحي المبسـّط المجحف في حق الرجل.لكن "جان هيبير مارتان" بطبعه البيروقراطي كموظف في خدمة الدولة، و قل كـ "أفندي" قح من أفندية الجمهورية الفرنسية، فهو مشغول بقيمة الكفاءة في أداء الخدمة العامة و هي قيمة يسندها تقليد عريق في الصنعة البيروقراطية الجمهورية.و بغريزة الأفندي فالرجل ينحاز بعفوية تامة للجمهور العريض و " معليش " للفنانين.
و بين اشتباهات الاثنولوجيا واشتباهات الفن يقعّد "مارتان" آلته الحربية على منصّة السحر.والرجل لا يتناول السحروفق المفهوم الـ "علمي"للممارسة البدائية في توصيف الاثنولوجيين لها،و انما يتناوله حسب الاستخدام الدارج عند الجمهورالعريض المنبهربمايتجاوزطاقته على عقلنة الظواهر.وهكذا يتحلل"مارتان" من مقتضيات الترابط المنهجي التي يمكن أن تضايق حرية حركته وهو يدبر شؤون الصناعة المعارضية بين الفن والاثنولوجيا.ومن علياء منصة"السحر"، يتمتع"مارتان" بمطلق الحرية في"توجيه" الباحثين الاثنولوجيين الذين قد لا يقاسمونه قناعاته الفنية مثلما يتمتع بنفس القدرمن الحرية في"توجيه"الفنانين الذين قد لا يقاسمونه قناعاته الاثنولوجية.وهذه الوضعية تسوّغ للرجل أن يقول قولا في جور كلمته الغليظة المشهودة اياها:
"ان التأثير غير المفهوم البالغ الحساسية الذي يحدثه فينا الفن يمكن تشخيصه بعبارة
"السحر""
J.H.Martin,Préface du catalogue Magiciens de la Terre, pp.8,20
وفي شعاب المنهج السحري يمسخ"مارتان" مجمل المفاهيم والتصانيف التي تأسس عليها تقليد النقد الجمالي الأوروبي،العزيزة على"جان كلير"،يمسخهاالىضرب من ضروب الممارسةالسحرية"الشامانية"[الكجورية]،بيد أن هذا الموقف لا يمنعه من الاعلان عن توافقه مع"الأحكام الجمالية المتجذرةوالمؤصّلةفي تربة أوروبا الراهنة،"و التي يراها"مارتان" قابلة للاندماج في عالم الجماليةالمعرقنة.وعليه فالرجل لا يمانع في تجنّب مفهوم"الفنان" من اللحظة التي يصبح فيها هذا المفهوم عقبة أمام تصنيف فئات المشاركين في معرض"سحرة الأرض".وهذا الموقف يسوّغ لـ"مارتان" أن يكتب في مقدمة كاتالوغ المعرض كلمة هي مفتاح كل نظرية الصناعة المعارضية التي سيتبعها الفنأفريقانيون من بعده:
"من الحكمة أن نتجنّب ذكر كلمة"فن" في عنوان المعرض كونهاستجرنا الى اللبس اذا استخدمناها لتصنيف أنواع الابداع الوافدة من مجتمعات لم تخبر مفهوم الفن".
و"الكلام ليك ياالمُـنطّط عينيك"،فـ "المجتمعات التي لم تخبر مفهوم الفن" ديل أنحنا
زاتنا..لكن مافي داعي للزعل،فـ"مارتان"في صفنا.و بما أنه يرى تعذّرتعميم صفة"الفن"
علىنتاج الممارسات الفنية الوافدة من خارج أوروبا فهو يسحب صفة الفن من الجميع و يطبّق بدلا منها صفة"السحر"على كافة الممارسات التي يحتفي بنتاجها معرض"سحرة الأرض".و لا جناح على "مارتان" و لا يحزن الفنانون الأوروبيون الذين هم بالسحر فرحون منذ أن طلع عليهم الالماني " جوزيف بويس" بمفهوم الفن كممارسة شامانية.و بجاه " جوزيف بويس" صارت صفة الفنان الشامان أو" الكجور" مرتبة لا يدركها سوى الراسخون في الصنعة الشامانية.لكن ضلال " مارتان " لا ينتهي عند مقايضة الفن بالسحر فحسب، فصاحبنا يفسّر منطق سوق الفن و ظاهرة التضخّم المالي على صعيد حركة البيع و الشراء " بالسحرالكامن وراء هذه الممارسات ذات المظهر المغالي في ماديته أحيانا"( مقدمة كاتالوغ سحرة الأرض ،ص 21-22).و اذا كان " مارتان" الخبير الدولي المحترف، و الذي يعرف تماما أن سوق الفن أبعد ما يكون عن سوق السحرة و الشامانيين، لا يتورّع عن تفسير قانون السوق بالسحر فذلك يعني أن هذا النوع من التفسير يجد أذنا صاغية في أوساط الجمهور العريض الذي يتمنى من صميم قلبه، و من عمق ذاكرته الرومانسية أن يبقى الفن بمنأى عن السوق ، و لو كان ذلك المنأى في علياء السحر.و مارتان يعرف ـ أو على الاقل يستشعرـ روع جمهور الفن من بأس السوق في المجتمع الرأسمالي المعاصر. ذلك أن الفن بوصفه آخر المعتقدات الجمعية الكبيرة يجب أ لا يقع في قبضة سادة السوق، فالفن في حكمة الشعب " لا يقدّر بثمن".و حين يقرر "مارتان" كل هذا فهو يستعين بسحر مضمون المفعول، هو سحر اللبس المتكنّز في تلافيف الكلام التقريبي الذي " يدّي الحلة روراية و يدي الدلّوكة عصا" كما تعبر بلاغة الغبش.و خيار التقريب كمنهج في مخاطبة الجمهور انما يرتهن بواقع الوعي الراهن الحاصل وسط الجمهور العريض(.وأستخدم عبارة "الوعي" في الكلام عن " الجمهور العريض" لأن الوعي الفني ـ بصرف النظر عن نوعيته ـ حاصل بالقوة بحكم أن الجمهور العريض، من واقع تعرضه العفوي لوسائل الاعلام و من واقع تعليمه النظامي و غير النظامي معرّض لحركة الوعي السائد. لكن حاصل الوعي العفوي لا يؤدّي ما لم يتم تعهده بالصقل و المراس الناقد القاصد الراصد و الذي، حتى ان لم يبلغ حد التخصص، فهو يهيء المتلقي لمحاورة المبدع بندية فكرية، كون الصقل و المراس النقدي يوجهان بصيرة المتلقي لما هو جوهري في فعل الابداع).أقفل قوس الاستطراد و أقول ان الوعي التقريبي للجمهور بالظواهر الفنية في سياق انتاجها الجمالي و الاثنولوجي يسوّغ لـ "مارتان" التقرير بـ " ان المقاربة الحسية الحدسية للعمل الفني تغلب على المقاربة العالمة المتثاقفة"، و هذا ضرب من تحصيل الحاصل ، اذ لا أحد يغالط في كون المقاربة الابتدائية للأثر الفني انما تكون حسية حدسية قبل أن تكون معرفية. لكن هذا التقرير لا يمنع هذه المقاربة الحدسية من أن تنبني على خبرة و على معرفة مسبّقة بالقوانين و الشروط العامة التي يتعرف عليها منهج مقاربة الأثر الفني.هذه " المعرفة المسبّقة" في خاطر الجمهور هي ما اصطلح على تسميته بالثقافة الشعبية. و هي المعرفة التي تتخلّق وسط الأحكام المسبّقة السائدة التي تعطي أفراد الجمهور العريض الانطباع بأنهم يتقاسمون نفس الرصيد الرمزي و تقوي عندهم الاعتقاد بالانتماء لنفس الثقافة.
و على قاعدة ثقافة الحدس هذي يبذل " مارتان" معرض " سحرة الارض" كذريعة للتأمين على منظومة الأحكام الجمالية و العرقيةو ادّعاءات الأنسنة النصرانية لجمهور الطبقة الوسطى الفرنسية الذي لا يداخله شك في كونه يمثل مستودع القيم الانسانية الكونية و ملاذها الوحيد.و لا عجب فمن جهة نجد منفعة كل المعارض الجماهيرية الكبيرة انما تكون في قدرتها على التأمين على الأحكام المسبّقة في خاطر الجمهور العريض.و من الجهة الأخرى فالجمهور العريض لا يؤم سوى المعارض التي يجد فيها ما يتملق عواطفه و يدعم مسلماته العامة.
و ضمن هذا المنظور يمكن أن نتساءل :ما هي المنافع التي يتوقعها الجمهور الفرنسي العريض في معرض مثل معرض " سحرة الأرض" ؟
تقول حكمة البسطاء:" سيد الرّايحة يفتح خشم البقرة"، و قد تقاطرت جماهير الطبقة الوسطى الفرنسية بمئات الآلاف لتشهد معرض " سحرة الأرض" في حماس غير مسبوق،لترى و تلمس تجسدات منظومة القيم الجميلة للمجتمع الذي اخترع" حقوق الانسان" و جعل من معاني " المساواة و الحرية و الأخاء" شعارا لدولة الجمهورية الفرنسية.و هي معان تتصدر معرض " سحرة الأرض" ضمن اخراج (ميزانسين) مسرحي ألمعي يبلغ الغاية في تجويد الصناعة المعارضية.و رغم أن معرض " سحرة الأرض" يضم عددا كبيرا من الفنانين المعاصرين الوافدين من خارج التقليد الفني الأوروبي الا أن خطاب العرض لا يتوجه لغير الأوروبيين ليعبر لهم عن أن الفرنسيين يكنون لهم أسمى المشاعر الانسانية، لا، خطاب " سحرة الأرض" الأساسي يتوجه للفرنسيين لتذكيرهم و تطمينهم بأنهم ما زالوا أفضل حماة "حقوق الانسان" ، و أنهم ما زالوا ابطال قضايا المساواة و الحرية و الأخاء ، على الأقل على المستوى الثقافي، حيث أن حماية قيم حقوق الانسان على المستوى السياسي أو الاقتصادي صارت تستشكل على القائمين على أمور السياسة و الاقتصاد و تفسد عليهم أمور ميراثهم الانسانوي، بل أن مجرد النطق بعبارة" حقوق الانسان" في ساحة السياسة الفرنسيةصار يعادل النطق بعبارة" افتح يا سمسم" الشهيرة التي تفتح مغاليق المغارات الاكزوتية السحرية ، بيد أن عبارة " حقوق الانسان"، في مشهد السياسة الأفريقية لفرنسا، صارت تفتح للقوم " طيز وزّة" في سعة القارة المظلمة اياها، و ذلك حين يسمعون رئيس وزراء ديغولي من وزن
" جاك شيراك" يصرح أثناء زيارة رسمية لغرب أفريقيا، و في حضرة " صديقه" الجنرال " اياديما"، ديكتاتور"توجو" السابق ووالد ديكتاتورها الحالي ، يصرّح معزّيا كل الطغاة الأفارقة المذعورين من تقدم الحركة الديموقراطية بـ " ان الديموقراطية الغربية لا تتناسب مع الثقافة الأفريقية ". أو حين يسمعون رئيس وزراء اشتراكي من وزن" ميشيل روكار"، الذي يعد من أميز أيديولوجيي الحزب الاشتراكي،يطلق التصريحات العدائية ضد المهاجرين الوافدين من مستعمرات فرنسا السابقة و يقول القولة المشهودة التي عادت عليه بخسائر سياسية مهمة:" ان فرنسا لا تستطيع أن تتحمّل كل بؤس العالم" .و أمثال هذه العبارات القاتلة كثيرة، بل هي نوع أدبي بحاله يلجأ اليه عدد كبير من ساسة فرنسا من أقصى اليمين ليمين اليسار، و ذلك حين يتنافس المتنافسون أثناء المعارك الانتخابية على كسب ود الناخبين على حساب المهاجرين من بلدان المستعمرات الفرنسية السابقة.
و اذا كان فرنسيو نهاية الثمانينات في حاجة لمن يؤكّد لهم نبل قيم مجتمعهم، و التي هي، من حيث المبدأ،لا تحتاج لتأكيد باعتبارها ، افتراضا، من ثوابت الذاكرة الجمعية، فما ذلك الا لأن هذه القيم النبيلة قد تعرضت ، في مكان ما من الوعي الجمعي، لزلزلة عميقة من جراء الأزمة التاريخية المركّبة التي أدركت البنى الاقتصادية مثلما أدركت القناعات الاخلاقية لمجتمع نصراني اشتراكي المزاج لكنه حريص ـ اليوم أكثر من الأمس ـ على رقابة مناطق نفوذه النيوكولونيالي في الارض الافريقية.أرض السحر و المواد الخام التي بدونها تصبح صيانة المستوى المعيشي لليوتوبيا الجمهورية أمرا مكلفا لا يطيقه المواطنون الأحرار.
جاء في الأثر:" اذا لم تستح فاصنع ما شئت".و ذلك هو حال هؤلاء المواطنين الأبرار الأحرار الذين يصنعون ما يشاءون بالذات حينما يتعلق الأمر بالقارة المظلمة.هؤلاء المواطنون الأحرار من بناة أوروبا لم يترددوا في تنظيم قمّة أوروبية أفريقية في عام ألفين بغرض التفاكر مع زعماء افريقيا حول أنجع الوسائل لمواجهة العولمة..يالنبي نوح، و منذ متى كانت المفاكرة في العولمة تتناسب مع الثقافة الأفريقية؟؟ثم ما هو هذا الوباء الجديد الموصوف بالعولمة ان لم يكن يمثل العاقبة المنطقية لسياق دمج البنى الاجتماعية و الاقتصادية في منطق السوق العالمي؟و هو سياق ذاق مرّه الافارقة منذ أجيال و دفعوا ثمنه، و مازالوا يدفعون، بعملة سوء التنمية و الديون الجائرة و الحروب المزعومة عرقية و المجاعات الاصطناعية و الحقيقية.. الخ.لقد حفر الأوروبيون حفرة سوء اسمها الاستعمار، و ما خطر ببالهم أن ظروف السوق قد تضطرّهم للانحشار فيها مع بقية المستبعدين فلم يوسعوا فيها مراقدا تسعهم مع المغلوبين،أو كما جاء في قولة( من اختراعي) للشيخ فرح ود تكتوك: يا حافر حفرة "السوق" وسّع مراقدك فيها..
و الأوروبيون، في مواجهة شروط السوق المتعولم، في حال يرثى لها من الروع من الحضور التجاري القوي لبعض مجتمعات العالم الثالث كالصين التي كانت قبيل عقود تحت الهيمنة الاستعمارية مثلما يروعهم موقف حليفهم التاريخي الأمريكي الذي لا يخفي أطماعه في الاستحواذ على نصيب أوروبا في مناطق نفوذها التاريخية ، في أوروبا ما بعد الاتحاد السوفييتي، أو في العالم الثالث. و رغم ذلك فكل ما خلص اليه القوم من درس العولمة المريع هو التفاكر مع"زعماء" مزعومين لأفريقيا لاقناعهم بالحفاظ على قيودهم الاوروبية الصنع بدلا من استبدالها بالقيود الجديدة التي يعدهم بها الامريكان.طبعا لا أحد في أوروبا يفكر في تشريك شعوب أفريقيا في البحث عن أفضل المخارج نحو تنمية حقيقية و عادلة لأفريقيا و لأوروبا معا.ربما لأن الأوروبيون ـ على نهج "شيراك" مقتنعين بأن الشراكة في تنمية العالم لا تناسب الثقافة الأفريقية.و ربما لأن القوم ـ على نهج "روكار" يتوجسون من أن يغمرهم بؤس العالم لو خاطروا بتشريك الأفارقة ( وغير الأفارقة) في مشروع تنمية يليق بفداحة الأسئلة التي يطرحها واقع العولمة على الناس هنا و هناك.
القسمة الضيزى :
و مع ذلك فـ " الحذر واجب" على حد عبارة "مارتان" الذي ينبهنا الى ضرورة " الحذر من التبطيق التبسيطي الذي يملك أن يطمس التعقيد و التركيب اللاحق ببعض الوضعيات المحلية"، بيد أن " الجمل
، كما يعبر أدب الغبش، ضارب طناش و ما شايف عوجة رقبته" ، لأن "الحذر" لا ينفع مع صاحبنا. فبعد مرور احدى عشر سنة على معرض "سحرة الارض"، يعود"مارتان" ـ عودة حليمة لقديمه ـ لموضوعه المفضّل: عرقنة العالم.عالم مسكون ، حسب رأيه،بأعراق أوروبية و أعراق غير أوروبية تتبادل النظر فيما وراء الميراث الاستعماري و الواقع النيوكولونيالي.عالم تكون فيه " كل ثقافة اكزوتية بالنسبة للثقافة الأخرى". و هكذا ففي مقابلة صحفية أجراها معه محرر " لوموند" بمناسبة معرض " قسمة الاكزوتية" الذي دبره "مارتان" لـ "بينالي ليون" للفن المعاصر
Le Monde,25/6/2000
يصرّح "مارتان"بـ " ان كل الثقافات تتساوى في قيمتها، و هي بذلك تملك القدرة على تبادل النظر ضمن علاقة ندية تكون فيها كل ثقافة في نظر الأخرى أجنبية و غريبة و اكزوتية".و في كتالوغ معرض " قسمة الاكزوتية"
ِ « Partage d’ Exotisme »,Catalogue d’ exposition, 5e Biennale d’ Art Contemporain, Lyon/Paris RMN,2000
يتمتع "مارتان" بلقب "قومسير ضيف"
« commissaire invité »
بلا شك لأنه استجاب لدعوة منظمي بينالي مدينة" ليون": " تيري برات" و "تيري راسباى" و هما يتوليان أمر متحف الفن المعاصر بليون.و " برات " و "راسباي" يعتبران نفسيهما من حواريي " مارتان" الذي يبجلانه كعَلـَم و كعالم رائد في الصناعة المتاحفية للفن المعاصر(الميوزيوغرافيا).و في الحقيقة فان صفة رائد "ميوزيوغرافيا"(يالها من عبارة) الفن المعاصر التي جاد بها "راسباي" و "برات" على معلّمهما لا تجانب الصحة تماما. و ذلك لأن " مارتان" من جهة يعد بين القلائل من منظمي المعارض ممن تجاسروا على خلخلة تقاليد الصناعة المعارضية الأوروبية. و من الجهة الأخرى فان " ميزيوغرافيا" الفن المعاصر تنطرح اليوم كمعرفة حرفية ، و قيل كـ" علم" يتخلّق عفو الخواطر و المساهمات المتفرقة على تناقض المصالح و المطالح و تحت شروط اللبس المقصود و غيرالمقصود الذي يطبع مشهد الفن المعاصر. و بعبارة ، فان الصناعة المتاحفية للفن المعاصر صارت تلتبس ـ وعن عمد غالبا ـ مع موضوعها نفسه.بل أن" الميوزيوغرافيا" تجور في بعض الحالات على موضوعها لتبذل نفسها فنا بدلا عن الفن نفسه.و هذا جور يشهد عنه ذلك النفر من مشاهير منظمي المعارض المعاصرين الذين يتصرفون مثل" أم العروس" التي تتغوّل على محل العروس و تستولي عليه و تصبح عروسا بدلها.و "مارتان"و آخرين، من "منظماتية" المعارض العولمية ،هم اليوم في مقام الآلهة في مشهد العلاقة بين الفنانين و الرعاة.و العلاقة بين الفنانين المعاصرين و الرعاة من اهل" الميوزيوغرافيا" باب يستحق المزيدمن التأنّي و سأحاول أن اتفرّغ له ضمن براح آخر.
قلت أن"مارتان" في معرض " قسمة الاكزوتية" ينتفع بلقب" القوميسير الضيف"، ضيف الشرف الذي يستدعي الى الخاطر بدعة "النجم الضيف"
« Guest Star »
الواردة من تقليد سينما النجوم الهوليودية. و هو لقب منحه اياه أثنان من حوارييه المخلصين تعبيرا عن التبجيل الذي لا يخفيانه لـ "المعلم"، رائد سحرة الميوزيوغرافيا المعاصرة.و في مقدمتهما لكتالوغ معرض البينالي يعبر الرجلان عن اجلالهم باستعادة اطروحات مارتان الرئيسية في ميوزيوغرافيا الفن المُعَـرقـَن.
واذا حاولنا تجنّب طمس الاشتباهات المركبة اللاحقة بالوضعية المحلية لهذا المعرض، فمن الأولى التعامل مع معرض " قسمة الاكزوتية" بوصفه شهادة نجاح لمعرض "سحرة الأرض"، مثلما هو في الوقت نفسه شهادة وفاة لهذا النوع الوليد من أنواع الصناعة المعارضية المعنية بفنون غير الأوروبيين.أقول: المعرض شهادة نجاح لمعرض "سحرة الأرض" لأنه يستعيد الأفكارالرئيسية لمعرض"سحرة الأرض" و يبعث فيها الحياة بعد أكثر من عشر سنوات.و في نفس الوقت فمعرض "قسمة الاكزوتية" شهادة وفاة لمعرض "سحرة الأرض"، لأنه يحنّط مفاهيم "سحرة الأرض" في شكل تمرين أكاديمي مغلق على نفسه بشكل لا مجال فيه لأي اعادة نظر نقدية.و تجفيف مغامرة معرض "سحرة الأرض" انما يتم باسم النوايا الطيبة التي تمسخ احترام الحواريين لشيخهم الى نوع من التوثين العصابي الجائر الذي يجعل الحواريين يعانقون شيخهم بقوة فيكتمون أنفاسه حتى الموت. و من يدري؟ فربما انطوى اعجاب "راسباي" و "برات" المفرط بـ " مارتان"على شكل ملتوي من أشكال "قتل الأب"، و"كل شي في الحيا جايز"(رمضان زايد).أقول : لكي نتجنّب التبسيط المجحف الذي يملك أن يطمس الاشتباهات المركبة لموقف "مارتان" فيجدر بنا الاقرار بكون هذا النوع من المعارض انما يعيد النظر في ثوابت التقليد المعارضي الأوروبي الذي يعتبر الفن كممارسة ثقافية شأن يخص الأوروبيين دون غيرهم. و في هذا المنظور يمكن قبول فكرة أن الثغرة التي فتحها "مارتان" أمام الفنانين غير الأوروبيين تروّع حراس التقليد الثقافي الأوروبي أيّما روع.بل هي يمكن أن تعتبر محاولة رائدة لـ " ترحيل"( في معنى:
Délocalisation)
لمركز المبادرة الفنية المعاصرة الى خارج الحدود التاريخية/الجغرافية للتقليد الثقافي الأوروبي.أو كما عبّر "مارتان" في نفس مقابلة "لوموند" معترفا بالصعوبات التي تعترض فكرة عرض أعمال الفنانين غير الأوروبيين مع أعمال الأوروبيين على قدم المساواة:
"انها، بالضرورة، فكرة غير مقبولة هنا في أوروبا أو في أي مكان آخر". ذلك لأن فكرة ترحيل مركز المبادرة الفنية لا تزعزع حراس اليوتوبيا الاستبعادية من شاكلة "جان كلير" فحسب، و انما تتعدّاهم لتزعزع قطاعا معينا من غير الأوروبيين على صورة " بعض النقاد الصينيين " الذين روّعتهم فكرة "مارتان" لأنها تخلخل القناعات الجمالية النهائية و المريحة التي خلّقوها و صلّدوها بشكل لا رجعة فيه على المراجع و التصانيف الايديولوجية و الجمالية التي أورثهم اياها التقليد الثقافي الأوروبي.
و اذا كان هناك نفر بين الفنانين و النقاد الأوروبيين قادر على قبول فكرة الغاء مفهوم الفن و تبديله بمفهوم السحر، فما ذلك الا لأن المسألة في تحليلهم النهائي "كلها فن في فن".و هو موقف لا يصدر الا من طرف قوم فكرة الفن متأصلة و ثابتة في خاطرهم كـ "دوغما" دينية لا غنى عنها و كقدر لا فكاك منه.يعني فن أو سحر "كله عند الغرب صابون" و " زيتهم في بيتهم".المشكلة هي أن غير الأوروبيين من شاكلتنا، نحن الذين ورثنا التقليد الثقافي الأوروبي تحت شروط الهيمنة الكولونيالية و النيوكولونيالية بلا زيت أو بيت، لا نملك الا أن نرتاب بالمبادرات التي يبذلها الأوروبيون بسبيل اعادة النظر في مفاهيم هذا التقليد الذي صار تقليدنا بالتبنّي، كوننا بذلنا جهدا كبيرا في استيعابه و تمثيله و تملّكه ، و في زمن قياسي نسبيا.(و خير مثال يحضرني على الفارق الكبير بين الشروط التي استوعب فيها الأوروبيون مفاهيم الحداثة و الشروط التي استوعبنا فيها نحن نفس المفاهيم هو مثال المساواة في الحقوق السياسية بين الرجال و النساء.فالفرنسيون الذين يتفاخرون بكونهم أنجزوا " اعلان حقوق الانسان و حقوق المواطن" قبل قرنين من الزمان ، انتظروا قرن و نصف قبل أن يمنحوا النساء حق الاقتراع في منتصف اربعينات القرن العشرين.أقفل قوس الاستطراد في حقوق الانسان المؤنث هنا) و اعود للنقاد الصينيين الذين اعترضوا على فكرة " قسمة الاكزوتية". فهؤلاء " النقاد" هم أفضل قطعة في لغز" بزل"
Puzzle
التواء الحداثة المعاصرة كونهم في مركز وسط بين قطعة "مارتان" و قطعة "كلير". فهم يستنكفون الدخول من الثغرة التي يفتحها لهم" مارتان" لكن استنكافهم يمسخهم بالضرورة الى حلفاء ممتازين غير متوقعين لـ "كلير" الذي يرفضهم بالكلية.
و مع ذلك فان الشيء المثير للحيرة في أمر "مارتان" هو أن "الثغرة" التي فتحها في جدار التقليد المعارضي الأوروبي لا تتسع لتصبح بوابة مفتوحة نحو الحوار المزعوم بين الثقافات المتساوية اياها.و ربما وجد هذا الامر تفسيره في كون "مارتان" ـ بخلاف " ميشيل ليريس"ـ أراد لهذه "الثغرة" أن لا تتجاوز سعة " صمام الامام" الذي يمكن الأوروبيين من تجنّب الاختناق في سجن تقليدهم الجمالي المغلق عليهم بلا نوافذ أو مسارب للهواء.و هو تقليد منفعته الأخيرة تتلخص في تبرير امتيازات القلّة الأوروبية المترفة التي تهيمن على خيرات العالم المادية و الروحية و تقهر المستبعدين باسم امتياز وهمي اعتباطي أسّسوه على خصوصية حضارية بائدة تواطأوا على تسميتها بـ "الغرب".لا يا سادتي، لم يعد هناك غرب أو شرق تعولون عليه في استبعادنا، فنحن الغرب و الشرق و الشمال و الجنوب و الداخل و الخارج و الأعلى و الأسفل و الأبيض و الأسود و الحلو و المر و القوة و الضعف و الموت و الحياة معا، و انتم كذلك، شئتم أم ابيتم. و لو غاب علي بصائركم فهم واقع بهذه البداهة ـ و هيهات ـ فما ذلك الا لأن عواقب فهم هذا الواقع تعود بالضررعلى مصالحكم و امتيازاتكم .بل أن مجرد ورود خاطر الشراكة بيننا و بينكم في خيرات العالم الراهن المادية و الروحية صار خطرا يزلزل أمنكم الرمزي زلزلة تتصورون معها قيامة العالم، في حين أن الأمر في الواقع لا يتجاوز قيامة عالم الامتيازات المذنبة الذي بنيتموه من بؤس المستضعفين في الأرض.