الثلاثاء، ١٧ شباط ٢٠٠٩

ماذا نفعل مع المسلمين؟ ماذا نصنع مع حماس؟

ماذا نفعل مع المسلمين؟
ماذا نصنع مع حماس؟

احترت قبل اختيار هذا العنوان لأن الفكرة الأولى في خاطري كانت:
" ماذا نصنع مع حماس؟" .و بما أن تجربة" حماس" وحدها لا تسع التركيب الذي بدا لي في الأشكالية المتكنزة وراء العنوان جازفت بفرصة " ماذا نفعل مع الإسلاميين؟".و هذا الصباح تأملت في عنواني الثاني فلم تطقه التفاكير التي استدعاها النظر في سؤال الإسلاميين الذين يشغلون المشهد السياسي و الإعلامي بأساليب شتى، مشروعة و غير مشر وعة ، فحزمت أمري على صيغة " ماذا نفعل مع المسلمين؟" و أشحت عن اليهود و النصارى و البوذيين و اللينينيين و من لف لفهم من الموحدين (حتى إشعار آخر).
و أنا آخذ صيغة " ما ذا نفعل مع المسلمين؟" بمعانيها العديدة بدءا بـ :
" ماذا نفعل مع المسلمين" طلّعوا ديننا" و خاطوا منه لافتات البروباغاندا السياسية الرخيصة و تركوه نهبا لأهواء الغاشين و الماشين من الصيارفة الإسلامولوجيين ،" يعوسوا" فيه فسادا بعد ان كان مكنونا في حنايا الأفئدة؟"، لغاية: "ماذا نفعل مع المسلمين من عمل عام يجنبنا شرور "حرب الحضارات" الكتابية العالمية التي ورطنا في معمعانها ـ لا إيدنا و لا كراعنا ـ ناس جورج دبليو و حسين دبليو و أسامة دبليو و صدام دبليو إلخ ؟".
ذلك ان المسلمين المعاصرين الذين صارواـ عند مفترق دروب الحداثات ـ يتساءلون عن مصيرهم و عن طبيعة دورهم في عالم رأسمالي متعولم يجدون أنفسهم اليوم في حال عسر وجودي غير مسبوق إذ تحاصرهم أسئلة الحداثة الحرجة في كافة أوجه حركتهم و سكونهم دون أن يجدوا أي براح مفهومي يتيح لهم تدبّر الإجابات المقنعة.
أقول قولي هذا و استغفر الله لي و لكم عن نطقي في لسان هذه الجماعة الغميسةـ جماعة أولاد المسلمين ـ التي لا أنتمي إليها حين تطغى و تبغى ، و لا أطيق تخليا عنها حين تنمسخ و تنمحق تحت غوائل مؤسسات الحداثة الرأسمالية.


نهاية ممالك الحرب الباردة:

وأولاد المسلين اليوم حائرون، و آخر تجليات حيرتهم تمثل في الورطة التي أدركت أهل حماس وامتدت لتشمل الفلسطينيين و قطاع واسع من المسلمين و مجموعات من الديموقراطيين في العالم العربي و الإسلامي وفي غيره.و ورطة أهل حماس يمكن تلخيصها تلخيصا سريعا آثما(لكنه مشروع) بكون القوم استقروا زمنا في خفة المعارضة و ألفوا راحة قولة "لا" إلى أن أصبح صبح هبطت عليهم فيه مسؤولية السلطة بكلكلها ففتنتهم وخبلتهم وشمّـتتْ فيهم نفرا من خصومهم المقربين قبل المستبعدين . هذه الوضعية ليست جديدة فسوابقها ما زالت ماثلة بمستويات متباينة في مجتمعات أسلامية ( و غيرإسلامية)أخرى.
يعلق الباحث الفلسطيني د. وليد عبد الحي، على ملابسات صعود حماس لسدة السلطة بأن حركة حماس تولت مسؤولية الحكومة في ظل شروط صعبة تتلخص في ميراث الفشل السياسي للحكومات الفلسطينية السابقة ، و بنية حكومية معادية للحركة فضلا عن شبكة من الإتفاقات الدولية التي اصبح المجتمع الدولي ينظر إليها كمسلمات يجب القبول بها من أي طرف.كل هذا بالإضافة للصورة غير الإيجابية للحركات الإسلامية بشكل عام في ذهن المجتمع الدولي.
أنظر "قراءات نقدية في تجربة حماس و حكومتها"،( مركز الزيتونة للدراسات:
alzaytouna.net
).
و قد حاول القائمون على سياسة حماس تلافي العزلة السياسية و الحصار الذي يتهددهم بطرح موضوعة "حكومة وحدة وطنية" مع الخصوم السياسيين، لكن الخلافات و الحزازات الحقيقية و المفتعلة بين الإخوة الأعداء كانت أكبر من أن تستوعبها الدعوة لحكومة الوفاق القومي.
و يفسر وليد عبد الحي تعثر حماس بشكل أساسي كـ " نتيجة لخذلان أغلب القوى الفلسطينية، لا سيما حركة فتح، لفكرة حكومة الوحدة الوطنية. و ما الإشتباكات الأولى، قبل إتفاق مكة و بعده، إلا دليل على أن حركة التحرر الفلسطيني وصلت مأزقا عميقا تتجلى ملامحه في فشل نهج التسوية من ناحية،و عدم قدرة نهج المقاومة على تجسيد متائج ملموسة من ناحية أخرى. و أن العجز عن تكييف البيئة الدولية لأي حركة سياسية يرتد إلى تنازع داخلي.و هو ما أدى إلى التوتر الداخلي الذي أعطى القوى الدولية بيئة صالحة لجعل ضغوطها تؤتي أكلها".
(أنظر ورقة وليد عبد الحي المعنونة:حماس و البيئة الدولية في كتاب " قراءات نقدية في تجربة حماس..".).
و ما لم يتوصل الفلسطينيون لنوع من إتفاق " حد أدني وطني" فستظل حركة التحرر الوطني الفلسطيني نهبا لضغوط الضاغطين الدوليين و الإقليميين و سيستمر تناحرهم الإنتحاري بكل ما يترتب على ذلك من عواقب على صعيد بناء الديموقراطية في مجتمعات الشرق الأوسط. و ضمن هذا المنظور نهتم بما يدور في فلسطين لأن قضايا التحرر الوطني و بناء الديموقراطية عند جيراننا في البلدان العربية أو في البلدان الإفريقية تهمنا بقدر ما تهم الفلسطينيين أو السعوديين أو المصريين او التشاديين أو الكنغوليين إلخ. ذلك أن العالم الذي يتخلق تحت شروط العولمة يفرض علينا ـ و نحن نعمل لبناء الديموقراطية و التنمية العادلة في بلادنا ـ أن نفتح أعيننا على مصالح ( و مطالح) الفرقاء السياسيين الإقليميين و الدوليين.و في هذا المقام، مقام جيوبوليتيك التحرر تحت شرط العولمة، فنحن أكثر ملكية من كل الملوك الذين بنوا ممالكهم البائدة بجاه جيوبوليتيك الحرب الباردة.

حكى الباحث الفلسطيني جابر سليمان هذه الحكاية البليغة في معرض مناقشة فلسطينية نظمها " مركز الزيتون للدراسات" حول تجربة حماس بين المعارضة و السلطة:
أعطى آينشتاين تلاميذه مرة امتحانا كان قد أعطاه لهم من قبل. فنبهه أحد معاونيه إلى أن التلاميذ قد تلقوا هذه الأسئلة من قبل. ابتسم أينشتاين و قال: لا ، إن الأجوبة قد تغيرت.
و الأجوبة المتوقعة لأسئلة نزاع الشرق الأوسط تتبدل كل يوم ، لا لأن أهل الشرق الأوسط أشد بأسا من غيرهم و لكن لأن مصالح هؤلاء و أولئك تتقاطع في مسند النزاع الفلسطيني الإسرائيلي الذي هو أكثر نزاعات العولمة تعقيدا.والنزاع الفلسطيني الإسرائيلي يمثل في مشهد العولمة كأحد أكثر تمثلات الحداثة الرأسمالية إلتواءا.فقد كانت " المسألة اليهودية" مشكلة أوروبية في البداية ، لكن أنتشار أوروبا و هيمنة رأس المال الكولونيالي في الشرق الأوسط مسخ المشكلة الأوروبية لمشكلة كولونيالية شرق أوسطية.و اليوم تحت شروط النسخة الأمريكية من العولمة الرأسمالية ينضاف بعد عولماني جديد لهذا النزاع الطبقي الكوني بتعبيراته العرقية و الدينية. و ضمن هذا البعد الجديد تتأسس أحلاف سياسية جديدة بين العالم العربي و العالم الأوروأمريكي بينما تنفرط عقود إجتماعية و سياسية و إقتصادية قديمة داخل المجتمعات العربية الأسلامية. و منذ حرب العراق العالمية الأولى صار العربي و المسلم في حيث بيث لا يميز فيه من يهرّه ممن يبرّه.



لا صوت يعلو فوق صوت المعركة من المحيط إلى الخليج:

على مدى سبعة عقود ظلت الأنظمة الأستبدادية العربية تحاول صرف شعوبها عن ورود حياض الديموقراطية بذريعة أولوية المعركة القومية لتحرير فلسطين(لا صوت يعلو فوق صوت المعركة).لكن سخريات الأقدار شاءت أن يتوصل الشعب الفلسطيني المقطع الأوصال المثخن بالجراح إلى مباشرة الديموقراطية و إنجاز إنتخابات حرة نزيهة و إختيار ممثليه السياسيين ،و هو في عز المعركة،و تحت سمع و بصر العالم اجمع بما فيه الحكام العرب الذين حظروا الديموقراطية في بلدانهم بذريعة أولوية تحرير فلسطين.و في مثل هذا المشهد فمن المنطقي أن تتساءل شعوب البلدان العربية المقموعة عما يحول بينها و بين الديموقراطية؟
لقد كانت الإنتخابات الفلسطينية السلمية في 2006 مفاجأة للكثيرين . ثم أن الفلسطينيين تمادوا في غيّهم الديموقراطي وفاجأوا العالم بإختيار ممثليهم خارج دائرة الممثلين المألوفين من بيروقراطيي حركة "فتح" ،الذين هيمنوا لعقود طويلة داخل المؤسسات السياسية الفلسطينية و تمكنوا في شعاب شبكات العلاقات الإقليمية و الدولية حتى صاروا جزءا من ديكور المشهد السياسي الشرقأوسطي.في هذا السياق يمكن فهم "الإستفزار" الذي تمثله خيارات الفلسطينيين السياسية للدوائر الأوروأمريكية و لحلفائها الإقليميين المذعورين من مخاطر الممارسة الديموقراطية.

حين اكتسح الإسلاميون الدور الأول في إنتخابات الجزائر ،في 1992 ، ضد البيروقراطية العسكرية ، التي كانت تسيطر على حزب حركة التحرير الوطنية الحاكم، لم يقبل الأوروبيون( بقيادة فرنسا) بنتيجة الإنتخابات الجزائرية، و تحالفوا مع النظام العسكري الذي صادر الديموقراطية و ألغى مسار التحول الديموقراطي ضد خيار الشعب الجزائري و جر البلاد لحرب أهلية مبطّنة ما زالت عواقبها تثقل على المجتمع الجزائري.
في تلك الأيام وجّه الرئيس ميتران بمنح الإسلاميين الجزائريين الملاحقين من قبل السلطة العسكرية الجزائرية حق اللجوء السياسي في فرنسا بينما ظلت يده الأخرى تعضد نظام الجنرالات سياسيا و ماديا.و اليوم يعترف معظم المراقبين السياسيين الأوروبيين بفرص الفوز المؤكد لتيارات المعارضة السياسية الإسلامية في المغرب و في تونس و في مصر و في سوريا و الأردن في حالة تنظيم إنتخابات حرة في هذه البادان في السنوات القليلة القادمة، و ذلك لأسباب تتعلق بفساد و تخثر هذه الأنظمة القمعية أكثر مما تتعلق بإقتناع المواطنين في هذه البلاد بجدية البرنامج السياسي و الإقتصادي للإسلاميين.و خطر فوز الأسلاميين بالسلطة عن طريق الإنتخابات صار هو القاعدة التي تتأسس عليها التحالفات السياسية و العسكرية بين الأوروأمريكيين و الأنظمة القمعية في بلدان الشرق الأوسط .لكن وجه التركيب في هذه الوضعية السياسية الجديدة هو ان الأوروأمريكيين و المتحالفين معهم من (متعلمني؟) برجوازية المجتمعات الإسلامية ينسون أن الشعب الذي قعّد الإسلاميين على مقعد السلطة قمين بإجلائهم عنه عند مقتضى الحال.و نسيان الأوروأمريكيين و حلفائهم قدرة الشعوب على تولي أمرها بيدها موقف منطقي من طرف قوم لا مصلحة لهم في أن تتولى الشعوب أمرها بنفسها. .
و يمكن قراءة السيناريو الجزائري في مسرح السياسة الفلسطينية. ففي فلسطين ـ بعد موت عرفات و ضعف حركة فتح و تراجع قيادة منظمة التحرير عن موقع المبادرة السياسية ـ كان من الواضح أن الطريق قد سلكت أمام الإسلاميين، الذين كانوا يعملون خارج المؤسسات السياسية الرسمية، لكي يشغلوا الفراغ السياسي الذي حصل بتقلص النفوذ الرمزي و السياسي لحركة فتح و لمنظمة التحرير.ففي الإنتخابات البلدية التي شاركت فيها حماس عام 2005 تحقق لها نصر غير متوقع من خصومها حين فاز مرشحوها بنسبة 42 في المئة من أصوات الناخبين.و في الإنتخابات التشريعية لعام 2006 اكتسحت حركة حماس الإنتخابات و طالب ممثلوها بتعديل التوازن السياسي داخل منظمة التحرير لصالحها على ضوء نتيجة الإنتخابات لكن حركة فتح، بقيادة محمود عباس، رفضت إعادة تنظيم قيادة منظمة التحرير على الرغم من تكليف الرئيس محمود عباس لإسمعيل هنية ـ رئيس الوزراء ـ بتشكيل الحكومة.
بعد الفرز السياسي الذي حصل عقب إنتخابات 2006 استعر الصراع بين "الإخوة الأعداء" على أكثر من مستوى.و بدأت التحالفات الجديدة تتأسس.حماس ترفع راية المقاومة للإحتلال و التحرر الوطني و تستفيد من الدعم السوري و الإيراني و فتح( الرئيس عباس) ترفع راية التسوية مع إسرائيل ـ على أساس إتفاق أوسلو ـ و تستفيد من الدعم الأوروأمريكي و دعم بعض الأنظمة العربية المحافظة .

صراع الشرعيات الطبقيات في فلسطين و في إسرائيل:

و في هذا المشهد يتبلور النزاع حول موضوعة الشرعية، شرعية التمثيل السياسي للشعب الفلسطيني.و الشرعية موضوعة طرحتها القوى السياسية الدولية و الإقليمية المتحالفة مع الرئيس محمود عباس بغاية تقويته و تعضيده ضد حقائق الواقع السياسي الفلسطيني الذي مسخ حزبه(فتح) لأقلية سياسية حين إختارت الأغلبية الفلسطينية أن تصوت لحماس. و إذا كان الأمريكان يدينون حماس بتهمة الإرهاب فالمسؤولين في الإتحاد الأوروبي يتأففون من التعامل مع حماس بوصفها منظمة إرهابية و يتجاهلون شرعيتها الديموقراطية و يتجاوزونها للتعامل مع فتح محمود عباس و دعمه كممثل " شرعي" للفلسطينيين.و على حذو الأوروبيين يمكن فهم موقف مصر من موضوعة الشرعية كما يبدو في تصريح وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط بخصوص الحصار المفروض على غزة:" إذا فتحنا معبر رفح نكون قد قضينا على السلطة الفلسطينية الشرعية في الضفة".. بل أن أبو الغيط يذهب لحد مصادرة الشرعية السياسية لحماس بتوصيفها كمجرد " مجموعة مسلحة " حين يقول:
" .. فقد أصبح لدينا سلطة شرعية في الضفة الغربية و كذلك مجموعة مسلحة مسيطرة على قطاع غزة، و هي مجموعة كانت قد انتخبت شرعيا لكنها انقلبت على شرعيتها بعد ذلك(كذا) و هذا هو الواقع الذي نراه"
أنظرالرابط
masrawy.com/news/Egypt/Politics/2009/January/1/gheity.aspx

طبعا ، برغم " الواقع " الذي يراه أبو الغيط فإن " شرعية " عباس تظل مهزوزة بسبب قصوره عن السيطرة الحقيقية على الساحة الفلسطينية.و أفضل مؤشر على اهتزاز شرعية عباس يجيئ من طرف الإسرائيليين حكومة و معارضة.فقد كتب عبد السلام الريماوي، مراسل الرياض من رام الله، عن لقاءات أولمرت و عباس:" على رغم اللقاءات الدورية التي تجمع الإثنين ".."يوجد تفاهم في مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية، إيهود أولمرت،بأن إسرائيل تشكك في كل ما يتعلق بشرعية محمود عباس بين الشعب الفلسطيني، وفقا لما صرح به مسؤول كبير في مكتب أولمرت ".."و قالت صحيفة هآرتس في عددها أمس: إن التحدي المركزي في المحادثات مع الفلسطينيين ليس إتفاق المبادئ أو التوقيع على الورقة بل قدرة عباس على السيطرة الحقيقية على الأرض. و ادعى المسؤول الكبير في مكتب أولمرت أنه " طالما أُعتبر الرئيس الفلسطيني يعمل بإسم إسرائيل من أجل مكافحة الإرهاب فإن الشعب الفلسطيني يرى فيه عميلا مع الإحتلال"
أنظرالرابط
Alriyadh.com/2007/08/23article274603.html

و قد أوردت وكالات الأنباء حادثة مذلة في حق عباس مصدرها شيمون بيريز. نقل موقع الأخبار في و كالة شينخو أن " بيريز أعرب عن أسفه لعباس لما ورد في أجهزة الإعلام.".." و كانت صحيفة هآرتس الإسرائيلية قد نسبت في عددها الصادر أمس الأول الجمعة ، إلى بيريز قوله أن عباس " المفتقد إلى الشرعية غير قادر على الوفاء بالإلتزام بأي إتفاق"
(رام الله في 6 يوليو 2008)
انظر الرابط
Arabic.xinhuanet.com

و نزاع الشرعيات بين غزة و الضفة قد يبدو ضبابيا لمن ليست لديهم معرفة بالتخلق التاريخي لطبيعة المؤسسات الدستورية للفلسطينيين.فقد تم تصميم هيكل النظام السياسي الفلسطيني ـ ضمن ملابسات إتفاق أوسلوـ قبل أكثر من عقد على ظهور "حماس" كقوة فاعلة في المشهد السياسي الفلسطيني.و هيكل النظام السياسي الفلسطيني يقوم على مؤسسات مثل منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها مرجعية عليا تمثل كافة الفرقاء، يليها المجلس التشريعي و المؤسسات التنفيذية مثل الحكومة ثم رئيس السلطة الوطنية. لكن النظام السياسي الفلسطيني المصمم كنظام رئاسي يتمتع فيه رئيس السلطة الوطنية بسلطات دستورية كبيرة ، و الذي كان يعمل بكفاءة علي عهد الرئيس عرفات،و لا عجب فهو قد صمم على مقاس عرفات، هذا النظام تكشـّف عن قصوره( بعد رحيل عرفات) بعد إنضمام حماس لفعالياته، بعد عشرة سنوات من تأسيسه.ذلك أن " روح" حماس لكي تسكن جسم المؤسسات السياسية الفلسطينية الموروث من ملابسات أوسلو، فهي تحتاج لتعديل عمارة الأبنية السياسية وفق مشروعها الآيديولوجي ، والمشروع الآيديولوجي لحماس ( الدولة الإسلامية) هو غير برنامجها الإنتخابي الذي فازت على أساسه، و الذي ركز على الإصلاح و محاربة الفساد و تقديم خدمات إجتماعية أفضل اكثر من تركيزه على ضرورة المقاومة المسلحة. و قد كشف التناقض بين حماس و خصومها العلمانيين (وأشباه العلمانيين) عن "قصور" كامن في بنى النظام السياسي الفلسطيني، و هو قصور" تقني" في مظهره الذي يبين عنه التعريف القانوني للمؤسسات الدستورية ، و في ما وراء الصياغة القانونية يبدو قصور الخيال السياسي لمن صاغوا ثوابت الدستور على أساس وضعية سياسية ظرفية رهينة بملابسات محلية و دولية مؤقتة، غابت عنها عوامل التحول السياسي و الثقافي التي ظلت تعمل داخل العقل الجمعي الفلسطيني ـ تحت السطح و فوقه ـ منذ توقيع إتفاق أوسلو و حتى اليوم.
يقول صقر أبوفخر الباحث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية:" النظام السياسي الفلسطيني ليس نظاما سياسيا واضح المعالم، و ليس نظاما برلمانيا على الإطلاق، إنما هو نظام مختلط، و الصلاحيات الدستورية موزعة بين رئيس السلطة و رئيس الحكومة مع أرجحية لرئيس السلطة"(أبوفخر..شقاء الأخوة). و قد كان هذا الوضع مريحا على عهد الرئيس عرفات ، حين كانت الرئاستان منسجمتين و مندمجتين تحت تأثير نفوذ عرفات الرمزي الطاغي.لكن بعد غياب " الأب" المهيمن و انتصار حماس في الإنتخابات التشريعية بدأ الفلسطينون يتساءلون عن أهلية" خليفة" عرفات على التمتع بالإمتيازات الدستورية لرئيس السلطة في حين ان "شرعيته" الشعبية قد اضمحلت بفعل نتيجة الإنتخالبات التشريعية؟".و هو تساؤل مشروع ضمن المشهد الفلسطيني الراهن الذي يحس فيه الفلسطينيون بأن نهج التسوية الذي بدأ في أوسلو لم ينجح في حل أي من مشاكلهم ، سواء اليومية أو المصيرية، و أن العالم بمشاكله الكثيرة لم يعد يوليهم الإهتمام الذي يتوقعونه.
و اليوم حين يتأمل المراقب الخارجي حالة" صراع الشرعيات" التي تتلبس الواقع السياسي الفلسطيني فهو سيجد نفسه أمام حالة فريدة من تزييف الإرادة الشعبية عن طريق البروباغاندا السياسية المكثفة.فالواقع السياسي الفلسطيني يقول أن حزب الرئيس عباس قد خسر الإنتخابات التشريعية و تحول إلى حزب أقلية في مواجهة أغلبية حماس. لكن هذا الرئيس ما يزال يتمتع بـ " شرعية دستورية" بحكم الصلاحيات التي يمنحها له وضعه كرئيس للسلطة الفلسطينية. و بما أن هذه " الشرعية الدستورية" لا تمكنه من الهيمنة على الأرض (كما ينوّه الإسرائيليون) فهو يستفيد من " الشرعية الرمزية" الموروثة من التاريخ النضالي لحركة فتح.لكن الفلسطينيون الذين فوّزوا حماس إحتجاجا على سوء الأداء السياسي و الإداري لحركة فتح تخلصوا من أوهام " الشرعية الرمزية" لفتح منذ وقت طويل.و في مثل هذا المسد الأخلاقي يلجأ "الرئيس" لهذا الشيء العجيب المسمى بـ " الشرعية الدولية" التي يمكن تلخيصها في كون عدد من الدول الأوروأمريكية و بعض دول الشرق الأوسط قد اختارت أن تدعم هذا "الرئيس العلماني" و تعضده ضد إرادة شعبه.
و الأوروأمريكيين الذين عرّفوا استراتيجيتهم على أساس أولوية حماية و صيانة دولة إسرائيل بشكلها الراهن كدولة لليهود، و ليس كدولة ديموقراطية و علمانية كل مواطنيها يتساوون في الحقوق و الواجبات، ينسون،(أو يتناسون؟) أنهم ، و إن حموا إسرائيل عسكريا ضد المقاومة الفلسطينية، فهم عاجزون تماما عن حمايتها سياسيا و أخلاقيا على المدى الطويل.و المستنيرون في إسرائيل يعرفون أن لا مستقبل لمجتمعهم خلف الجدران. و أنهم إن رغبوا في البقاء في سلام فهم سيبقون ضمن منظومة دول الشرق الأوسط و لا مفر لهم من التعامل مع جيرانهم. وربما إحتجنا لفتح هذا الباب، باب "لشرعية الأخلاقية"لدولة إسرائيل، نحن بسبيل فحص الشرعيات بين فتح و حماس.و فتح هذا الباب الذي يجيب الريح و هو مسدود، ضروري لفرز شرعيات هؤلاء و أولئك ضمن مشهد الصراع الطبقي المموه وراء صراع الشرعيات.



قلت أن أولاد المسلمين في حماس و في غيرها( الجزائر) في حيرة كبيرة لأنهم صدّقوا مقولات الحداثة و انخرطوا في دروب مغامرتها بثقة و تفاؤل.فأهل حماس الذين كانوا يتأففون من اللعبة الإنتخابية الغربية قرروا فجأة القبول بقوانينها فدخلوا الإنتخابات البلدية على حين غرة و فازوا، و راق لهم الحال فتمادوا و فازوا مرة ثانية في الإنتخابات التشريعية. و في غمرة الحماس السياسي البريئ تصوروا ان خصومهم المحليين و الدوليين يراعون نفس قانون اللعبة الديموقراطية.لكن خاب ظنهم و تجلّت أمامهم المسافة الكبيرة بين الواقع الجيوبوليتيكي الدولي و الحلم الإسلامي الديموقراطي..
لقد فوجئ الجميع بفوز حماس في الإنتخابات التشريعية.و تحت تأثير المفاجأة استنفر خصوم حماس قواهم و حاولوا تطويق هذا الحدث غير المتوقع بأسلوب أخرق يتلخص في معاقبة الشعب الفلسطيني على خياره السياسي الحر بوسيلة الحصار و تشريط المساعدات.وقد لخصت "اللجنة الرباعية" الدولية (المكونة من الولايات المتحدة و روسيا و الإتحاد الأوروبي و الأمم المتحدة) شروط فك الحصار السياسي و الإقتصادي الواقع على حكومة حماس في :
ـ الإعتراف بإسرائيل.
ـ الإعتراف بنتائج التسوية.
إنهاء المقاومة و نبذ العنف.
و هذه الشروط تمثل معكوس البرنامج الإنتخابي الذي فازت على أساسه حماس كحركة مقاومة مسلحة مضادة للإحتلال الإسرائيلي.
طبعا المشكلة مع حماس هي أن تسيير دولاب الإقتصاد و الإدارة في الدولة الفلسطينية يعتمد بالكلية على المساعدات المادية التي تجود بها دوائر خارجية كالإتحاد الأوروبي و الأمم المتحدة و بعض الأنظمة العربية.و قد تصور أهل حماس انهم حين ورثوا مؤسسات الدولة ديموقراطيا فهم سيرثون معها تلقائيا المساعدات الخارجية التي كانت الحكومة السابقة تتلقاها.و قد كشفوا بذلك عن غشامة سياسية بينة لأن المساعدات التي كانت ترد من الإتحاد الأوروبي ـ الذي ينظر لحماس كمنظمة إرهابية ـ إنما كانت قد صممت ضمن إتفاق التسوية السياسية بين إسرائيل و السلطة الفلسطينية التي لم تكن حماس طرفا فيها.
إن عواقب الورطة السياسية الراهنة التي تواجهها حركة حماس تتجاوز حدود الحركة الإسلامية الفلسطينية لمجمل المعنيين بأسئلة التحرر الوطني تحت شروط النسخة الأمريكية من العولمة ، فماذا نصنع بحماس؟
وسط الفلسطينيين ( و وسط غير الفلسطينيين) من خصوم حماس قناعة قديمة فحواها أن حماس تدين بوجودها لإسرائيل لأن إسرائيل دعمتها في بداية تأسيسها لإضعاف حركة المقاومة بقيادة علمانيي" فتح". و بصرف النظر عن صحة هذا الزعم أو خطله فالشاهد أن حركة حماس تتحرك اليوم ضمن المشهد السياسي الفلسطيني على سند شعبي فلسطيني يزكيها و يمنحها شرعية سياسية ورمزية أقوى من ما هو متوفر لدى خصومها.
و على مسرح العلاقات الدولية فإن صورة حماس تتنوع بنوعية الجهة التي تتعامل معها.
فالأوروبيون و الأمريكان ينظرون لحماس باعتبارها منظمة إرهابية و السلام. عفوا، هل قلت:" و" السلام"؟
سلام شنو يا زول؟
العبارة تستقيم لوقلنا " ينظرون لحماس باعتبارها منظمة إرهابية و الحرب" ذلك أن الأوروأمريكيين وإسرائيل كانوا، و ما زالوا، عاقدين العزم على حرب كل من يحمل لواء المقاومة في فلسطين. و في الحوار الذي أجراه محرر مجلة " الأزمنة الحديثة"، "كلود لانزمان" مع "إيهود باراك" قبل شهور من العدوان الإسرائيلي الأخير في غزة يكشف باراك عن تصميم أيديولوجي مسبق لا يقبل أي مخرج من الأزمة بغير القوة.و من يتمعن في تفاصيل هذا الحوار يفهم أن الحرب على الفلسطينيين لم تكن خيارا دفاعيا فرضته حماس على إسرائيل بسبب قصف المستعمرات، و إنما هي استراتيجية ثابتة و طريقة في الوجود الإسرائيلي الإستعماري ضمن مشهد الشرق الأوسط.و تلزمنا وقفة عند شهادة إيهود باراك حتى نتفهم طبيعة الموقف الإسرائيلي الرسمي من أحداث غزة و من مجمل ما يدور في صراع الشرق الأوسط.
سأعود
: