الثلاثاء، ٢٥ كانون الأول ٢٠٠٧
الموت حق .. و الحياة أيضا
وماذا نفعل مع الموت؟
" تدبير ربي عظيم
ففي مدينتي..
تموت السلاحف في ليال تسع
و البعوض يحيا دهورا"
(علي المك، مدينة من تراب 1974).
و تدبيرنا عجيب
ففي مدينتنا
يموت الرفاق بعد حياة عامرة بكفاح حراس جيفة التراث العربسلامي فنسارع ونكفـّنهم في سرابيل هذه" اللغة الجثة"(الحقوق محفوظة للنشادر)، و نهيل عليهم ـ من التراب الذي كال حمّاد ـ أيات الغفران وشآبيب الرحمة ـ و قد نغسلهم" بماء الثلج" ـ حتى نؤهلهم لصحبة الشهداء و الصديقين في ذلك المكان ، خارج الزمان، الذي يسيل فيه النبيذ و العسل أنهارا و يقوم على خدمتهم الولدان إياهم، و رهن اشارتهم المضيفات الأنيقات العاملات في" الحور العين إير لاينز"..و الأجر على الله..
الموت حق
و الموت حد
و الموت سؤال بلا إجابة يخص الأحياء وحدهم.
وهو سؤال عويص لا يجدي معه علم ولا حلم و لا دين ولا يحزنون..
فما العمل؟
ماذا نفعل مع الموت؟
و ماذا صنعنا بالحياة؟
23.4.2007
الموت مرتين
" مثل ضب أنا أخاف الماء..
و مثل مسعور أنا
أخاف الماء
و حين هطلت الامطار..
ألقوا بجثتي في خور ماء آسن
و عندها أدركت أنني هلكت مرتين.."
علي المك
" مدينة من تراب"
دار جامعة الخرطوم للنشر ،
1974
و في بلادي يموت الرفاق العلمانيون مرة بسبب الشقاء المتاح ثم يعاودون الموت ثانية بسبب الضجر المباح لكل من هب و كتب من النوّاحين الذين لا يضيرهم أن ينتفعوا من موت غيرهم بذريعة نوع أدبي مريب يثرثر و يزدهر على قبور الراحلين. أعني هذا النوع الأدبي الهجين المقيم بين تقليد المناحة العربية و مقام " بيت البكا" السوداني.
قبل أن يجرفنا حديث الموت في شعاب الأسئلة الوجودية الكبيرة ،أذكّر بأن ما حفزني لافتراع هذا الخيط هو ما لاحظته في طبيعة الإستجابات العفوية التي جادت بها أقلام كتاب الأسافير مؤخرا، تجاه هذا الموت الذي يفاجئ رغم أن لا أحد يتوقع شيئا من الحياة
ـ في نهاية المطاف ـ غير الموت .و هي أستجابات قاسمها المشترك "الأظرط" رِدّة ملتوية و محيرة لفولكلور الدين الحنيف في خاطر أولاد و بنات المسلمين، و لا جناح ، فالناس على دين آبائهم، لكن الجناح يحصل حين يتغول فولكلور الدين على علاقات العمل العام يدوّر زواياها و يحيّدها و يُسرْطِنْ محتواها التقدمي بذرائع المجاملة "الإجتماعية"( إقرأ " الإجتماعية" في المعنى المرذول لعبارة " إجتماعيات" و قيل:
Peoplization
أذكر أننا ،في كل مرة رجعنا فيها(مع باتريسيا و العيال) للسودان، كنا ننظم حركتنا، في أيام إقامتنا المعدودات، على أولويات واجب العزاء ضمن خريطة الأقارب و الأصدقاء.و في لحظات اللقاء التي ترتفع فيها الأيادي بـ "الفاتحة" يسود صمت شعائري عجيب ، ظل هو أكثر ماحيّر أطفالنا " الفرنسيس" و سحر ألبابهم الأوروبية، فكأنهما سقطا، لثوان معدودات، في زاوية عمياء غير متوقعة بين العوالم التي كانا يظنان أنهما يفهمان تناقضاتها( الظاهرة على الأقل).أما في اللحظات التي كان البكاء " ينفتح" فيها بدون سابق إنذار فكان يصيبهما حرج عظيم لا يدريان معه أين يذهبان. و لو أن الأرض انشقت و ابتلعتهما في تلك اللحظة لكان ذلك أهون لهما من شهود موقف البكاء الجمعي المفاجئ .و قد حكت باتريسيا أول مرة حرجها الكبير حين عودتنا من فرنسا ( في1981 عقب وفاة شقيقييّ ) و كيف أنها وسط البكاء الذي اندلع فجأة بين جماعة من نساء الأسرة حولي( و أمي و شقيقتيّ) لم تدر كيف تتصرّف؟أوماذا تقول؟.و لم تعرف كيف تشارك في تصاويت هذا الـ" هابيننينغ" الفريد الذي انطلق و تمدد في الزمان و المكان بدون أي تحضير مسبّق..أذكر أني في عز التراجيديا المرتجلة حانت مني نظرة نحوها فبدت لي، في حيرتها ،كأنها معلقة بين السماء و الأرض على طريقة شخوص " شاغال" المرفوعة بقدرة خفيةـ ضد قانون الجاذبية ـ في سماء اللوحة.و قد حيّرها أكثر أن هذا الحدث/ العرض المسرحي انقطع فجأة كما بدأ، و التفتت الثاكلات نحوها يحيينها و يسألن عن صحتها و صحة أهلها و عمّا إن كان سفرنا قد تم بلا مشقة..إلخ.بل و فيهن من مازحنها و تضاحكن معها متمنيات لنا عشرات العيال و كثيرا من المال.
أقول أن ما حفزني على الخوض في هذا الأمر، أمر استجابتنا تجاة الموت، هو نوع ردود الفعل الأدبية التي صارت تطفح على مشهد الأسافير كلما مات لنا شخص نعزه.ذلك أنني ، أمام هذا الأدب الغميس ، وجدتني أحس بغربة تشبه غربة باتريسيا في تلك اللحظات التي باغتها فيها طقس المعزيات الثاكلات.
أذكر حين مات علي المك و حين مات الخاتم عدلان و حين مات حسين شريف و حين مات مجدي النور قرأت باهتمام نوع الأدب الناعي الذي جادت به أقلام الأصدقاء و الأعدقاء و المهتمين ( بل و حتى أقلام الأعداء) ، و بدا لي أن فيما وراء نيّة التأبين (المشروعة)تخطر نية أخرى (مشبوهة)غايتها" تمويت" هؤلاء المناضلين البواسل" في مقابرالمسلمين"، ضمن حظيرة الدين الحنيف.وأحسست في ذلك شيئا من " دفن الليل أب كراعا برة" الذي يموّه وجها لئيما من وجوه " تكفين الميتات" السياسية ضمن مشهد الأيديولوجيا العربسلامية السائدة.و ربما وجد بعض المشتغلين بالسياسة في فرصة العزاء المكتوب المنشور على ملأ الأسافير مناسبة لتعزيز هذه المقولة " الوطنوية" المريبة من كون " إختلاف الرأي( السياسي) لا يفسد للود العربسلامي قضية"، و أننا عند الملمّات نتلاقى على قاعدة الخلق السوداني الأصيل و ثوابت الوحدة الوطنية إلى آخر الترهات السودانوية إيّاها..و إلا فما الذي يجعل الصحاب المثقفين المعجونين بالنقد و المسلحين بالإستنارة يطلبون "الرحمة و المغفرة" ـ أي و الله" الرحمة و المغفرة " ـ من عنده تعالي للمناضلين العلمانيين الراحلين، بل و يتمنون لهم صحبة الشهداء و الصديقين في جنان رضوان .
حين رحل عمر كانديك قرأت في منبر سودان الجميع كلام الصديق عبدالله محمد عبد الله باسم المجلس القيادي لحركة القوى الجديدة الديموقراطية ( حق/جد):
" ..فطبت حيا و طبت ميتا يا حبيبنا و تقبلك الله مع الصديقين و الشهداء ، و حسن أولئك رفيقا".. و في موضع آخر :"تقبل الله دعواتكم و أحسن إليه بقدر ما قدّم لوطنه "
و كتب الفاتح ابراهيم وديدي:" ربي يقويكم و يقدركم على الثبات".." و الرحمة ليك يا كانديك".و كتب محمد اسمعيل عريق " إلى جنات الخلد يا كانديك". و كتب خالد الطيب " و لا حول و لا قوة إلا بالله".و كتب عادل ابراهيم عبد الله" رحم الله عمر كانديك و ألهم الجميع الصبر و العزاء". و كتب محمد حسبو" توخـّاه الموت ".." و هو في طريقه لتأدية واجب العزاء لأسرة صديقه و زميل دراسته الطيب الحلاويين الذي فارقنا بدوره صباح ذات اليوم، عليهما الرحمة".." أبعث مواساتي لأسرته و أصدقائه و محبيه".." خفف الله عليهم الآلام". و كتب محسن خالد " له الرحمة و المغفرة و في الخالدين"..
أها يا صفوة،أسمعوا النـّكلمكم ضحى:
هسع الشاب دا غلط وين عشان تجوا تطلبوا ليهو الرحمة و المغفرة؟
و بعدين إنتوا الفوّضكم منو عشان تجوا تتشفّعوا للمناضل الراحل و تطلبوا ليهو الرحمة و المغفرة و تحجزوا ليهو في الجنة؟و أنا بسألكم سؤالي دا عشان حكاية " جنات الخلد " الانتو مُبرمجنـّها للمناضلين العلمانيين البموتوا ديل ما واقعة لي ، بالذات لمّن أقراها مع الأدب الإنتو فارشينو في خصوص العلمانية. طيب "القشرانية" دي خليتوها لمنو وكت كلكم بقيتوا عشمانين في الجنة؟و بياتو وش جايين تنتقدوا اسلامجية الجبهة الكانوا برسلوا شباب السودان يستشهدوا في كاجوكاجي باسم الإسلام عشان يدخلوا الجنة مع الشهداء و الصديقين؟أنا أفتكر أي زول فيكم قافل على الجنة(أو على النار) ما عندو وش يجي يدافع بيهو عن العلمانية في السودان أو في غير السودان، عشان الدفاع عن العلمانية دا بجر معاه دفاع عن حصانة العلم و عن حرية البحث و التفكير و عن حرية الإعتقاد و الإرتداد و عن حرية التعبير، عند المسلمين و عند غيرهم في هذا السودان المتعدد الأعراق و الإعتقادات و اللغات.
يا أمّة محمد،إذا دا حالكم مع الموت ، أنا أفتكر أحسن تمشوا تصلوا صلاتكم و تصوموا صيامكم و تحجوا و تستعدوا لحسن الخاتمة و تخلوا فولة العلمانية دي لمّن يظهروا ليها كيالين قدرها ، عشان العودة الإنتهازية لفولكلور الدين دي ما بتخارجكم.ولا شنو؟
قبل أسابيع قريت كلام لبعض أهل الرأي اليساري في السودان يتحسرون على ان الشيوعيين السودانيين لم يعتنوا بسؤال الدين في السودان. و هذا صحيح،لكن المشكلة هي أنه بينما كان الشيوعيون السودانيون يجهدون في تجنّب سؤال الدين، ظل نفر، من خارج دائرة الشيوعيين السودانيين ،يعتنى بأسئلة الدين و يطوّر فيها من التفاكير و المفاهيم مما ترك آثارا لا تنمحي على مسار المناقشة الفكرية و السياسية في السودان..و كانت خلاصة هذه العناية تتمثل في مشاريع إصلاح ديني متنوعة و بل متناقضة بين مساهمة محمود محمد طه و مساهمة الترابي و مساهمة الصادق المهدي و غيرهم. و حقيقة فالسؤال يطرح نفسه :لماذا يتجاهل الشيوعيون السودانيون أسئلة الدين ؟ و لماذا لم تتجاوز عنايتهم بأسئلة الدين حد فولكلور المجاملات من حداد و زواج و ميلاد؟و ما هي المنفعة(أو المضرة) السياسية التي تعود على اليسار السوداني من تجاهل المناقشة الجارية في فضاء الدين؟
أظن أننا بحاجة للتأنـّي بعض الشيء عند هذه الأسئلة و إعادة النظر في الموضوعات الكثيرة المؤجلة لـ " حكم الوقت" كما جرت العبارة .
سيف الدين
يا " ناطورة الكروم" الذي بروما
سؤال الموت هو، بطريقة ما، سؤال حياة و لا مانع عندي من تعديل عبارتي لتصير " ماذا نصنع بالحياة " بدلا من " ماذا صنعنا بالحياة"، و شكرا على " بارقة الأمل" و نحن على حالنا"العايرة" لا نستنكف عن أي "بارقة أمل" مهما صغرت.و في نهاية تحليل ما، أرانا متصالحين مع الموت تماما بدليل أننا نخوض في سيرته بحرية رغم أننا لا ندري في أي لحظة يمكن أن ينقضّ علينا فيهدم لذاتنا و يهزم مسراتنا..
غادة شوقي
شكرا على رفع الألقاب.
هل تجوز صناعة للموت في غير شق الغيب؟
هل تجوز الميتافيزيقيا بغير وعي الموت؟
أهلنا الغبش ، في لحظات الأنس يضحكون و يختتموا فرحهم بعبارة " استغفر الله" فكأنهم يطلبون المغفرة عن " إثم الحياة ". و " إثم الحياة" هو حجر الأساس في البناء الميتافيزيقي للتقليد النصراني " المُرَسْمَل" الذي أفسد على المسلمين أمور دينهم و دنياهم، و لي عودة لعلاقة النصرانية المُرَسْمَلَة بتنصير عقيدة أولاد و بنات المسلمين المعاصرين. و يا الهاشمي (الفاضل) زولكم الكندي دا مغيّر دينو في كم؟ما ياهو الإسلام الحديث بتاعنا دا ، ناس سيد قطب نصرنوه من زمان، بجاه رأس المال، من وراء ظهر المسلمين، و ياهم الليلة الصيارفة المتأسلمين في السودان قاعدين يضربوا بيد من "حدود " على كل من تسوّل له نفسه الخروج على شريعة السوق.
إسلام السوق المتعولم دا داير ليهو جكّة تانية، و اليد الواحدة ما "ابتـِصَفـّق "..
منى أبوزيد
"فقلت له: بموتوا ولاّ بموتوا؟
قال:بموتوا و بموتوا"
لصق هذا الحوار السوريالي بذاكرتي طيلة النهار و آناء من الليل كما تلك المقاطع الغنائية التي تحتل تلافيف الذاكرة و تهجس الخاطر و أنا أحاول أن أتخيل له خاتمة تخلصني من الدائرة الجهنمية:
"بموتوا و لاّ بموتوا؟
بموتوا و بموتوا"
بموتوا و لاّ بموتوا
بموتوا و بموتوا
بموتوا ولاّ ..إلخ
شايف محمد حسبو أحال " حكاية الناير" (التي حكاها عبدالماجد) لمحسن خالد" لعمل اللازم" و يبدو لي أن هذا الـ " لازم " عند محمد حسبو هو أن يشتغل محسن خالد على هذه الحكاية لـ "تأديبها" في معنى أسلبتها و مسخها " أدبا" وفق لائحة الشكل الأدبي السائد بين المتأدبين و المتأدبات .و قد غاب على محمد حسبو أن ما أطربه في" حكاية الناير" هو قيمتها الأدبية العالية التي تموّه من مكيدة الكاتب" الماجد" وراء إضطراب الشكل الذي يزعم التواضع عن بلوغ مقام الأدب بذريعة" المدوّنة الشخصية" التي تتقصّد التوثيق و إنقاذ التاريخ الشفاهي(تقرأ التاريخ الصغير الشخصي) من الضياع.
(الرابط)مقتطفات من مدونة المذكرات الخاصة والإرث الشفاهي
.يا محمد حسبو " حكاية الناير" دي أدب عديل و ما محتاجة لـ "تأديب"(
Littéralisation
.و معنى الأدب إنما يقيم في تلك الأرض المتحركة بين فرادة الكتابة و فرادة القراءة. و أنت يا محمد حسبو ، بفرادة قراءتك قابلت فرادة كتابة عبد الماجد في " حكاية الناير" و حصل الأدب، و بدلا من أن تحمد الله على هذه النعمة الكبيرة، نعمة الأدب التي لا تحصل لماما، قمت علي طلاشتك المعهودة و قلت " تستأجر"( الحقوق محفوظة لحليمة عبد الرحمن) في محسن خالد و تديهو مادة خام يشتغل عليها. إنت يا محمد حسبو محسن دا قايلو ما بعرف يقرأ؟
أها خد عندك يا محسن و لنا أجر المناولة:
بموتوا ولاّ بموتوا؟
بموتوا و بموتوا..
وليد و مازن
شكرا على العبارة الدرويشية" الموت الذي لا موت فيه و لا درج"
و لا مناص لنا من قتل الموت " بحثا"...(عن الحياة). و دي عاوزة ليها رجعة تانية بالذات بعد كلامك التحت يا وليد عن جماليات أدب الموت في السودان الحديث.
تماضر جبرين و الفاضل الهاشمي،
شكرا على " الموت المقارن" ( على وزن الأدب المقارن) و سأعود..
الهاشمي(الصحابي الجليل)..
مراحب
يا زول أشكل شكلك،" الموت حق" منو؟..
أما حكاية الموت الذي " لاقى عجوز" فهي بعض من علم جمال الموت عند الأهالي الغبش، كون العجوز يموت بعد إنجاز مسار الأسبار التي تضبط إيقاع الحياة ، بين سِبِر الولادة لسبر البلوغ(الختان) لسبر الزواج لسبر المرض لسبر الحج لسبر الموت نفسه.و لعل أشد الحزن إنما يكون على الميت اليافع الذي لم يمهله الأجل فرصة استكمال مسار الأسبار فيموت " لا حنة لا ضريرة لا سيرة لا عديلة"..و عبارتك " يوم شكرك الله لا جابو" رهيبة لأنها ملغومة بتذكرة " النهاية" حيث يحصل الشكر..
الجريفاوي
ياخي ورينا مصدر عبارة مولانا إدوارد سعيد ينوبك ثواب.
اسمعيل طه
الموت شيئ رائع إن كان لدينا خيال واسع
و زي ما شايف المشكلة في الخيال قبل أن تكون في الموت (أو في الحياة).
و موت الخيال اشد وطأة من الموت.
النور حمد
الحياة قاتلة
لكننا لن نموت قبل أن نموت و لا حيلة. و أدونيس ـ ترجمان السلطان" دوفيلبان"ـ لو عاوز يرجع لرحم الكون بطريقتو..
سأعود " كان الله حيّانا"..