صحيفة الحياة, العدد10789 , الأثنين 24 أغسطس 1992
حسن موسى يعرض أعماله فى لندن
طقس تشكيلى أساسه سوء الظن
لندن – فتحى عثمان:
فى أول معرض له فى لندن قدم الفنان السودانى حسن موسى ( مقيم فى باريس) 12 عملا منها أربع لوحات كبيرة الحجم منفذة على القماش بألوان خاصة بالمنسوجات, وثمانية أعال صغيرة على مغلفات بريدية, معنونه ومختومة, وهى امتداد لما يعرف "بالفن البريدى"
الى جانب المعرض الذى يستمر في غاليرى سافنا حتى نهاية الشهر الجارى, قدم الفنان طقسا تشكيليا يوم افتتاح المعرض نفسه, نفذ فيه رسما على قماش مشدود على أرضية صالة المعرض, وسبق له أن أن قدم طقسا تشكيليا آخر فى مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية – جامعة لندن, مساء السابع من الشهر الجارى وحمل أسم "عشاء أفريقى أخير" وفى نهايته دار نقاش مستفيض بين الفنان والحضور حول معنى وجدوى ودلالة الطقس التشكيلى وعلاقته بفعل الابداع المتعارف عليه وبموضوعة المعرض فى صيغته التقليدية.
تميز حسن محمد موسى (مواليد 1951) ومنذ بداياته الأولى بعمق النظر فى موضوعاته وأدواته وأساليبه, وكان ينحو الى الاغراق فى السؤال والبحث المفتوح على كل الاحتمالات. ليس هناك ما هو نهائى بالنسبة اليه, حتى الأشياء الأكثر ثباتا تغريه بامتحان ثباتها, فالجوهرى عنده هو سوء الظن, وربما يعود ذلك الى أنه منشغل أيضا بالجوانب النظرية فى التشكيل, فهو فنان و ناقد فى آن, ينتج بغزارة نادرة, وناقد ذو عين بصيرة وصبر على البحث فى كل ما يتصل بموضوعه.
درس حسن موسى فى قسم التلوين فى كلية الفنون الجميلة والتطبيقية فى الخرطوم وتخرج فيها عام 1974 وعمل مصمما فى التلفزيون السودانى , ثم أنتقل للعمل كمصمم غرافيكى فى دار جامعة الخرطوم للنشر, وأشرف على صفحة "ألوان الفن والأدب" فى جريدة الأيام (1975 -1978 ) قبل انتقاله لفرنسا حيث درس فى السوربون ومونبلييه, وحصل على الدكتوراة فى تاريخ الفن.
كان حسن واحدا من مجموعة من الفنانين الشباب الذين أضفوا حيوية وعمقا على الحركة الثقافية فى الخرطوم خصوصا فى مجال التشكيل, وشكلوا تحديا كبيرا للأجيال التى سبقتهم. الرؤية التى حملتها هذه المجموعة لدور الفن ومعناه قادتهم الى معارك نظرية طويلة وصاخبة خصوصا فى نقد الخلفيه النظريه لما يسمى "مدرسة الخرطوم" . وحين نستمع اليوم الى حسن موسى نجد أنه لا يزال يعمق موقفه الناقد للأساس الاجتماعى لما أسماه يوما "الجمالية العرقية" والتى تمثلها " مدرسة الخرطوم" ويذهب الى حد الشك فى جدوى ومشروعية التساؤل حول الهوية وبالتالى جدوى الابداع الفنى على أساس التميز الأثنى أو الجغرافى. , ثم يطرح التساؤل حول معنى ومصير الطرح السياسى الاجتماعى لمن يسميهم "الأفندية" أو الانتلجنسيا المدينية التى ورثت المستعمر ولم تر بأسا فى رعاية مصالحه نيابة عنه.
تميز حسن بعلاقة حميمة مع فعل التشكيل جعلته من أغزر الفنانين السودانيين انتاجا وتنويعا فى الموضوعات والمواد والأساليب, منطلقا من موقع الباحث فى عوالم التشكيل الغنيه باحتمالاتها اللانهائية. وظل حسن فى كل أعماله, وحتى الواقعية منها , قريبا من فكرته الأساسية, وهى أن جوهر التشكيل يتمثل فى البحث عن علاقات المرئيات من كل جوانبها: اللون والشكل والماده, وفى هذا السياق لا يبقى الموضوع سوى ذريعة تسمح بالولوج فى عالم التشكيل من باب ما, بكل ما فى ذلك من مخاطر وصعوبة وبكل ما فيها من متعة وتفكير.
سيجد الذين عرفوا أعمال حسن موسى فى السبعينات وأوائل الثمانينات القليل مما أعتادوا عليه فى هذا المعرض. وسيفاجأون بأن المعروضات تقع خارج نطاق الأعمال التقليدية , فالفن البريدى لم نعرفه فى بلداننا, وهو يعود الى تاريخ قديم نسبيا فى أوروبا, وينتشر بين الفنانين وأصدقائهم, اذ حولوا الغلاف الى مساحة لعمل تشكيلى سمته الغالبه الطرافة ولكنه لا يخلو من من جدية تقتضيها طبيعة العمل – مهما كان موضوعه أو مادته – واتى تقود الى النظر فى جوانب الموضوع والألوان والخطوط والتصميم.
تتميز أعمال حسن موسى البريدية, والغلاف (المظروف) بالنسبة اليه هو أحد وسائط التداول التشكيلى, بتصميماتها التى تنبنى على أساس الرسومات التى تحتويها الطوابع, وتحويلها الى أشكال جديدة وموضوعات, ويضيف اليها أحيانا طوابع قديمة وصورا صغيرة تخدم الفكرة وتثريها, مستخدما أقلام تخطيط وألوان متنوعة.
اللوحات كلها منفذة على القماش بألوان خاصة بالمنسوجات يتم تثبيتها بواسطة الكى, وفىها كثير من الجدة لجهة موضوعها الذى يمثل امتدادا لانشغال الفنان باحتمالات التكوين عبر نموذج الحيوان الاسطورى الذى فيه شئ من التنين وشئ من التمساح وأشياء من الزواحف الأخرى وحوله ومعه موتيفات نباتية صغيرة.
فى هذه اللوحات تداخل مذهل بين العناصر المكونه للوحة, تصارع بعضها, فمهارة الملون تمنح اللون مساحة ومهارة الرسام تعلى من شأن التخطيط وتثرى تكوين اللوحة بالتفاصيل, فتظل العين تتنقل بين الأثنين دون أن يكون هناك حد فاصل فى الواقع. اللوحات التى نفذها الفنان على قماش مطبوع عليه أزهار يتداخل فيها الموضوع مع الأزهار المطبوعة سلفا ويندمج فى بعض أجزائها, ولا يكاد الناظر يعرف أين يبدأ الموضوع وأين ينتهى , والفكرة لا تخلو من طرافة ولكنها فى الوقت نفسه تشهد على الذكاء والمهارة, تجعل الموضوع قائما وليس قائما فى آن, ظاهر وخفى, عبر درجات اللون وتشابه الأشكال.
أثار عرضا "الطقس التشكيلى" اللذين قدمهما حسن موسى قدرا كبيرا من الأسئلة, وذهب كثير من الحضور وحيرته لم تنجل, فما الذى عناه الفنان بهذا العرض الذى لقى اهتماما أكثلر من معرضه؟ يقول حسن أن الطقس التشكيلى "محاولة لتلافى قصور ظاهرة المعرض الذى لا يعرض الأثر النتشكيلى بل يعرض مرحلته النهائية. والعمل التشكيلى فعل حركة يستغرق وقتا. وغرضى من اقامة الطقس التشكيلى أن أقدم للناس عملا مفتوحا على كل الاحتمالات. أبدأ من البياض وأقود المتفرج بلا خارطة , فى طريق غير مرسوم المعالم, وهنا يكمن بعد المخاطرة واحتمال الفشل" .
يسمى حسن موسى عمله, الذى هو بمثابة رسم على المكشوف, يسميه طقسا, "لأنه ليس هناك مفر من السلوك الطقسى. فى المعرض نفسه, وحتى فى الحياة اليومية كذلك, على رغم أنه أنه قد يكون مموها فلا ننتبه اليه. المعرض فيه طقس تعليق ( بكل ما للكلمة من دلالات) اللوحات, ثم هناك طقس الافتتاح بما يحتويه من خطابة ومأكل ومشرب! ثم أخيرا طقس المشاهدة المستند الى توجيهات الكتالوغ وقائمة الأسعار .. هذا كله سلوك طقسى لا علاقة له بجوهر عملية التشكيل نفسها. أنا أحاول أن أتجاوز مجموعة هذه الطقوس بأن أضع مكانها اطارا طقوسيا من طبيعة عملية التشكيل نفسها, والحضور حولى فى انتظار تتابع العلامات ولا يفكرون فى أى شئ خارج عملية التشكيل نفسها, والطقس كل مرة, وحسب ملابسات المكان والمواد وموضوع الرسم ".
فى نهاية الطقس التشكيلى الأول تساءل بعض الحضور عن مغزى ما حدث, وما الذى يكتسب أهمية أكثر من غيره, أهو الناتج النهائى أم حضور لحظة الابداع نفسها؟
يرى الفنان أن " قيمة العمل الناتج عن الطقس التشكيلى ليست فى العلامه التى تبقى على المسند, وانما تكمن فى اللحظة التى تتخلق وتولد فيها العلامة نفسها, وهذا ما يصعب اقتناؤه, بينما اللوحة يمكن اقتناءها. تبقى هذه
( اللحظة), لحظة التكوين عصية , تتملكها العين كحدث بصرى , وتتحول الى خبرة لدى المشاهد والرسام على السواء, وهذا أشبه بخبرة الاستماع الى الموسيقى.
الناس أسرى فكرة اللوحة, على أساس أنها حصيلة جهود فى حين أنها ليست سوى نتيجة آخر جهود مرحلة توقف عندها الرسام, وجهد الرسام يتم فى الزمان على أساس صيرورة, وفى المكان على أساس الأثر البصرى الذى يتم على المسند. بالنسبة الىّ لا تبقى للعمل الناجم عن الطقس التشكيلى أى قيمة بعد انتهاء عملية الرسم نفسها. فهذا العمل أشبه بآثار قدم الراقص على الأرض بعد انتهاء الرقص"!
الثلاثاء، ١٤ آب ٢٠٠٧
علي المك " الفولوكس في القراش
حين كنا نعد فى لندن لتأبين الأديب الراحل على المك طلبت من الصديق حسن موسى أن يرسل لنا كلمة تقرأ فى المناسبة, وقد أستجاب للطلب بكلمة تقول الكثير عن على المك ومدينته وعن تى. اس. أحمد, وعن التشكيل .. وعن الخيبات والبؤس الذى مايزال يظلل ذلك البلد " الجاف المتلاف" كما تقول عبارة حسن نفسه.
فتحي م عثمان
________________________
على المك .. "الفولكس فى القرّاش"
"ياخى ديل ناس ما بفهمو!" قالها بحرقة فى حر ذلك النهار الغائظ من نهارات أغسطس 1977 وكان المضمر فى العبارة أن " الناس" الذين عناهم " ما بفهموا الفن", كان واقفا تحت ظل شجرة نيم بدار جامعة الخرطوم للنشر, يسند لوحة كبيرة كما يُسند الجريح المصاب, وكان يتسائل عن وسيلة يعالج بها مزقاً صغيراً فى أحد جوانب قماشة اللوحة. حين خرجت من قسم التوزيع (حيث كنت أعمل حينها) وقعت عينى على لوحة تاج السر أحمد "المابتغبانى" "الفولكس واجن فى القراش" والتى كانت بين أعمال تى. اس. أحمد فى فترة السبعينات, كان على المك يتحسر ويتفكّر وحوله "عم محمد" و "مارتينو" وبعض سعاة الدار وموظفيها وقد تحلقوا حول اللوحة يتأملون جرحها ويتساءلون عن الدواء.
كانت لوحة تاج السر قد تمزقت فى ركنها من جراء سوء التخزين فى مصلحة الثقافة التى كانت تعانى من من ضيق المجال وتدهور الحال وقد غادرها محمد عبد الحى بشعره وجنونه فآلت لنفر من الديوانيين العاديين. وأظن أن تاج السر أحمد قد استعاد لوحته من الدمار ووهبها لعلى المك, وهىعمل مدهش مفعم باللقيات التشكيلية الجديدة على ألاعيب تاج السر أحمد الماهرة فى معالجة أشكال المرئيات اليومية. وهى مثل معظم لوحات تاج السر كانت تمثل المدينة وأهلها من المنظور العلوى (المعكوس) الذى كان تاج يرى منه المدينة من على سطح بيتهم: فى المقدمة الشارع المقابل وحيطان البيوت ومرآب مودعة فيه سيارة "فولكس" ووراء الحائط حوش الرجال وحوش النسوان ثم الجيران وجيران الجيران ثم الشارع التالى ثم الحى التالى وبيوت وبيوت وبيوت متلاحمة فى نسيج محكم مع أعمدة الكهرباء والتلفون والأسلاك ولاقطات التلفزة والأشجار والسيارات والدراجات والناس والدواب.. مدينة بلا نهاية لا تترك للسماء إلا هامشاً ضعيفاً فى شكل شريط أزرق مواز للإطار العلوى.. إنها نفس المدينة التى يحكيها على المك فى أقاصيصه من "القمر جالس فى فناء داره" لـ "الصعود إلى أسفل المدينة" (ياله من عنوان قمين بلوحة تاج السرالجريحة!), إنها " مدينة من تراب" " تموت السلاحف فيها فى ليال تسع ويعمر بعوضها دهوراً". خطر لى يومها أن مفتاح صداقة على المك وتاج السر أحمد هو شغفهما المشترك بهذه المدينة التى رسمها الأتراك بحد السلاح وحصنوها ضد الأرياف والبوادى التى تحاصرها مثلما حصنوها ضد نفسها بلا جدوى فطفحت عن ماعونها التركى والثنائى والوطنوى وأخذت تستشرى وتكبر كورم خبيث تألفه حين تعجز عن علاجه وتتصالح معه بل وتحبه. كانا يتذمران من هذه المدينة المنفلتة ويعشقانها فى آن.
المهم توصلنا إلى معالجة المزق فى لوحة تاج السر أحمد وأقتضانا ذلك بعض الغراء وقطعة من القماش وساعة من الثرثرة حول أسلوب تاج السر فى الرسم ورؤيته الفنية.. كان إعجابنا المشترك برسم تاج السر أحمد واحدة من نقاط إتفاقنا وكنت فى بعض الأحيان أشاكسه فى يسر حين أتناول بالغمز بعض معارفه من "داجنة التشكيليين" الإستلهاميين فكان يسارع ويغير الموضوع ببراعة ودبلوماسية نادرة. كانت علاقة على المك بالرسامين السودانيين شئ إستثنائى وسط أهل الأدب من جيله, فكنت تقابله فى المعارض وتسمعه يعلق على مناظرات الرسامين, بل كان من القلة النادرة من أفندية الخرطوم الذين كانوا يدفعون من حر مالهم لإقتناء لوحة أعجبتهم , وأظن أن اللوحات التى نجح فى تجميعها عبر السنين والعلاقات تشكل كنزاً ثقافياً نادراً لكل من يسعى يوماً للتوثيق لحركة الرسم فى الفترة بين الستينات والثمانينات.
مرة اشترى منى رسماً بالحبر على ورق فى معرض أقمته بمكتبة المجلس البريطانى عام 1981 فقلت له محرجاً : " لو عاوز اللوحة دى شيلها, ما فى زول فى السودان بيشترى رسم!" لكنه أصرّ وقال لى مجاملاً :
" أنا زى "جيرترود شتاين" الكانت بتشترى أعمال التكعيبيين الشبان زى بيكاسو وبراك, أشترى أعمال الفنانين الشبان وبعد عشرين أو تلاتين سنة حتكون عندى أعظم مجموعة من لوحات الفن فى السودان!".
كانت تلك هى المرة الأولى والأخيرة التى بعت فيها رسماً لسودانى, وأنا جد فخور أن ذلك السودانى كان على المك.
حسن موسى
أليس, 20 / 10 / 92
فتحي م عثمان
________________________
على المك .. "الفولكس فى القرّاش"
"ياخى ديل ناس ما بفهمو!" قالها بحرقة فى حر ذلك النهار الغائظ من نهارات أغسطس 1977 وكان المضمر فى العبارة أن " الناس" الذين عناهم " ما بفهموا الفن", كان واقفا تحت ظل شجرة نيم بدار جامعة الخرطوم للنشر, يسند لوحة كبيرة كما يُسند الجريح المصاب, وكان يتسائل عن وسيلة يعالج بها مزقاً صغيراً فى أحد جوانب قماشة اللوحة. حين خرجت من قسم التوزيع (حيث كنت أعمل حينها) وقعت عينى على لوحة تاج السر أحمد "المابتغبانى" "الفولكس واجن فى القراش" والتى كانت بين أعمال تى. اس. أحمد فى فترة السبعينات, كان على المك يتحسر ويتفكّر وحوله "عم محمد" و "مارتينو" وبعض سعاة الدار وموظفيها وقد تحلقوا حول اللوحة يتأملون جرحها ويتساءلون عن الدواء.
كانت لوحة تاج السر قد تمزقت فى ركنها من جراء سوء التخزين فى مصلحة الثقافة التى كانت تعانى من من ضيق المجال وتدهور الحال وقد غادرها محمد عبد الحى بشعره وجنونه فآلت لنفر من الديوانيين العاديين. وأظن أن تاج السر أحمد قد استعاد لوحته من الدمار ووهبها لعلى المك, وهىعمل مدهش مفعم باللقيات التشكيلية الجديدة على ألاعيب تاج السر أحمد الماهرة فى معالجة أشكال المرئيات اليومية. وهى مثل معظم لوحات تاج السر كانت تمثل المدينة وأهلها من المنظور العلوى (المعكوس) الذى كان تاج يرى منه المدينة من على سطح بيتهم: فى المقدمة الشارع المقابل وحيطان البيوت ومرآب مودعة فيه سيارة "فولكس" ووراء الحائط حوش الرجال وحوش النسوان ثم الجيران وجيران الجيران ثم الشارع التالى ثم الحى التالى وبيوت وبيوت وبيوت متلاحمة فى نسيج محكم مع أعمدة الكهرباء والتلفون والأسلاك ولاقطات التلفزة والأشجار والسيارات والدراجات والناس والدواب.. مدينة بلا نهاية لا تترك للسماء إلا هامشاً ضعيفاً فى شكل شريط أزرق مواز للإطار العلوى.. إنها نفس المدينة التى يحكيها على المك فى أقاصيصه من "القمر جالس فى فناء داره" لـ "الصعود إلى أسفل المدينة" (ياله من عنوان قمين بلوحة تاج السرالجريحة!), إنها " مدينة من تراب" " تموت السلاحف فيها فى ليال تسع ويعمر بعوضها دهوراً". خطر لى يومها أن مفتاح صداقة على المك وتاج السر أحمد هو شغفهما المشترك بهذه المدينة التى رسمها الأتراك بحد السلاح وحصنوها ضد الأرياف والبوادى التى تحاصرها مثلما حصنوها ضد نفسها بلا جدوى فطفحت عن ماعونها التركى والثنائى والوطنوى وأخذت تستشرى وتكبر كورم خبيث تألفه حين تعجز عن علاجه وتتصالح معه بل وتحبه. كانا يتذمران من هذه المدينة المنفلتة ويعشقانها فى آن.
المهم توصلنا إلى معالجة المزق فى لوحة تاج السر أحمد وأقتضانا ذلك بعض الغراء وقطعة من القماش وساعة من الثرثرة حول أسلوب تاج السر فى الرسم ورؤيته الفنية.. كان إعجابنا المشترك برسم تاج السر أحمد واحدة من نقاط إتفاقنا وكنت فى بعض الأحيان أشاكسه فى يسر حين أتناول بالغمز بعض معارفه من "داجنة التشكيليين" الإستلهاميين فكان يسارع ويغير الموضوع ببراعة ودبلوماسية نادرة. كانت علاقة على المك بالرسامين السودانيين شئ إستثنائى وسط أهل الأدب من جيله, فكنت تقابله فى المعارض وتسمعه يعلق على مناظرات الرسامين, بل كان من القلة النادرة من أفندية الخرطوم الذين كانوا يدفعون من حر مالهم لإقتناء لوحة أعجبتهم , وأظن أن اللوحات التى نجح فى تجميعها عبر السنين والعلاقات تشكل كنزاً ثقافياً نادراً لكل من يسعى يوماً للتوثيق لحركة الرسم فى الفترة بين الستينات والثمانينات.
مرة اشترى منى رسماً بالحبر على ورق فى معرض أقمته بمكتبة المجلس البريطانى عام 1981 فقلت له محرجاً : " لو عاوز اللوحة دى شيلها, ما فى زول فى السودان بيشترى رسم!" لكنه أصرّ وقال لى مجاملاً :
" أنا زى "جيرترود شتاين" الكانت بتشترى أعمال التكعيبيين الشبان زى بيكاسو وبراك, أشترى أعمال الفنانين الشبان وبعد عشرين أو تلاتين سنة حتكون عندى أعظم مجموعة من لوحات الفن فى السودان!".
كانت تلك هى المرة الأولى والأخيرة التى بعت فيها رسماً لسودانى, وأنا جد فخور أن ذلك السودانى كان على المك.
حسن موسى
أليس, 20 / 10 / 92
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)