الخميس، ٢٨ كانون الأول ٢٠٠٦

من إخترع الأفارقة؟ 1

نجاة
كما قلت لكي أنشغل بترجمة نص " من اخترع الأفارقة؟" للغة العربان و نسبة لطول النص و صعوبة الاقتصار على عملية الترجمةفقد رأيت أن من الأنسب مفصلته الى حلقات و هذه هي الأولى و سأوالي في الايام القادمة انتزاع الحلقات الكامنات في لغة الغال لفائدة عزيزنا القاريء الضادي و القدم ليه رافع
سلام

حسن
26/4/05


من اخترع الأفارقة؟
الحلقة الأولى

حسن موسى 2002


دياسبورا؟ أنا؟

اذا رغبت , بصفتك فنان أفريقي ,في المشاركة في واحدة من التظاهرات الموسمية الكبيرة التي تحتفل بالثقافة الأفريقية في العواصم الأوروبية, فيينبغي عليك الوفاء بعدد من الشروط أولها أن تكون من مواليد أفريقيا, أي مكان في أفريقيا , و ياحبّذا أفريقيا "السوداء".
وثانيها أن تكون مقيما على مقربة جغرافية عملية , يعني في متناول اليد, يدمنظمي التظاهرة ،.فأفريقيا تزداد بعدا بقدر ما تضيق ميزانية التظاهرة الثقافية الأفريقانية في البلدان الأوروبية .و ان لم يكن في وسعك الوفاء بالشرطين أعلاه فلا تيأس , فهناك فرصة أخرى ان كنت من ذوي البشرة السوداء كما السود الأمريكيين و السود البريطانيين أو السود الفرنسيين المدرجين في فئة الدياسبورا الأفريقية..
و هكذا يا سادتي تمكنت بذريعة الفنان الأفريقي الأسود المدسبر[ من دسبر يدسبر و الواحد دياسبوري و هو المقيم في تيه الدياسبورا و الكاتبون في لغة الضاد يترجمون الدياسبورا بعبارة" الشتات" لكني أحبّذ : عليها الدياسبورا لما تنطوي عليه من احالة مجزية نحو التقليد الديني اليهودي النصراني و الله أعلم] , أقول تمكنت من المشاركة في أفريقيا 95
واحدة من كبريات التظاهرات الأوروبية المكرّسة لفنون أفريقيا المعاصرة و قد نفعتني اقامتي ـ في فرنسا ـ على مرمى حجر من موقع التظاهرة الفنية في لندن المحروسة.
و قد نظمها البريطانيون ضمن الموسم الأفريقي في لندن وفي بعض حواضر بريطانيا في سبتمبر 95
و خلال أيام التظاهرة اتيحت لي مقابلة عدد كبير من الأفارقة الأصليين أو المدسبرين و جلّهم كتاب و فنانين و مؤرخي فنون و منظمي معارض. و قد تمكنت حتى من مقابلة بعض السود الأمريكيين و البريطانيين الذين كانوا يتساءلون حول أصالة أفارقة شمال أفريقيا من المصريين والمغاربة حيث أن التظاهرة اشتملت على معرض ضم جماعة من فناني شمال أفريقيا في بعض صالات لندن.و ورّطتني الثرثرة مع بعض الفنانين السود المدسبرين في مناقشة عجيبة في نوعها, فمن جهة كان صاحباي في مواجهتي بصفتهما البديهية كفنانين أسودين مدسبرين أحدهما من سلالة أهل جزر البحر الكاريبي ، ولد في لندن و تربى فيها، و الآخر أمريكي, و من الجهة الأخرى كنت أنا يصحبني يقيني بكوني عربي و افريقي و غربي في آن.كانت حجة محدّثي تتلخص ببساطة في كون أهل شمال أفريقيا غرباء"وفدوا من الخارج" , خارج القارة السوداء.و ذكرني ذلك الموقف بالجدال الذي أجج" الأزمة الدبلوماسية " حول المهرجان العالمي الثاني للثقافة السوداء و الآفريقية في لاغوس عام 76
و أقول "الأزمة الدبلوماسية" لأن كل من السنغال و نيجيريا و هما البلدان المعنيان بتنظيم المهرجانيين الأول و الثاني للثقافة الأفريقية و السوداء، انخرطا بحمية وطنية عالية في نزاع بدأـ في ظاهره ـ من خلاف مفهومي حول تعريف الثقافة الأفريقية.
السنغاليون الذين صمّموا و نفّذوا المهرجان الاول للثقافة الأفريقية على مرجع الزنوجة وحده دون غيره من مراجع ثقافات القارة الافريقية كانوا يرون الثقافة الافريقية كثقافة لكافة المجموعات السوداء أينما حلّت و قد انطوى موقفهم على اضمار يستبعد أهل شمال أفريقيا من دائرة المساهمين في الثقافة الأفريقية. و بالتالي فهم لم يقبلوابما اعتبروه تحريفا أجراه النيجيريون الذين قاموا باعادة تعريف قاعدة الضالعين في الثقافة الافريقية لتشمل كافة الافارقة بما فيهم أفارقة شمال أفريقيا و ذلك دون استبعاد المجموعات السوداء خارج أفريقيا.و قد تفاقم النزاع حين عمدت السلطات النيجيرية الى عزل السنغالي علي ديوب الذي كان يشغل منصب السكرتير العام للجنة العالمية للمهرجان.و قد ترتب على عزل ديوب أن شنت الصحف السنغالية حملة انتقادات على أسلوب نيجيريا في تدبير المهرجان , و لم تتوانى الصحافة النيجيرية عن رد الصاع صاعين دفعا للأذى عن شرف الأمّة النيجيرية الخارجة لتوها من محنة الحرب الأهلية في بيافرا.و يجدر القول بأن اقتصار هذا النزاع على النيجيريين و السنغاليين دون غيرهما من الافارقة القريبين من هؤلاء أو من أولئك ربما وجد تفسيره في كون أغلب الشهود آنذاك كانوا على علم بكون النزاع ليس نزاعا فكريا حول مفهوم الثقافة الأفريقية و انما هو نزاع سياسي له علاقة بطبيعة الخلفية الجيوسياسية لتعبيرات الحرب الباردة في أفريقيا.لقد كان نظام أب حركة الزنوجة, الرئيس سنغور,يقود المعارضة ضد نيجيريا باسم أنظمة الناطقين بالفرنسية جنوبي الصحراء, و لو شئت الدقة فقل أن السنغال كان يقود المعارضة ضد نيجيريا باسم فرنسا التي كانت و ما زالت تعتبر بلدان غرب أفريقيا كنوع من وقف سياسي استراتيجي لا ينازع فيه أحد.و حقيقة فموقف الرئيس الشاعر"الزنجأفريقاني" كان يتميز بقدر من التركيب لا يخلو من الحرج.ذلك أن الرجل كان يقيم على قسمة عسيرة بين مقتضيات روح التضامن ال"كل أفريقاني"[ لو جازت ترجمتي لعبارة الـ " بان آفريكانيزم"] المغموس في التفاؤل السياسي الساذج الذي لا يسوّغ المعارضة ويعتبر النقد مرادفا للتشتت و شق الصف الكل أفريقاني ، من جهة، و من الجهة الاخرى فقد كان عليه الوفاء بمقتضيات الامتثال لارادة فرنسا السياسية و التي يدين لها بالكثير ـ و قيل بكل شيء ـ فرنسا التي كانت قبيل المهرجان بوقت قصير، لا تتحرّج من تقديم الدعم المادي و الأدبي لانفصاليي اقليم بيافرا، سواء تم ذلك مباشرة أو من خلال حلفاءها الأفارقة الناطقين بالفرنسية.و لا عجب فقد كان اقليم بيافراـ و ما زال ـ أهم منطقة لانتاج البترول في نيجيريا.
لكن أخواي من ذوي "الدم الاسود" اللذين كنت أتناقش معهما كانا في واد آخر.فهما لم يكونا يجهلان جيوسياسة أفريقيا فحسب بل هما لا يعتبران أن معرفة جيوسياسة القارة يمكن أن يقدم أو يؤخر في ما نحن بصدده.كانت حجّتهما تتلخص في سواد بشرتهما وسواد أفكارهما، و بديا في غيّهما العرقي كمثل من يضع" نظارات سوداء " حتى لا يري من خلالها سوى الجزء الأسود من العالم ، غير أن المشكلة هي أن محاوراي كانا يعتبران أن سواد البشرة و سواد الخاطرة يؤهلهما لاعادة تنظيم افريقيا.في هذه المرحلة من مناقشتنا تجلت لي أهمية و عظمة موقف نلسون مانديلا و رهطه الكريم بعد نهاية نظام ال " آبارتايد" في جنوب أفريقيا .فقد قبلوا الجنوب أفريقيين البيض كمواطنين مثل غيرهم من أهل البلاد و لم يتخذوا من لون بشرتهم ذريعة لآبارتايد معكوس ، رغم أن بيض جنوب أفريقيا وصلوا جنوب القارة بعد قرون عديدة من وصول العرب لشمال أفريقيا.
و في فرحتهما بسواد بشرتهما فمحاوراي لا يخفيان حلم العودة لـ " أفريقيا الأم". و في خاطرهما فنحن كلنا ـ بما فيهم شخصي ـ أعضاء في جالية الأفارقة المغتربين المشتتين عبر أنحاء البسيطة.. يعني بالعربي " دياسبورا".

دياسبورا؟ أنا؟
و ماذا جنيت في حق الاله حتى أستحق مثل هذا المصير المقدس المجدول من أساطير العهد القديم؟ لو كانت هناك ذرّة دياسبورا في وجودي المتواضع فلابد أن لها علاقة مع الفترة التي عشتها في السودان موطني الأول قبل وصولي الى فرنسا، موطني الثاني و " أرض ميعادي" التي عدت اليها هربا من منفاي الأفريقي.
تقول الأسطورة اليهودية آن أهل الدياسبورا يرون "علامة" تنبئهم بنهاية عهد الشتات.و قد تجلت لي علامة نهاية دياسبورتي الشخصية في شكل الورق.أيوة الورق ، ورق الألوان المائية المعهود.و قد فهمت ذلك يوم وجدت نفسي داخل متجر كبير للوراقة و ألأدوات المكتبية بمدينة " ليل" في شمال فرنسا حيث كنت أقيم في نهاية السبعينات.كان ورق المائيات مبذولا على الأرفف في شكل طبقات و طبقات من كل الأنواع و كل الأحجام. و سحبت بعض الأوراق ، لمستها ببصري و" رأيتها بيدي" كما يعبر رسم" ايديوغرام" كتابة الصينيين في معنى الفحص المدقق الذي يوحد بين صورة اليد وصورةالعين .و بقيت في ذلك المكان مفتونا بهذا الكنز العجيب،أسحب الأوراق من الرف أتفحصها و أتحسس ملمسها ، أشمّها و أكاد أمضغها من نشوتي و طربي، و لا عجب فقد تعلمت في كلية الفنون في الخرطوم أن ورق الألوان الألوان المائية شيء نادر و عزيز يعبر القارات و البحار و المحيطات حتى يصل الخرطوم عاصمة الصحراء حيث كنا.و كان من يحتاز على ورقة من نوع " وطمان، هاند ميد" يبقى زمنا يتدلل بها علىنوعية الضوء ويفاوض عليها خيارات الزمان و المكان والموضوعات و الأدوات، فيحول عليه الحول و ورقة الخواجة "وطمان " تنتظر في حرزها الأمين.كنا نحتال على الندرة بالرسم على ظهر الورقة المستعملة أو بغسل الورقة بالصابون لمحو أثر الرسم القديم وتبييضها ثم كيّها و تهيأتها للرسم مرة أخرى.كانت ورقة المائيات و مازالت شيئا نادرا في ذلك المكان الملهم المتسمي كلية الفنون بالخرطوم حيث اكتشفت جل تقنيات أنبيائي المائيين من البريشت دورير لسام فرانسيس مرورا بتيرنر و شيلي و آخرين.. صعودا لموسى نبي المائيين عليه السلام الذي ضرب الماء فانفلق البحر .. و المائيات بحر من الفنون فحدّث .
دياسبورا؟
لا ، شكرا يا صحابي فأنا لا أرغب في " العودة" لأفريقيا ولا لليبيريا و لا لأثيوبيا ولا حتى لاسرائيل الموعودة.فأرض ميعادي هي هنا حيث أقيم الآن [ حتى اشعار آخر]. ذلك أنني كنت قد وعدت نفسي ببلوغها يوم تفتحت بصيرتي على حدود العالم و أنا يافع ألوّن الخرائط المدرسية بين " الشرقية الخامسة" و " الأميرية الوسطى"، ياله من زمان..في ذلك الزمان توصلت لتعريف نفسي كشخص حديث و كغربي غير أوروبي.ذلك أني لا أفهم لماذا يطالبني ال"بعض"بالعودة للـ " غولا" ـ و هي تدل على الأسر و النفي أو" الغُـل" في العبرية ـ بين الكافرين بالحداثة و الرعايا المستديمين للنيوكولونيالية المتعولمة، و ذلك لمجرد صيانة هويتي الثقافية الأفريقية.و ما أدراك ما هويتي الثقافية الأفريقية؟ هذه الشبهة الأيديولوجية العرقية التي يسقطها علي رهط الأوروبيين و الأمريكيين من ذوي البشرة السوداء الذين يحسدون القرد ـ كونهم يعرفون أنني ولدت في القارة المظلمة اياها ـ أنا بعيد منها بعد الذئب عن ابن يعقوب.بل أن بعد موضوعة الهوية الثقافية الأفريقية عني و غربتها علي يوفران لي مسافة آمنة منها فأسوّغ لنفسي حظوة تجاهلها أو تبنّيها حسب المصلحة الوجودية التي قد أجدها أو قد لا أجدها فيها.هذه الحظوة الفكرية التي أسوّغها لنفسي بالنسبة للهوية الثقافية الأفريقية تظل مستحيلة بالنسبة لهويتي الثقافية الغربية ،فهذه الأخيرة لا تسمح لي بهامش مناورة يِؤهّلني لوضعية الحَكَم فأختار بين أن أكون أو أن لا أكون.و من جهة أخرى فان وضعية "الحَكـَم " بالنسبة لسؤال الهوية الثقافية تنطوي على شيء من اللبس .ذلك أنني ان كنت أدبّر خياراتي الوجودية محكوما بمعطيات هويتي الثقافية التي هي بالضرورة سابقة على لحظة الخيار، فان مجرد قصدي الواعي لاتخاذ موقف من ما أسميه بـ" هويتي الأفريقية" انما يدحض أصل هذه" الهوية الأفريقية" التي ، ان كانت تنفع في شيء ، فهي انما توطّد من سيادة هويتي الثقافية الغربية.هذه الهوية الغربية المستبدة المتمكنة واثقة من ذاتها بحيث لا تتورّع عن رؤية نفسها متنكرة في زي " آخرها" الأفريقي. و في تحليل نهائي ما ، فليس هناك من كلف نفسه عناء استفتاء الأفارقة ما اذا كانوا يرغبون أو لا يرغبون في الانخراط في مغامرة التقليد الثقافي الغربي، و خلاصة الأمر يمكن ايجازها في كون القوم قد استقروا في المكان الذي أفسحه لهم سادة زمانهم من المستعمرين الغربيين الأوروبيين. مكان الهوية الثقافية الأفريقانية كما يعرّفها المهيمنون الأوروبيون.
ــ و لكنك مغترب تماما يا أخي .قالها " أخي" الأمريكي ذو الدم الأسود متعجبا من كلامي[ لقد حذرتكم من كونها مناقشة عجيبة].
ــ مغترب من ماذا؟
ــ من ثقافتك الأفريقية.
ــ أيّهنّ؟
ــ ماذا تقصد بأيّهن؟
ــ أقصد أن كل واحد بيننا يحمل ثقافته الأفريقية الخاصة به..
و لم يبد على محياهما أنهما فهما مقصدي فتوكلت و حكيت لهما حكاية ركن القهوة السودانية ، و هي حكاية ذات كفاءة في مثل هذا النوع من المناقشات..
في الخرطوم ، في منتصف السبعينات ، قررت شركة فرنسية فتح فندق كبير هو " ميريديان الخرطوم" كجزء من سلسلة فنادق المريديان المنتشرة في مختلف حواضر العالم الكبيرة . و في بهو الفندق قرب المطعم العالمي الفاره قرر مدير الفندق فتح كافيتيريا في صالة صغيرة أطلق عليها اسم الـ " سودانيز كوفي كورنر".و قد زينت الصالة على هيئة ديكور شرقاني ألف ليلوي بينما تنكرت الوصيفات [ الأريتريات] في الزي الشهرزادي المعهود كما بذلته للعالمين السينما الهوليودية المستشرقة .باختصار كان كل شيء على ما يرام بالنسبة للسائح الأوروبي الذي القت به المقادير في مدينة مثل الخرطوم. مدينة زاهدة مزاجها البدوي يحصنها من غوايات البيزنس السياحي عند مفترق دروب الشرق العربي و أفريقيا السوداء.غير أن الطريف في الأمر هو أن الخرطوميون سرعان ما اكتشفوا " ركن القهوة السودانية" و تقاسموا الدهشة الاكزوتية بالتساوي مع السياح من نزلاء المريديان. و بالنسبة للشباب الخرطومي من أبناء و بنات الطبقة الوسطى العربسلامية كان " ركن القهوة السودانية " بمثابة واحةيلجأ اليها الهاربون من رقابة البيوريتانية العربسلامية وتزمتها.ثم اتسعت دائرة الرواد لتشمل بعض العائلات الخرطومية الحديثة ..و خلال أشهر قليلة صار حلم مدير الفندق حقيقة لا يغالط فيها أحد و أصبح" ركن القهوة السودانية" يستحق اسمه كـ " تيبيكال سودانيز كوفي كورنر" عن جدارة في خاطر الرواد الأجانب و ذلك بفضل دعم و تبني الرواد السودانيين من هواة الكوكا و الشاي له.
و مغزى هذه الحكاية يمكن تلخيصه بكون الأفارقة قمينون ـ دون غيرهم ـ بانتاج ثقافة يمكن توصيفها بصفة الـ " افريقية" حتى و ان كان ما ينتجونه من ثقافة مفارقا لمواصفات تلك الأصالة الأفريقية التي يصونها بعض " المختصين" من العارفين يالثقافة الافريقية.و الحرية التي يتمتع بها الأفارقة تجاه تعريف ثقافتهم هي حق طبيعي يملك الأفارقة تمديده ليشمل كل المجالات و كل الحدود و ان تطرّفوا.و حق القوم في التطرف في تعريف حدود ثقافتهم أمر سيادي مشروع و مقدس حتى و لوأدّى بهم ذلك في منطقة الأمور المشتبهات من نوع تبنّي التمثّل الأوروبي لما ينبغي أن تكون عليه الثقافة الأفريقية.هذا النوع من التبني البراغماتي للقيم الثقافية الـ " مستوردة " يصبح واقعا ثقافيا أفريقيا من اللحظة التي يرى فيها الأفارقة مصلحة لهم فيه.

و هنا ، عند تقاطع المصالح القومية والدولية و الشخصية ، يجدر فحص مفهوم ما يسمى ـ منذ منتصف الستينات ـ بـ " الفن الأفريقي المعاصر" , و ما أسميه مع بعض الصحاب "الفنأفريقانية"
Artafricanisme
.و ما أدراك ما" الفنأفريقانية"؟ نوع فني جديد يتطور بين حواضر أوروبا و أمريكا و أفريقيا لأن بعض السلطات هنا و هناك تجد فيه مصلحة ما ، أخلاقية أو سياسية أو حتى اقتصادية , و"كل حشّاش يملأ شبكته" باسم القارة المظلمة اياها.
طبعا هذه الحرية العفوية التي يدبر بها أهل أفريقيا أمور ميراثهم الثقافي لا تعجب القائمين على "بيزينيس" الجمالية العرقية الذي أسّس رأسماله الثقافي، بل و السياسي، العالمي على صورة ثابتة و مبهمة للأصالة الثقافية الأفريقية.و هذا" الفن الأفريقي المعاصر " هو في الواقع مجرد عرض ثقافي أوروبي آخر بين عروض أخرى كثيرة. انه " ايزم"
..isme
آخر في مسلسل "الايزمات" التي جادت بها حركة الحداثة الأوروبية من الامبريسيونيزم[ التأثيرية] الفيوتوريزم [ المستقبلية] و السورياليزم [ السوريالية] و الكيوبيزم [ التكعيبية] الخ..بيد أن " ايزم " الفنأفريقانية انما يتوجه للأوروبيين الذين ينظرون نحو أفريقيا.
و بلا شك فان الأفارقة الذين يتبنون الفنأفريقانية الأوروبية انما يزكّونها و يضمنون لها صفة الأفريقية كاحتمال بين غيره من احتمالات فن الأفارقة الاخرى.و لكن هذا النوع من الحرية، حرية اللعب علىالبروتوكولات المفهومية للأوروبيين الذين يعالجون الشأن الأفريقي،حرية اختيار الأشكال الفنية التي تناسبهم بصرف النظر عن مدى انسجامها أو تناقضها مع اي تقليد ثقافي أفريقي، أقول هذه الحرية ممنوعة على المبدعين الافارقة.
و هكذا فسيكون هناك على الدوام نوع الأوروبيين الذين يترصدون الافارقة في" أركان القهوة السودانية" في أنحاء القارة ليعبروا لهم عن قلقهم و اشفاقهم على مصير الأصالة الثقافية الأفريقية. و هو قلق يخفي وراءه أمور تتجاوز حدود أفريقيا لأن هذا اللعب الحر و النزعة" الأسلوبية" التي تحكمه[ لو جازت ترجمتي لعبارة "المانيريزم"] انما يحيل الأوروبيين الى حقيقة بديهية غير مريحة على الاطلاق و هي استحالة الزام الأفارقة بلعب " دور " الأفارقة كما عرّفه الأوروبيون انطلاقا من المفهوم الأوروبي المحافظ للعالم و استحالة تثبيت الثقافة ـ الأفريقية و غير الأفريقيةـ ضمن مفاهيم ضيقة مستعلية على التاريخ و مستعصية على قوانين التحول الاجتماعي.
و فيما وراء الفنانين الأفارقة فان الأفارقة على اطلاقهم يتم نفيهم الى أفريقيا بعينها خارج التاريخ ، افريقيا اخترعها النخاسة الأوروبيون و رصفاءهم الأفارقة و كرسوها أبدا كفردوس مفقود للنقاء العرقي و الثقافي الذين لا تشوبهما شائبة.و في مثل هذا المشهد يتم اختزال تعدد الثقافات الأفريقية الى نوع من ثقافة افريقية صمدة منقّاة من كل العناصر الغريبة و الدخيلة على الأصالة الزنجوية لـ "القارة السوداء".ان مصادرة التعدد العرقي و الثقافي للأفارقة باسم الأصالة صار لازمة ثابتة عند الكثيرين من متعهدي الفنأفريقانية الشعبية من أفندية وزارة الخارجية الفرنسية و عملاءها الذين ينشطون في أروقة " الجمعية الفرنسية للحركة الفنية" أو الـ " آفا" [ و قيل الآفة و الحمد لله على كل شيء].

Association Française d’ Action Artistique ( AFAA)

أو في أروقة الـ "فيفا "التي يتصيد بعض أعضاءها لاعبي كرة القدم الأفارقة كما كان الأوروبيون يصطادون أنواع الوحش في احراش الذاكرة الشعبيةالأفريقانية للأوروبيين.و كل هذا الضلال الأفريقاني يغتفر طالما جاء من طرف قوم لم يدّعوا يوما معرفة علمية بالواقع الأفريقي. لكن حين يجيء الأمر من طرف قوم يعرّفون أنفسهم كخبراء أهل معرفة علمية بالواقع الثقافي للقارة فذلك ينقلنا الى مقام الحماقة المناهجية التي لا ينفع معها دواء.فلا أحد يحتاج لمعرفة تخصصية بأفريقيا حتى يفهم أن القارة الأفريقية ـ أو اي قارة أخرى ـ لا تفلت من تعقيد العالم و تركيبيته ان جازت ترجمتي لـ
complexité
و أفضل الأمثلة على النظر الملتوي ـ عن سبق القصد و الترصّدـ بغاية تسويغ الالتباس في قراءة الواقع الثقافي للأفارقة تقدمه لنا الباحثة الأفريقانية الأمريكية الشهيرة" سوزان فوغل". و بالمناسبة، كل من هب و دبّ شهير في حوش الفن الافريقي المعاصر الضيق لكن" سوزان فوغل" اشتهرت بوصفها من الرواد الذين عملوا على عرض الفن الأفريقي المعاصر في أمريكا و أوروبا و ذلك من خلال تنظيمها لمعرض " آفريكا اكسبلورس، الفن الأفريقي في القرن العشرين ، و ذلك في " مركز الفن الأفريقي " بنيويورك عام 1991
ففي مقدمتها لكتالوج المعرض الذي قدم في حينها كأحد أهم المعارض المكرسة للفن الأفريقي المعاصر

Susan Vogel, Africa Explors,20th Century African Art, 1991, New York City, Centr for African Arts, pp. 14, 25

ترى فوغل أن حياة الأفارقة و فنونهم قد تأثرت بشكل سلبي نتيجة لتقدم الاسلام و المسيحية في أفريقيا.و بطبيعة الحال ـ حال التفكير الفنأفريقاني ـ فسوزان فوغل لا تنظر الى الاسلام و المسيحية كديانات أفريقية رغم أن المسيحيون في مصر و في اثيوبياـ مسيحيون لأكثر من خمسة عشر قرنا ـو رغم أن المسلمون الذين يشكلون نصف سكان القارة على الأقل، يعتبرون أنفسهم أفارقة أيضا. و البركة في كاتب يس، الكاتب الجزائري الفرانكوفوني الكبير.كان كاتب يس يقول " اللغة الفرنسية غنيمة حرب" و ذلك حين يلومه أصدقاءه القوميون العرب على الكتابة في لغة المستعمرين الفرنسيين. طبعا هذا النوع من الحروب الذي يتم فيه تقاسم الغنائم بالتساوي بين الغالب و المغلوب لا يناسب المزاج التبسيطي لمن اختاروا الوقوف مسبقا في معسكرالمصنّفين كـ "غالبين" .
و السؤال الذي يفرض نفسه في هذا المشهد ينطوي على شيء من الحرج ، الا أنه سؤال ضروري لفهم الوضعية المركبة للفن الأفريقي المعاصر في الولايات المتحدة.ما الذي يكسب اختيار معسكر الغالبين، في حالة سوزان فوغل،مصممة المعرض الذي يطرح الفن الأفريقي المعاصر كخصوصية آفروزنجوية ، ما الذي يكسبه دلالاته السياسية على صعيد الواقع الاجتماعي للمجتمع الأمريكي المعاصر؟ و بعبارة أخرى ، أين تقف سوزان فوغل من الصراع الاجتماعي الدائر في الولايات المتحدة و ما هي عواقب الخطاب الأفريقاني المضمر في المعرض بالنسبة للجمهور الأمريكي ذي الأصول الأفريقية؟ يعني بالعربي ماذا ستفعل أمريكا بسودها؟
لقد مر على الأمريكان عهد تمكن أهل البر المسيحي فيه من ارجاع بعض المواطنين الأمريكيين السود للقارة السوداء لتأسيس يوتوبيا التطهير العرقي الطوعي على الطريقة الأمريكية في ليبيريا.كانت مغامرة ليبيريا بمثابة تنويع أسود على فكرة " ريزيرف " الهنود الحمر خارج أمريكا.و هي حماقة مكلفة يدفع ثمنها غاليا كل يوم كل طرف من أطراف المجتمع الليبيري المعاصرسواء بالنسبة للأمريكيين السود [ المستعمرين ؟ ] أو بالنسبة لأهل ليبيريا الأصليين.
و اليوم ما زال هناك من بين أهل أمريكا، على اختلاف ألوانهم ، من يرى أن احالة السود الأمريكان لخارج أمريكا ـ لا الى أفريقيا الجغرافيا و انما الى أفريقيا الرمز ، أفريقيا الفنأفريقانيةـ أمر صائب و عملي . و ثمة بيزينس ورزق عرقي واسع في بلاد العم سام وسيلته و غايته الفنآفريقانية بكافة تعبيراتها ، و هو" سوق شعبي " أقدم و أوسع بكثير من فنأفريقانية التشكيليين لكن ميزة الفنأفريقانية التشكيلية هي أن أهل التشكيل يدخلون الحلبة بمفاهيم فلسفية أكثر كفاءة و بالتالي أشد فتكا حتى أن أمريكا صارت تصدر نحو القارة الأفريقية النسخة الآمريكية من الفنأفريقانية التشكيلية و هذا باب للريح فتحه يقتضي حيلة و سعة في العبارة كون الفنأفريقانية الأمريكية تد خل الآرض الأفريقية على أنقاض الفنأفريقانية الأوروبية في نسختها الفرنسية[زنوجة سنغور و شركاه].
مسنودة بمؤسسات رعاية قوية ، فان الفنأفريقانية تعمل بكفاءة عالية ليس في أمريكا وحدها و انما في أفريقيا أيضا، ذلك أن هناك عدد كبير من الفنانين الأمريكان السود و الفنانين الأفارقة ممن يجدون منفعة جمالية في المشروع الذي تبذله لعنايتهم آلة الجمالية العرقية الأوروبية.و حين يتبنى الفنانون الأفارقة مشروع مؤسسة الجمالية العرقية الأوروبية ـ بصرف النظر عن دوافعهم ـ فهم ببساطة يكسبون له شرعية أفريقية ويجعلون منه احتمالا [ عرقيا] آخرا في الفن الأفريقي المعاصر.أما حين يتبناه الفنانون الأمريكان السود فهم يجعلون منه احتمالا عرقيا آخرا بين احتمالات الفن الأمريكي المعاصر.
بيد أن الانخراط في المشروع الفنأفريقاني ليس اجباريا بالنسبة للفنانين الأفارقة و لا بالنسبة للفنانين السود الأمريكان اذا رأى هؤلاء و أولئك تدبير أمور فنهم على نحو مغاير لموجهات الأصالة الفنأفريقانية.


االانخراط في الفنأفريقانية ليس سوى خيار جمالي بين خيارات أخرىو في هذا المشهد فان رواد تيار الفنأفريقانية هم الفنانون الأوروبيون المحدثون[ من نوع بيكاسو و مودلياني] الذين قادهم البحث في جماليات الشكل نحو استكشاف المجال الأيقوني لممارسات التشكيليين الأفارقة.و هي لحظة ذات حظوة مميزة في تاريخ حركة الفن الحديث حتى أن بعض المؤرخين يحيلون اليها اكتشافا في أهمية التكعيبية [ لوحة" آنسات أفينيون"]. لكن الاتجاه السائد وسط أغلب مؤسسات رعاية فن الأفارقة المعاصر ، سواء أن كانت في أوروبا أو في أمريكا يتلخص في فرض الفنأفريقانية كدرب اجباري لكل الفنانين الأفارقة المعاصرين و قيل لكل الفنانين السود سواء أن كانوا أفارقة أم لا.و لا جناح على الفنانين السود الأمريكان ان مشوا على درب الفنأفريقانية لأنهم وجدوا فيه مصلحة سياسية ضمن ملابسات سياسة التمييز العرقي الايجابي السارية في الولايات المتحدة و ذلك من باب " المال تلته و لا كتلته "، لكن ما يحدث في أمريكا لا ينسحب بالضرورة على اهل أفريقيا الذين قد يرغبون في اتباع دروب جمالية أقل
ضيقا من الدرب الفنأفريقاني

في سودان السبعينات سعت دولة الطبقة الوسطى العربسلامية لدعم الاتجاه الفني التشكيلي المتسمي بـ " مدرسة الخرطوم" لأنها استشعرت عند ناشطيه شيئا من التضامن ـ و قيل التواطؤ ـ مع آيديولوجية دولة العربسلامية في السودان.و قد كان الغرض المعلن لفناني " مدرسة الخرطوم "ـ و بينهم أشخاص كالصلحي و شبرين، ولاحقا عبدالعال، شغلوا مناصب مسؤولية في الأجهزة التنفيذية للدولة أو في الأجهزة السياسية للحزب الحاكم اضافة لعملهم بالتدريس في كلية الفنون بالخرطوم ـ كان غرضهم هو صيانة الأصالة الثقافية السودانية بتأسيس فن تشكيلي سوداني يستلهم الموروث الثقافي السوداني. و قد بذلوا للناس صورة للتشكيل السوداني فحواها المزج أو الهجنة بين عناصرالتقليد العربي الاسلامي[ مجسدة في فن الخط العربي] و عناصرتقليد الزنوجة الأفريقية[ مجسدة في أشكال الزخرف الأفريقي].
لكن الاطار المفترض لهذا التهجين تم تعريفه ـ بالذات في النصف الثاني من السبعينات ـعلى أساس الدين الاسلامي.و لم يكن لخيار الاسلام علاقة بالضرورات الفكرية و الجمالية للتشكيليين الخرطوميين لكنه كان تعبيرا عن امتثال الفنانين لمشيئة الدولة النميرية التي كانت قد شرعت في التخلي عن آيديولوجية التعدد الثقافي لتتلبس أيديولوجية " النهج الاسلامي".
و في البداية ـ في العصر الذهبي لمدرسة الخرطوم ـ كان الانتاج الفني ـ الغرافيكي غالبا ـ للتشكيليين الخرطوميين يتميز بمنطق المزج بين العناصر الأيقونية العربية مختزلة الى الخط العربي و العناصر الأيقونية الأفريقية مختزلة الى الزخرف الهندسي البدائي الذي يحال جورا الى الفن الأفريقي في الخاطر الشعبي.و قد سوّغت سهولة المعادلة الجمالية لمدرسة الخرطوم ، بالاضافة للقبول الرسمي الذي لاقته من قبل السلطات، سوغت لعدد كبير من تلاميذ الصلحي و شبرين في كلية الفنون أن ينخرطوا بلا حذر و بغير نقد ، في مغامرة " مدرسة الخرطوم".و قد ترتّب على هذا التورّم " الآيديولوجي" لمدرسة الخرطوم افقار حركة البحث الجمالي لجيل التشكيليين من تلامذة الصلحي و شبرين الذين ارتاحوا في ظل لقّيات الأساتذة و زهدوا في استكشاف أرض الخلق التشكيلي الممتدة وراء حدود الزنجعرابية البائسة المنسوبة لأهل السودان و التي سيسميها الباحث أحمد الطيب زين العابدين لاحقا باسم " السودانوية"، كما ترتب عليه تهميش عدد من التشكيليين السودانيين المهمين الذين أقاموا في العتمة الاعلامية لمجرد أن مشاريعهم الجمالية كانت غير قابلة للاندماج في المنظور الآيديولوجي الرسمي لدولة العربسلامية السودانية.
و هكذا فالرعاية الآيديولوجية تكاد تكون الشكل الوحيد من أشكال الرعاية الذي يستفيد منه الفنانون المعاصرون في أفريقيا.و مثال السودان يمكن أن نجده في بلدان أفريقية أخرى و " كلنا في الهم شرق".
و قد أوردت الباحثة الأمريكية" سيدني ليتيلفيلد كاسفير" في كتابها جيد التوثيق " الفن الأفريقي المعاصر" حالة شبيهة من حالات الرعاية الآيديولوجية من خلال المثال السنغالي الذي يمكن أن يساهم في اضاءة حالات افرقية و غير افريقية للعلاقة العصيبة بين الفنانين و رعاتهم.تقول كاسفيربأنه " اذا كان الفنانون السنغاليون قد انتفعوا بشكل غير عادي من الدعم و الرعاية التي قدمها لهم الرئيس سنغور، فقد كانت للرعاية السنغورية حدودها. ذلك أن تلقي العون الرسمي بالكامل يقتضي من الفنانين الانخراط في مشروع الزنوجة[ نيغريتود] المبذول كآيديولوجية رسمية للنظام.المشكلة هي أن أيديولوجية الزنوجة حين يتم اختزالها الى سلسلة من الممارسات الشكلية فهي تتحول لآكاديمية ثابتة لا يطالها التطور. و هكذا تم انمساخ ما كان في البداية علامة على انفتاح البصيرة الخلاقة الى نوع من سياسة ثقافية رسمية متحجرة لا تطيق النقد العقلاني".