الخميس، ٢٨ كانون الأول ٢٠٠٦

من إخترع الأفارقة ؟2

من اخترع الأفارقة؟
الحلقة الثانية

خُـفَـراء اليوتوبيا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حسن موسى
أثناء التظاهرة الأفريقانية اللندنية المسماة " آفـــريــكا 1995
التي التقى عندها رهط الباحثين و الفنانين من الأفارقةالأفريقانيين و غير الأفريقانيين لم يكن هناك من يقوى على تجنب الجدال حول موضوع تعريف الفن الأفريقي المعاصر،و بالذات في " سمنارالفنانون الأفارقة، المدرسة و الاستوديو و المجتمع"الذي نظمته مدرسة الدراسات الشرقية و الآفريقية بجامعة لندن.و أذكر مناقشة حامية انفتحت بين بعض
المشاركين حول تصريح للفرنسي" جان كلير" كانت قد نشرته " ذا آرت نيوزبايبر"
Jean Clair, in The Art News Paper, Jun. 95
و جان كلير ناقد فرنسي معروف و مدير متحف بيكاسو في باريس , وقد أجمع الحضور على فهم كلام جان كلير كتعبير عن مقاومة أوروبية بعينها لمشروعية مفهوم الفن الأفريقي المعاصر. و أصل الحكاية أن جان كلير ، أبان فترة رئاسته لبينالي البندقية في ذلك العام، قال لمحررالصحيفة المذكورة الذي سأله عن موقفه ـ كمدير للبينالي ـ من اشتراك فنانين من العالم الثالث في معرض بينالي البندقية." أجد هذا الأمر شاذا و بعيدا عن العقل ففكرتنا نحن عن الفن أو عن النشاط الفني فكرة لصيقة بالواقع الغربي و كل النوايا التي تزعم الشهامة بفتح متاحفنا و صالاتنا الفنية و بينالياتنا لـ " فناني " العالم الثالث انما تمثل في اعتقادي اللمسة النهائية للضلال النيوكولونيالي ".."و عليه فلن يشتمل البينالي على فنانين من العالم الثالث.ذلك أن تشريك فناني العالم الثالث في البينالي سيكون بمثابةتجاوز مجحف لسلطة تنظيم البينالي مثلما هو تجاوز مجحف لسعة اللغة، بل وسيوقعنا ذلك في الخلط بين أمورمتناقضة تماما.
و من جهة أخرى فاستبعاد فناني العالم الثالث سيمكننا من طرح المشكلة الرئيسية بين مشاكل نهاية هذا القرن، مشكلة الثقافات الغريبة على الثقافة الغربية، الثقافات التي تملك مفهوما للصورة، لسلطان الصورة و لوضعياتها مختلف لحد كبير عن مفهومنا نحن لها. و حاليا فان هذه الثقافات تتنامى في حالة غزو للعالم بشكل يجعلنا نشك في قدرة المتاحف الكبيرة التي نفتتحها اليوم على البقاء خلال السنوات القليلةالقادمة. حين نتبصر في ما يحدث الآن في الجزائر فان كل ما نعتبره ثابتا اليوم بل و مجمل النظام الثقافي القائم على اجلال الصورة يمكن أن يتقوّض خلال عقدين أو ثلاثة. و ليست هذه رؤية متشائمة للأمور. فأنا أقول هذا الكلام بتمالك تام. أعتقد أن الحضارات تتطور و تختفي."
ماذا نفعل بمثل هذا الكلام؟
ان أدنّاه باسم المساواة بين الثقافات أجحفنا في حق رجل في حكمة وعلم جان كلير، سيّما و أن حديث الرجل انطوى على بعد" تنبؤي"يكتسب مذاق الفجيعة حين نقرأه بعد تدمير تماثيل بوذا باميان على يد مهووسي نظام الطالبان في أفغانستان.
طبعا حديث جان كليريستلهم قولة رودياردكيبلنغ الشهيرة التي تعتبر من أكفأ الأيقونات الأدبية لحرب الحضارات..
“ Oh,East is East,and West is West,
And Never the twain shal meet,
Till Earth and Sky stand presently
At God’s great Judgment Seat”
لكن ان كان كيبلنغ في " سياحته" بين الشرق و الغرب يعرض صلف الغازي الاستعماري، فان جان كلير في العبارة التي تشبه " السفروق" ـ والسفروق كلمة كردفانية تدل على السلاح المقذوف الذي يسافر و يلتف حول الطريدة أو يرتد الى صاحبه[ كما بومرانغ الآبوريجين الأستراليين ]أو كما يرتد الكيد الى صاحبه و الله أعلم ـأقول أن عبارة جان كلير عامرة بأكثر من معانيها الظاهرة. فهي تعبّر عن قلقه الأوروبي ـ قلق ركن القهوة السودانية في ميريديان الخرطوم ـو الرجل قلق من تأثيرات الضلال النيوكولونيالي علي أصالة ثقافات أهل العالم الثالث.لكن اذا تمعّنّا في الموضع الذي يتكلم منه حين يقول " نحن" فان حديثه يفتح باب مشروع ثقافي طموح غايته مزدوجة من حيث كونه يريد صيانة الأصالة الثقافية و النقاء الثقافي لثقافات أهل العالم الثالث مثلما يريد صيانة الأصالة و النقاء الثقافي لآهل الغرب الأوروبي. و هكذا يبقى كل واحد في محله فلا يكون خلط ولا تعكير.يعني على حد عبارة أمي " كل قرد يلزم شدرته" و السلام.هذه الفكرة ، فكرة " فرز المويات " ليست مستحدثة في السياسة الثقافية لفرنسا، فبعض مؤرخي السياسة الفرنسية يردونها للجنرال ديغول و يفسرون بها موقفه من استقلال الجزائر في مطلع الستينات.فمن المعروف أن الجنرال ديغول كان مع استقلال الجزائر ضد رأي أغلبية الطبقة السياسية الفرنسية التي لم يكن يداخلها الشك في كون الجزائر كانت و ستبقى فرنسية و أن الجزائريين فرنسيين مسلمين ليس الا .
و يحكي السياسي الفرنسي الديغولي " ألان بيرفيت" في كتابه عن " الجنرال" أن الرجل قال مفسرا موقفه من استقلال الجزائرما معناه أن الجزائريون بقابليتهم الديموغرافية العالية قمينون بأن يصبحوا أغلبية في فرنسا و أردف أنا لا أرغب في أن أرى قريتي " كولومبي ذات الكنيستين" تغير اسمها ذات يوم لتصبح " كولومبي ذات المسجدين" , هذا الخطاب الديغولي هو اليوم سلاح ذو كفاءة سياسية عالية في يد اليمين المتطرف الفرنسي المتعنصر ضد الجالية العربية . و قد نسمع خطابا مشابها في بريطانيا ضد الباكستانيين أو في ألمانيا ضد الأتراك.و الخوف من النمو السكاني غير الأوروبي كان و مازال لازمة ثابتة في السياسات الدفاعية للمجموعات العرقية الأوروبية. و هو الموقف الذي غذى مشاريع الابادة العرقية الجماعية للهنود الحمر و للأبوريجين الأوستراليين بقدر ما يغذي مشروع الـ " ترانسفير" أو" النقل الجماعي" الذي يتوعد به اليمين الاسرائيلي عرب اسرائيل نحو الأردن أو نحو الدولة الفلسطينية المحتملة حتى تؤمّن اسرائيل نقاء المجتمع من كل شائبة عرقية و ثقافية غير يهودية.كل هذا يردنا لخلاصة محزنةهي أن جان كلير لا يرى أفضل من الـ " أبارتايد الثقافي" كمخرج من الخراب العظيم الذي يتربص بمنجزات الحضارة الأوروبية.
لكن يبدو أن رغبة جان كلير في صيانة نقاء الفن الأوروبي عن التدنيس المحتمل الذي يتهدده من طرف أهل العالم الثالث تصل متأخرةنوعا، ذلك أن الفنانون الأوروبيون، و منذ وقت طويل، سافروا كثيرا خارج حدود العالم الغربي و فقدوا نقاءهم العرقي و براءتهم الجمالية عن قصد أو عن غير قصد، فهم بشكل أو بآخرتبعوا حركة التاريخ الكولونيالي و النيوكولونيالي و سافر بعضهم مع حملات الفتح العسكرية كما هيمن بعضهم على " السكان الأصليين" بجاه الادارات الاستعمارية
و امتص بعضهم دماء رعايا بلدان العالم الثالث بفضل التواطوء الآيديولوجي مع سلطات النيوكولونيالية الدولية و الاقليمية و اليوم هم يمارسون الهجنة الثقافية بذريعة "حوار/حرب" الحضارات مع كل " آخر" متوفرفي متناول اليد بمباركة آلة العولمة الغاشمة.
من يرميهم بحجر كل هؤلاءالناس الطيبين الذين لم يتوانواـ رغم كل شيء ـ عن دفع حركة الفن على درب الحداثة الوعر؟أنا بطبيعة الحال،أنا أرميهم بأكثر من حجر و ذلك بطبيعة حال رعايا بلدان العالم الثالث طبعا.حالي أنا كابن غير شرعي لسفاح النيوكولونيالية التراجيدي على فراش حلم التنوير الانساني المفقود.أنا أرميهم بأكثر من حجر لكونهم فجروا و جاروا باسم هذه الحظوة التاريخية المذنبة، حظوة النجاة من قدر الضحية في عالم يتقاسمه الضحايا و الجلادون.أولاد الغلفاء لن يكفيهم حجر واحد و ستلزمني محجرة بحالها و جيش من رماة المقاليع حتى أفش غبني المقيم و هيهات.لكن " فش الغبينة" ليس في قمة أولوياتي الراهنة. و سأمسك عنهم حجارتي و حجارة غيري لأني أحتاجهم لتعريف أسس تحالف حضاري قمين باعادة تأهيل الحداثة و انقاذ اليوتوبيا من مخاطر السوق المتعولمة.ان النضال ضد الاستبعاد و الاستعباد، النضال من أجل القسمة العادلة لخيرات عالمنا الروحية و المادية يحتاج لحلفاء في ذكاء و في مكر هؤلاء الأفذاذ من ورثة السحرة و العلماء الذين نسميهم الفنانين. أما كيف سننجز مشروعنا الفادح ؟فهذا علمه عند ربي ، لكن السؤال نفسه طرف في المشروع اياه و الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.

و لو عدنا لجان كلير، خفير اليوتوبيا ، فان السعي لقفل أبواب المتاحف الغربية و صالات العرض و البينالي في وجه الفنانين القادمين من العالم الثالث لا يؤدّي و لا يجدي ، كون فناني العالم الثالث موجودين في هذه الأمكنة منذ عهد طويل.و حاليا ليست هناك حاضرة غربية أوروبية مهمة تستغني عن منافع المحافل و المتاحف المخصصة لفنون أهل العالم غير الأوروبي.و في النهاية فان حديث جان كلير لا ينفع الا في اثارة غضب الفنانين الذين يعتبرون أنفسهم فناني عالم ثالث و رعاتهم و حماتهم الأوروبيين.و لكن فيما وراء غضبة هؤلاء و أولئك فان حديث جان كلير يثير اشكالية مؤسسات الرعاية الغربية و شهامتها الحضارية المزعومة تجاه الفنانين المعاصرين الوافدين من خارج العالم الأوروبي.
في هذا المشهد فان شبهة التجاوز الأخلاقي النيوكولونيالي التي يرفعها جان كلير في وجه المؤسسات الأوروبية لرعاية الفن غير الأوروبي تبدو مشروعة.و في الواقع فان كلام جان كلير يثير التساؤل حول الدور المبهم الغميس للمؤسسات الأوروبية المتخصصة في رعاية الفن المعاصر غير الأوروبي.و جل هؤلاء الرعاة الذين يزعمون " التخصص" في تقديم هذه الفئة أو تلك من فئات الفن غير الأوروبي سرعان ما يخلصون ـ و في خلال سنوات، بل في خلال شهور ،الى اعلان أنفسهم كـ " خبراء " في الفن غير الأوروبي و ذلك عملا بالمثل المعروف " البلد المافيها تمساح يقد ل فيها الورل".و بحكم الروابط و كفاءة وسائل الاتصال و الاعلام فغالبا ما ينتهي هؤلاء" الخبراء" الى تكوين نوع من شبكة من الأشخاص الذين يتعارفون ويلتقون بانتظام من خلال التظاهرات الفنية التي ينظمونها هنا و هناك، بمساعدة الدول و مؤسسات الرعاية الخاصة ،عبر الحواضر الكبيرة بين قارات أوروبا و أمريكا.
و مع ذلك ، فلو أخذنا ، على سبيل المثال، هذا الفن الأفريقي المعاصر كسبب يبرر وجود هذه الشبكة الواسعة من محترفي الرعاية لوجدنا أن هذا الفن الأفريقي يبقى غريبا، لا بالنسبة للأفارقة فحسب، بل هو غريب أيضا على سوق الفن العالمي.
و غربة الفن الأفريقي على صعيد سوق الفن العالمي تتفسر بكون هذا الفن الأفريقي المعاصرـ بخلاف حال الفن الأوروبي المعاصر ـ لا محل له من الاعراب و غائب تماما و بشكل مريب، كقيمة مالية، ضمن سلم القيم المالية الذي تصنف عليه السلع في ا لبورصة .و رغم أن بعض جامعي الفن الأفريقي المعاصر و بعض منظمي المعارض الفنأفريقانية يتفائلون بالفن الأفريقي المعاصر كـ "أمل البيزنيس الفني" في المستقبل القريب الا أن الفن الأفريقي المعاصر يظل غير وارد على الاطلاق في خاطر الجامعين و المستثمرين الذين قد يضعون مالهم في ميزان سوق الفن المعاصر. ترى هل يعني ذلك أن الفن الأفريقي المعاصر يفلت من قانون السوق ؟ طبعا لا ، لا أحد يفلت من القانون التوحيدي للسوق ، لكن التداخل البالغ التركيب للعلاقات التاريخية بين الأقارقة و الأوروبيين انما يؤثر بطريقة مميّزة على نوع السوق الذي يبذله المجتمع الرأسمالي المعاصر لانتاج الفنانين الافارقة. و حتى الآن فقد واظبت أوروبا على بذل نوع من " سوق رمزي " للفنانين الأفارقة.و أقول سوق رمزي ضمن المنظور غير الواقعي الذي تدبر عليه أوروبا أمور الفن الأفريقي، ذلك أن الفن الأفريقي يبقى في خاطر الأوروبيين مساحة ممتدة لكل أنواع الهواجس و الأوهام العربيدة التي لا تبال بالافارقة في شيء.ففي أرض الفن الأفريقي يبيح الأوروبيون لأنفسهم حرية اعادة تخليق صورة العالم و صورة الأفارقة[ مستودع " الآخر" الأبدي]، و قيل صورة الأوروبيين أنفسهم حسب الأمزجة و الملابسات .
فـ" بيير غوديبير"، المتحفي الفرنسي و الباحث الفنأفريقاني المعروف وسط المهتمين بالفن الأفريقي كان قد نظم ـ في سبتمبر 90
معرضا لأربعة و ستين فنان معاصر من السنغال.و ذلك في قلب باريس في صالة " لارش دو لا ديفنص"
" غوديبير" ينظر للفن الأفريقي كـ " مستودع كبير لقيم القداسة" ويمكن للفنانين الأوروبيين الذين يفتقر عملهم لقيم القداسة " يمكنهم أن ينهلوا من هذا المستودع طاقة القداسة التي يحتاجونها".
لكن الفن الافريقي المعاصر ينطرح في خاطر الأوروبيين كمساحة لأعمال البر الثقافي ينشط فيها نفر من الحادبين على أصالة الثقافات غير الأوروبية و من لفّ لفّهم من أهل الرفق بالـ " حيوان" الفنان الأفريقي [ و لو نظرت معان لفظة "فنان" في المنجد فستجد بينها معنى " الحمار الوحشي و له فنون في العدو" فتأمّل..] من شاكلة جامع الآثار الفنية الألماني، الـ" هـر ـ أيوه هرـ هورست شاوركولر" الذي افتتح غاليري متخصصة في الفن المعاصر الأفريقي و العربي في قلب باريس [ تاني؟] في العام 94
يقول الـ "هر شاور كولر" في المقابلة التي أجرتها معه مجلة " جون آفريك" الفرنسية 13 ـ 3 ـ 94
" لقد سافرت كثيرا في المغرب و في أفريقيا ".." و شاهدت الأعمال الرائعة التي أنجزها فنانو هذه البلدان
، و في نيتي أن أبين للناس أن أعمال هؤلاء الفنانين تضاهي في قيمتها أعمال الفنانين الفرنسيين أو الأوروبيين و الأمريكيين ، بل أن بعضهم يخلق أعمالا أقوى و أشد تشويقا ".." و من ثمّ فأنا أعتقد صادقا أن لهؤلاء الفنانين شيء يقولونه للعالم الغربي.لكن الجمهور الغربي غالبا ما يجهل حتى أسماء الفنانين الأكثر شهرة بين الفنانين العرب و الفنانين الأفارقة ".." و قد بدا لي أن هذا الواقع الذي يعيشه هؤلاء الفنانين ينطوي على شيء من الاجحاف أو على الأقل على شيء من الاختلال.".طبعا لم يعدم الهر شاور كولر حفنة من الفنانين الأفارقة و المغاربة [ فكآن المغاربة يقيمون خارج أفريقيا] لتأثيث صالة عرضه الباريسية بأعمالهم ، من باب " المال تلته و لا كتلته"، مثلما لم يعدم حفنة من الكتاب و الصحفيين الأفارقة و الفنأفريقيين ليصفقوا و يهللوا لمشروعه من باب " ان كان لك حاجة عند الهر قول له يا كلب ".

و هكذا يبدو أن معظم الحادبين على مصير الفن الأفريقي لا يستغنون عن مشروع ما لـ " انقاذ" الفنانين الأفارقة.أنا شخصيا أحبذ مشروع " كاترين م."، هذه الشخصية الروائية العجيبة التي تحكي سيرة عربداتها الطليقة في كتاب " الحياة الجنسية لكاترين م." للكاتبة و الناقدة الفنية الفرنسية" كاترين مييه " و التي تعتبر أحد أعلام حركة النقد الفني المعاصر في فرنسا سيّما وكتابها " الفن المعاصر في فرنسا " يعتبر مرجعا مهما لدارسي الفن المعاصر في فرنسا . تحكي " كاترين م" [ ص اا]
".. حين بلغت العمر الذي يتردد فيه الأطفال على مدرسة التلقين الديني المسيحي، جاء يوم طلبت فيه مقابلة القس لأحاوره في مشكلة لم أجد لها حلا. ذلك أني كنت أريد أن أصبح راهبة " أتزوج الرب" و أغادر في ارسالية تبشيرية لمساعدة الشعوب البائسة التي تتوالد في افريقيا . لكني في نفس الوقت كنت أريد أن أتزوج و أنجب أطفالا و أحيا حياتي. القس الصموت أنهى مشروع حواري بطريقة حاسمة قائلا أن كل هذا الأمر سابق لأوانه ".
خسارة كبيرة كون "كاترين م" لم تتمكن من الحضور لأفريقيا لتنقذنا كما أنقذت" الفن المعاصر في فرنسا" ذلك أن كهنة النيوكولونيالية أرسلوا لنا محترفي الفنأفريقانية الذين ينظرون لآفريقيا كمفرخة للفنانين المستعدين لتقديم الغالي و الرخيص لقاء ربع ساعة" آندي وارهول" على مشهد الفن المعاصر في حواضر أوروبا و أمريكا.
ان وضعية النفي خارج السوق الحقيقي التي يكابدها الفناون الأفارقة المعاصرون تملك أن تكسب بعض الشرعية لاشتباهات جان كلير في صدد دوافع مؤسسات الرعاية التي تكفل الفنانين المعاصرين من العالم غير الأوروبي. فهي في الغالب مؤسسات رعاية تعمل كـ " رزيرف هندي" [ و قيل" كرنتينة"] تحافظ على كل فصيلة عرقية " اثنية" في المحل المخصص لها من فترينة العرض التي تقسم العالم اثنيا. و عند مقتضى الحال فقد تقوم مؤسسات الرعاية اياها باجمال كافة أهل العالم غير الأوروبي في قفص واحد باعتبارهم " آخر " الغرب الأوروبي.
في الـ " ريزيرف الهندي" المخصص للفنانين الأفارقة، فان المبدعين يعرضون أساسا بوصفهم أشخاص سود يتكنّز الروح الزنجي في دواخلهم .و ربما ساعدنا هذا الموقف لفهم الأسباب التي تجعل من تصانيف سياسية استعمارية عبثية من نوع " أفريقيا السوداء" أو " أفريقيا البيضاء" ما زالت رائجة في أوساط متعهدي التظاهرات الفنأفريقانية في أوروبا.
و على طول علاقتهم التاريخية بأفريقيا فقد طوّر الأوروبيون نوعا من تقليد أو " صنعة معارضية" متميزة بحرفية عالية غايتهاعرض منتجات الثقافات الأفريقية للجمهور الأوروبي. هذه الصنعة المعارضية الفنأفريقانية تأسست مناصفة بين جهود رواد الاثنولوجيا الأوروبية و رواد الصنعة المعارضية الحديثة. فمن جهة بادر نفر من الباحثين الاثنولوجيين الى ارتجال صنعة قومسير المعرض ارتجالا من واقع الضرورة العملية التي عرفوها لأنفسهم منذ نهاية القرن التاسع عشر ، ضرورة تفسير أفريقيا للأوروبيين من خلال الآشياء و الأدوات التي غنموها من القارة المظلمة، و هي مبادرة ذات دلالة خاصة كونها تمت في لحظة تاريخية كانت وسيلة المعرض فيها قد تطورت الى نوع ثقافي مستقل بوصفه وسيط اتصال ثقافي جماهيري و تعليمي جديد و كأداة بروباغاندا عالية الكفاءة [ المعارض الدولية في العواصم الأوروبية بدأت مع في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في فينا، باريس ، لندن و شيكاغو..].
و من الجهة الأخرى فقد أفرزت هذه الصنعة المعارضية الجديدة في البداية جمهرة من الأشتات بينهم بعض المبدعين من محبي الزنج و الاخصائيين العموميين من جنس الألعبان و الاداريين الاستعماريين و بعض المبشرين و التجارالمغامرين و الرحالة المحترفين و" الحمرتجية" البهلوان و الحلاقين المتكلمين في الأفريقانية.. الخ. كل هؤلاء الناس كانوا يبيحون لآنفسهم رخصة تقديم و شرح " الأشياء الزنجية" للجمهور الأوروبي. و رغم أن جمهرة مفسري أفريقيا قد احسرت لحدود بعض الـ " مختصين " اليوم الا أن الكلام في الشآن الآفريقاني ما زال مباحا لكل من هب و دب فأفريقيا بحر من الظلمات المعرفية و المنهجية و عن البحر فحدّث..نخلص من هذاـ و نحن ما زلنا في " الجهة الأخرى" ـ الى أن نفر من قومسيرات المتاحف و بعض منظمي المعارض الافريقية من هواة الاثنولوجيا استأنفوا الصنعة المعارضية على هدي الأسس التي طرحها رواد الاثنولوجيا الأفريقانية.
و اليوم نلاحظ أن مباحث الاثنولوجيا، التي كانت بمثابة حصان طروادة للمؤسسة الاستعمارية الأوروبية، لم تعد تثير ريب الكثيرين في صدد مراميها السياسية تجاه شعوب العالم غير الأوروبي، كون المباحث الاثنولوجية انمسخت في المشهد الاعلامي الأوروبي الى نوع من أيقونة كفاحية عالمثالثية.
و اذا كان رواد الاثنولوجيا قد ساهموا في عملية تقديم و تثبيت الفن الأفريقي على خشبة المسرح الفني الأوروبي فهم ، في نفس الوقت ، طبعوا هذا الفن الأفريقي بطابع الجمالية الاثنولوجية. و هكذا فان المنظمون الأوروبيون لمعارض الفن الأفريقي ممن اكتشفوا هذا الفن الأفريقي في مشهد الاثنولوجيا نظموا مساحة المعرض بطريقة يستحيل معها تجنب المرجعية الاثنولوجية لموضوع العرض.و عليه صارعرض الفن الوافد من أفريقيا يستدعي بالضرورة تهيئة " ميزانسين" جديد يتبع الموجهات الاثنولوجية المستبطنة في خاطر منظمي المعارض الأوروبيين.
والمتتبع للعلاقة التاريخية بين فن الأفارقة والظاهرة الاثنولوجية يلمس أن القوم في أوروبا قد اختاروا ، و منذ عهد طويل، أن ينظروا لأفريقيا من خلال انعكاسات زجاج فترينات المتاحف الاثنولوجية.و هي حيلة مجزية تماما كون فترينة المتحف توفر للناظر عبرها نوعا من الحماية كما في اسطورة " بيرسي" صاحب الدرع الصقيل كالمرآة الذي مكّنه من رؤية وجه الساحرة " ميدوزا" على صفحته و قتلها دون أن ينظر اليها مباشرة ، لأن من ينظر مباشرة لوجه الميدوزا ينمسخ حال الى تمثال من الحجر حسب الاسطورة.و تحت شرط الراحة الأخلاقية لفترينات المتحف فان الزوار الميامين للمتاحف الأفريقانية الأوروبية تمكنوا من مشاهدة اشنع ميدوزات أفريقيا دون أدنى مخاطرة[.و أعني على سبيل المثال لا الحصر ميدوزات الغزو و الاستعمار و النهب و التقتيل و الابادة و العنصرية و الاستعباد و الاستبعاد و القصف و الحصاروالديون و التجويع] .
و منذ مطلع القرن العشرين استقرت صورة أفريقيا في المشهد الأوروبي بطريقة مجافية لواقع حياة الافارقة و ذلك بفضل الصنعة المعارضية الأفريقانية التي ازدهرت و راجت بذريعة اضاءة القارة المظلمة في الخاطر الأوروبي الاستعماري. و في مركز الصنعة المعارضية الأوروبية نجد عرض أجساد الأفارقة كنوع معارضي تأسس بين المؤسسات العلمية كالمتاحف و المؤسسات الترفيهية كالسيرك و أسواق الملاهي أو حتى في الأمكنة التي تجمع بين أغراض العلم و أغراض الترفيه كحدائق الحيوان.و في هذا المعنى قامت حدائق الحيوان الباريسية في نهاية القرن التاسع عشر 1895
بعرض بعض أسر الأفارقةمن " أشانتي" غانا في أقفاص ليتفرج عليهم الجمهور الباريسي .
و قد سبق عرض الأشانتي بعدة عقود عرض فتاة الـ " بوشمان"، سارتجي باارتمان" المشهورة تحت اسم " فينوس الهوتونتوت" التي عرضت في السيرك و أسواق الملاهي بين لندن و باريس في 1810
و قد تم احضار" سارتجي باارتمان" من لندن لباريس بعد أن باع سادتها البريطانيون" عقد عرضها" لمروض حيوانات متوحشة في سيرك فرنسي. و كان جمهور السيرك يدفع لرؤية المخلوقة التي كان يفترض فيها ان تمثل الحلقة المفقودة بين القرد و الانسان. و كانت فتاة البوشمان تعرض عارية كي يتأمل الجمهور بطريقة" علمية " خصائصها العرقية وبالذات " خصائص" أعضاءها الجنسية التي ألهمت أدبيات التاريخ الطبيعي للعنصرية الأوروبية صفحات مخجلات قلما يجود الزمان بمثلهن. بعد خمس سنوات من وصولها لباريس توفيت سارتجي باارتمان أثر اصابتها بالتهاب رئوي الا أن مسلسل شقاءها لم ينقطع بموتها فقد تكالب عليها " علماء " زمانهم و قطعوا أوصالها باسم الدراسة العلمية و حفظوا مخها و فرجها في قماقم زجاجية ظلت مبذولة لزوار" متحف الانسان" بباريس حتى نهاية القرن العشرين. و بعد انهيار نظام الأبارتايد في جنوب أفريقيا ارتفعت أصوات بضرورة اعادة ما تبقى من جسد فتاة البوشمان لدفنها في موطنها لكن الغريب في الأمر هو أن القماقم الزجاجية التي تحتوي على أوصال سارتجي باارتمان اختفت من المتحف ـ بقدرة قادر ـ و لم يعد هناك من هو قادر على رد غربتها وسط عًهَـد المتاحف و محفوظات الفنأفريقانية المشينة .
لكن التاريخ الطبيعي للبربرية الأوروبية في أفريقيا لم يكشف بعد عن كل فظائعه المتحفية، فقد نقلت وكالة الـ " آسوشيتيد برس" في تقرير لها بتاريخ 30ـ 6ـ2000
أن السلطات الاسبانية قررت أن ترسل الجسد المحنط لرجل أفريقي محفوظ في متحف مدينة " بانيوليس" الكاتالانية، قررت أن ترسله الى" بوتشوانا" لدفنه فيها بوصفها موطنه. كان الجسد معروضا منذ 1916
في متحف المدينة.و أصل الحكاية يبدأ في القرن التاسع عشر في " بتشوانا" حيث قام مغامر فرنسي اسمه "ادوار فيرو" بنيش القبر و سرقة جثة " المحارب الأفريقي" و تحنيطها و بيعها لعالم التاريخ الطبيعي الاسباني " فرانسيسكو داردير" و الذي قام بمنح الجسد لمتحف التاريخ الطبيعي لمدينة " بانيوليس" .
و هكذا لا يفلت عرض أشياء الثقافة الأفريقية من تاريخ العلاقة السوداء الدامية بين أوروبا و أفريقيا.و هي علاقة محورها الموت ، موت الأفارقة . و في المنظور الأوروبي الاستعماري فان الأفريقي الطيب هو الأفريقي المحنّط على نحو العبارة العنصرية التعيسة التي كان المستعمرون البيض يرددونها بلا خجل في أفلام رعاة البقر الهوليودية
« Agood Indian is a dead Indian ! »
و اذا كانت ميزة الكائن المحنّط الأساسية هي ثبات صورته و استعصاءها على التحول الذي يدرك الأحياء فان مساعي الفنأفريقيين الأوروبيين لتثبيت صورة أهل القارة الافريقية على هيئة واحدة لا تتغير انما يكشف عن قناعة مضمرة في الخاطر الأوروبي فحواها موت الأفارقة الأكيد. أي و الله لقد متنا و شبعنا موتا في خاطر سادة زماننا من الأوروبيين الذين سيحسنون اليناايما احسان لو حنطوا جثثنا ليؤثثوا بها متاحفهم و صالاتهم ومنتدياتهم الثقافية فتفهم الأمم ما خفي من أمرثقافاتنا و فنوننا.
في مطلع الثلاثينات نظمت الدولة الفرنسية من خلال متحف" تروكاديرو" حملة اثنوغرافية لجمع عناصر الثقافات المادية و الروحية عبر أفريقيا . كانت تلك الحملة تعرف رسميا بـحملة " داكار جيبوتي". و كانت خطتها عبور القارة من أقصى غربها للأقصى شرقها و جمع و تسجيل كل ما يمكن تسجيله من تجسدات الثقافة الأفريقية. و كان على رأس الحملة البروفسير" مارسيل غريول" من أعلام الاثنوغرافيا الفرنسية تصحبه نخبة من أميز رواد الاثنوغرافيا و يعاونه شاعر سوريالي شاب هو" ميشيل ليريس" الذي سينشر لاحقا يوميات الحملة التي امتدت لعامين في كتابه القيم " أفريقيا الشبحية" .و هو نفس" ميشيل ليريس" الذي سيصبح من أميز نقاد الاثنولوجيا الفرنسية في زمن الاستعمارمثلما هو نفس " ميشيل ليريس" الذي سيصبح من رواد الآيديولوجيا الفنأفريقانية التي تفسد على أهل أفريقيا أمور فنهم اليوم .
للمساهمة في الدعم المالي لحملة " داكار جيبوتي" سعى القائمون على أمرها لتنظيم الحفلات الخيرية في الأوساط الباريسية آنذاك فكان بعض نجوم المجتمع الفني و بعض المشاهيرينظمون حملات التبرعات لصالح " داكار جيبوتي".و قد ساهمت الراقصة الأمريكية السوداء " جوزيفين بيكر" في هذا المجهود بريع بعض استعراضاتها سيما و أنها كانت السوداء الأكثر شهرة في أوروبا كلها آنذاك.و بجانب " جوزيفين بيكر" كان المجتمع الباريسي يحتفي بملاكم أمريكي أسود ، حائز على لقب بطل العالم في الملاكمة، اسمه " آل براون". و في أمسية منتصف شهر أبريل 1931
تم تنظيم ماتش ملاكمة خيري قبل فيه " آل براون" أن يلاكم للحفاظ على لقبه و التبرع بريع الأمسية لدعم حملة " داكار جيبوتي" و ذلك ـ حسب عبارة الباحث " جان جامان" ـ في مقدمته لكتاب " ليريس"، مرآة أفريقيا، " لكي تتحقق معرفة أفضل بأرض أسلافه و لرد الاعتبار لبني جلدته السود.و من خلال مشهد هذا العرض الرياضي " تم عرض الجسد الزنجي في أكثر أبعاده حسية ـ و من باب أولى ـ أكثرها حيوانية،بيد أن القائمين على تهيئة الحلبة في هذه الأمسية لم ينسوا أن يضعوا عند كل ركن من أركان حلبة الملاكمة أحد حراس" متحف تروكاديرو الاثنوغرافي " بكامل بزته الرسمية فكأنما الجسد الأسود
المعروض على الحلبة ، تحت رقابة حراس المتحف، كان يرهص لتعريف مركز" الأشياء الزنجية"
« Objets Négres »
التي ستجلبها حملة " داكار جيبوتي" بعد عامين من أرض أجداد الملاكم الأسود لتعرضها في صالات متحف الاثنوغرافيا تحت رقابة نفس الحراس المنتصبين حول الحلبة". أنظر " مرآة أفريقيا" ص 27.28 Michel Leirie, Miroir d’ Afrique, Paris Gallimard, 1996, pp. 27,28