الخميس، ٣٠ تموز ٢٠٠٩

وماذا نفعل مع النصارى؟


باب في ذكر ما جرى:

كدت اعنون مداخلتي هذي بعبارة" إعتداء وحشي على معرضي في كنيسة سان ريمون" لولا ان امرها يتجاوز مشكلة المعرض لمشكلة اوسع هي مشكلة النصارى،أو، بعبارة أخرى:"مشكلة المؤسسة الكنسية" في زمن العولمة.و أصل الحكاية هو أن جمعية " كاب آكّوي" الثقافية
Cap Accueil (
cap.accueil@wanadoo.fr )
درجت منذ تسع سنوات على تنظيم سلسلة من المعارض داخل شبكة من الكنائس القديمة الموزعة في منطقة " لا بوانت"
La Pointe
بمحافظة " فينيستير"
Finistère
بإقليم "بريتاني".و الجمعية مكونة من الناشطين الثقافيين العلمانيين فيهم أغلبية من المعلمين المتقاعدين القريبين من الحزب الإشتراكي. قبل اشهراتصل "كلود بوفييه"،مسؤول الجمعية عن تظاهرة " الفن في لا بوانت"[لارآلابوانت]
L’ Art à La Pointe
www.l’artalapointe.fr

،بغاليري"باسكال بولار" التي تولت عرض أعمالي في معرض سابق بالإقليم[بمتحف "سان بريو"
« L’homme est un mystère » au Musée de St.brieuc .
]و عرض عليه أن ينظم إشتراكي بمعرض فردي في إحدى الكنائس التي تستخدمها الجمعية في عرض الأعمال الفنية المعاصرة ضمن التظاهرة السنوية" الفن في لا بوانت". شرح لي كلود بوفييه أن الكنائس كعقار هي، بنص القانون، ملك الدولة التي تتولى صيانتها و تصرف عليها من المال العام.و المؤسسة الكنسية ليست سوى مؤجر للعقار.لكن الكنيسة الكاثوليكية مؤجر رمزي لا تتقاضى منه الدولة و لا سنتيم. و الأمر كله إنما يتعلق بصيانة فولكلور الدين كأثر ثقافي زائل لأن عدد النصارى الذين يؤمون الكنائس انحدر في العقود الأخيرة لمعدل إثنين في المئة من مجمل سكان المنطقة.و الكنائس التي يرجع تاريخها للقرون الوسطى تمثل اليوم كأطلال حضارة بادت .و قد توصلت سلطات الإقليم العلمانية، منذ زمن طويل إلى إتفاق مع المؤسسة الكنسية فحواه ان تقبل الكنيسة بالإستخدام الثقافي للكنائس، كصالات عرض او مسارح أو محافل موسيقية، مقابل قيام السلطات بصيانة امكنة العبادة.و قد علق كلود بوفييه بأن الكنيسة الفرنسية سعيدة بهذا الإتفاق لأنه يصون ماء وجهها بالمقارنة مع بعض الكنائس الأوروبية ، كما في ألمانيا، حيث تقوم المؤسسة الكنسية ببيع بعض الكنائس من وقت لآخر للأفراد و المؤسسات التي ترممها و تجعلها مكاتب او مساكن أو اندية ملاهي خاصة. و استمرت التحضيرات و نظم القائمون بأمر الجمعية ترتيبات حضورنا ونصّبت اللوحات في كنيسة " سان ريمون" بمدينة " أودييرن"
Eglise Saint-Raymond,Audierne
الجميلة التي تطل على المحيط الأطلسي.
قبل الإفتتاح الرسمي بأيام اتصل بي كلود بوفييه هاتفيا لينقل لي ان قس كنيسة أودييرن اعترض على أحد أعمالي بدعوى ان الصورة تحتوي على عارية ذات بعد حسّي يتنافى مع طبيعة الكنيسة كمكان عبادة.
كان الإعتراض يتعلق بالصورة المعنونة "حوارات الحضارة"، و هي جزء من سلسلة تقارب العشرة تدور حول موضوع حوارات و حروب الحضارة الرأسمالية و جلها يعتمد على أثر الفنان الإسباني " دييغو فيلاسكيز" المعروف " فينوس في المرآة".و هي من عاريات فلاسكيز النادرة التي نجت من رقابة التعصب الديني في زمن محاكم التفتيش في اسبانيا.و قد عمدت في صورتي إلى استبدال وجه فينوس في المرآة بوجه بن لادن للتنبيه لأن فينوس التي تقوم مقام الحضارة الغربية تبدو مستغرقة في حوار نرجسي مع صورتها في المرآة.و أن بن لادن الذي فرضته اجهزة الإعلام الأوروأمريكية كأيقونة نهائية للمسلمين و للشرق عموما ليس سوى إنعكاس لصورة فينوس " ميد إن يو إس أي".والصورة مركبة عمدا كخطاب سياسي مباشر يستهدف اسطورة حوار الحضارات القابلة للإنمساخ في أي لحظة لحرب الحضارات ، بين حضارة الخير الأوروأمريكي و حضارة الشر الإسلامي.و اسطورة حوار/حرب الحضارات ليست سوى مسرحية رديئة الحبكة يؤديها ممثلون على قدر كبير من الخراقة تحت توجيه مخرج أمريكي فظ غليظ القلب لا يفهم في فن السياسة ولا يحترم ذكاء الجمهور و لا يهتم بغير حماية مصالحه المادية المباشرة.
معظم تصاويري المتأخرة مصممة ـ عن سبق القصد الجمالي ـ على منطق الملصق السياسي الهتافي الذي يستعين بتضامن الصورة و الكتابة في توصيل الخطاب السياسي كنوع من بروباغاندا مضادة لبروباغاندا آلة الحرب الإعلامية الأوروأمريكية.و أنا واع بالبعد السياسي المباشر لتصاويري التي اصممها منذ البداية كمادة بروباغاندا مضادة الفرق الوحيد بينها و بين بروباغاندا رأس المال هو في كونها بروباغاندا صادرة عن شخصي الضعيف ، وحدي في وجه غول رأس المال المتعولم الذي يختزل المواجهة الطبقية الكونية المعاصرة لمجرد صراع آحادي الجانب بين شرار البرابرة و خيار الأوروأمريكيين المتحضرين.غير أن اعمالي ليست مجرد ملصقات سياسية فحسب، لأن الجمهور الذي يتأملها يجد فيها نوع الغذاء الجمالي الذي لا يجده عند مصممي الملصقات السياسية.و أنا لم أدخل على الرسم من ضرورة الملصّق السياسي لكني داخل على الملصق من ضرورة الفن، ضرورة الحياة. ذلك لأني أعرف أن جمهور التشكيل يتأمل التصاوير التي ابذلها له على خبرة طويلة بثقافة الصورة تعصمه من قبول الأثر الفطير الذي يكتفي بالهتافية السياسية وحدها.أقول قولي هذا من باب الإيضاح لا من باب الإعتداد بالنفس الأمّارة. رغم كوني لا اعتذر عن إحساني لصناعة الرسام من باب التواضع الكاذب.فصناعة الرسام عندي هي حاصل كفاح تقني و مفهومي ـ و قيل حاصل عصاب مرضي ـ أتمنى له ان يمتد و يمدد من اسباب حياتي في" الدميا الزايلة"[ أردت " الدنيا" و أراد الكيبورد " الدميا" فاقرأ" الدمية الزايلة" وهي أقوم والحمد لله على رزق المساكين المستـنـّي في كيبورد المجانين].

قلت لكلود بوفييه:" هذه مفاجأة كبيرة بالنسبة لي ،فأنت الذي اخترت الأعمال و أنت عارف بطبيعة الجمهور الذي تخاطبه، و عليه فإن اردت سحب صورتي " حوارات الحضارة" فعليك ان تسحب كل الصور الأخرى و تلغي العرض بالمرة و أنا لست مضطرا لقبول السنسرة من أية جهة كانت".
قال كلود بوفييه" لا يعقل ان نلغي المعرض لأنه جزء من سلسلة متصلة من أحد عشر معرضا و الإلغاء ربما عرض التظاهرة للإلغاء المرة القادمة لأن سلطات المؤسسة الكنسية المعروفة بتعاطفها مع حركة الكاثوليك الأصوليين قد تتذرّع بإلغاء العرض لسحب موافقتها على استخدام الكنائس في الموسم القادم". قلت لبوفييه أن الكنائس كعقار هي ملك الدولة و ربما أمكن تعبئة المسؤولين السياسيين للتأثير على سلطات الكنيسة" فقال بوفييه كلاما كثيرا ألخصه بأن هناك سابقة من هذا النوع قي بداية استخدامهم للكنائس كأمكنة نشاط ثقافي إلا أنهم كسبوا معركة واحدة و الحرب سجال لم ينتهي بعد.. بقي الموضوع معلقا لأيام علي وعد من بوفييه بتحريك المسؤولين السياسيين في مستوي البلدية و مجلس المنطقة و الإقليم و هي مؤسسات يهيمن عليها اليسار الإشتراكي. لكن اليسار الإشتراكي في هذه الأيام أشنع من الراكوبة في الخريف.و لما لم تثمر جهود بوفييه في إثناء الأب " إيف لوكليش"، قس كنيسة أودييرن عن معارضته.طلبت منه ان يعطيني رقم هاتف القس في كنيسة القديس سان ريمون التي أعرض فيها . تلفنت للرجل ثلات مرات و تركت له رسائل مسجلة بلا فائدة. قال لي كلود بوفييه بأن الأب " لوكليش" على علم برسائلي لكنه زاهد في المناقشة معي أومع اي شخص آخر في هذا الأمر، و نصحني بالإتصال بقس آخر "أكثر إنفتاحا" هو الأب " غوستي هيرفي" و هو " مسؤول الأسقفية لشؤون الفن المقدّس". و رغم لقبه الطنـّان فالأب هيرفي رجل بسيط مطبوع بالمرح على معرفة عميقة بحركةتاريخ الفن الحديث و المعاصر. قلت له"أنا تركت السودان لأن السلطات السياسية المتأسلمة تسنسر الحياة من حيث هي. و حين وصلت فرنسا كنت اظن أن تدابير السنسرة تاريخ قديم تركته ورائي فإذا بي في مواجهة قوم يريدون سنسرة تصاويري هنا في فرنسا التي تزعم أنها وطن حقوق الإنسان" قال لي الأب هيرفي" لقد شاهدت أعمالك و أعجبتني و لا أظن ان فيها ما قد يصدم مشاعر المسيحيين. و سأحاول التدخل لصالح عرض الصورة المعنية في الكنيسة لكن المشكلة هي انني لا أملك تأثيرا كبيرا على الأب لو كليش فهو مستقل بقراره".شرح لي كلود بوفييه بعدها بأن الأب" قوستي هيرفي" يمثل الأقلية المستنيرة داخل جسم كاثوليكي محافظ ملغوم بخيارات الأصوليين.
وصلنا لمنطقة المعرض قبيل الإفتتاح، و في الصباح بدأنا جولة الإفتتاحات تنقلنا حافلة كبيرة فيها حوالي خمسين شخصا و يتبعنا آخرون في سياراتهم الخاصة في طواف على مواقع الإحدى عشر معرضا بعضها في مدن متوسطة و بعضها في قرى صغيرة و بينها كنائس في امكنة لم يعد يسكنها احدعلى الإطلاق. و في الإنتظار أمام الكنيسة الثانية أشار كلود بوفيه لرجل أشيب ضخم الجثة في نهاية عقده الخامس و قال لي:"هاهو الأب اوكليش قس كنيسة اودييرن". اقتربت من الرجل و حييته و قلت له : "أنا حسن موسى الفنان الذي يعرض في كنيستك، و كنت قد تركت لك بعض الرسائل الهاتفية في تلفونك بخصوص الإعتراضات التي يبدو ان إحدى صوري قد اثارتها". قال الرجل و قلق باد في عينيه: لو كان الأمر بيدي لما كانت هناك مشكلة لكن هناك اشخاص بين رواد الكنيسة اعترضوا على الصورة من وجهة نظر حساسيتهم الدينية فكان لابد ان انقل وجهة نظرهم للمنظمين، و هذا شيئ طبيعي، و إن لم افعل فسوف تصل شكواهم للأسقف نفسه و كما ترى فأنا بين نارين و هو موقف صعب.
قلت له" هناك شيئ لم افهمه ، لأن الكنيسة ، من اللحظة التي وافقت فيها سلطاتها على إعارة امكنة العبادة للمناشط الثقافية فهي قد قبلت المخاطرة بتعريض أماكن العبادة لعوارض الفن المعاصر الذي يصعب على أي شخص التنبوء بنزوات أهله. فما الذي دفع الكنيسة لقبول مخاطرة من هذا النوع؟"
قال:" لقد وقعنا على ميثاق مشترك مع منظمي التظاهرة الثقافية مضمونه أننا نسمح باستخدام أماكن العبادة بشرط ان لا يترتب على المناشط الثقافية التي تتم فيها أي نشاط من شأنه أن يصدم المشاعر الدينية للناس".
هنا في هذا المقام الفضفاض المعرف بـ " المشاعر الدينية" إنبهمت دروب المناقشة في ثنايا تناقضات الواقع السوسيولوجي و السياسي لأهل إقليم بريتاني.و لم ينقذني من و حستي إلا وصول بوفييه هاشا باشا: " أسمع لقد توصلنا لحل وسط ربما خارجنا من المشكلة دون ان تضطر لسحب أعمالك.فقد أقنعنا سلطات الكنيسة بأن تبقى اللوحة التي أثارت مشاعر الكاثوليك يوم الإفتتاح، و هو اليوم الذي سيشهد اكبر عدد من زوار المعرض على ان نسحبها بعد الإفتتاح فما رأيك؟"لم أفهم من عي الجهة التي توصل معها بوفييه لإتفاق و لكني شعرت بأن هناك نوع من "سلطة ظل" سرية تعمل فوق مستوى الأب لوكليش، تجنبت المناقشة المباشرة معي طوال بحثي عن حل.
سألت بوفييه:" و ما ذا سيحدث لو أصريتم على بقاء اللوحة طيلة اسابيع المعرض؟"
قال:" ببساطة سيحاولون استغلال المسألة لحرماننا من استخدام الكنائس المرة القادمة"
قلت لبوفييه:" أنت تعطي رجال الكنيسة حق تدبير تفاصيل التظاهرة الفنية بدلا من ان تفتح معهم مناقشة عامة حول العلاقة بين الدين و الفن المعاصر و هي مناقشة من الممكن ان تكسبوا لها قطاعات مهمة من الأغلبية الكاثوليكة الصامتة. و من يدري فربما توصلتم لحسم المنازعة حول حق استخدام الأمكنة الكنسية لصالحكم بشكل نهائي." عزّاني صاحبي بقوله:" على كل حال يوم الإفتتاح سيكون هناك الجمهور و المسؤولين السياسيين على مستوى اللإقليم و ممثلي الصحافة و الإعلام و يمكنك ان تخاطبهم و تفتح معهم الموضوع".
..