الثلاثاء، ٢٥ كانون الأول ٢٠٠٧

رحل .. صديقنا جوزيف توبيانا

رحل

حزنت هذا الصباح لرحيل صديقنا و أستاذنا العالم الإنثروبولوجي و الألسني الجليل" جوزيف توبيانا"، أثر نوبة قلبية لم تمهله طويلا.و ندمت لأني إنشغلت بأمور الدنيا عن مهاتفته الأسبوع الماضي لتشقيق الكلام في واحدة من الونسات الطويلة التي نخوض فيها في كل شيئ: نعيد تنظيم السودان و أفريقيا و العالم العربي و أوروبا و أمريكا ولا يضيرنا أن ننزلق من موضوع لآخر بأسلوب " دو كوك آلان"(و ترجمتها الحرفية: من الديك للحمار) كما يعبر أهلنا الفرنسيس.
كنت أنوي شكره على تقريظه لكتابيّ المصوّرين الأخيرين (" ست إفتكار" و " جنازة الفيل"). كما كانت في خاطري أسئلة في خصوص الترجمة المشتركة( مع جنفييف دافو) للفرنسية التي أنجزاها لكتاب الأستاذة الهولندية" ليدوين كابتيينس":" العقيدة المهدية و التقليد السوداني في دارفور، تاريخ سلطنة المساليت 1870- 1930"( نشر لهارماتان 2006)(1). و كان الكتاب قد نشر بالإنجليزية في 1985 بواسطة مركز الدراسات الأفريقية في لايدن. و الأستاذة ليدوين كابتيينس مؤرخة ومستعربة و أفريقانيةعملت بالبحث الميداني في السودان بدار المساليت و درّست في جامعة الخرطوم و تعمل حاليا بتدريس التاريخ الأفريقي في وليزلي كوليج بالولايات المتحدة.و كتابها محاولة جادة للتأريخ لسلطنة المساليت تتكامل ضمنها الروايات الشفهية مع الوثائق المكتوبة.كنت أريد أن أشكر جوزيف توبيانا كونه برّني بهذا الكتاب الكبير بالذات في هذه الفترة التي تجعلنا فيها الأحداث الدامية في السودان نكتشف قلة حيلتنا المعرفية و هشاشة معلوماتنا عن أهلنا الغبش الذين ننخرط في الدفاع عنهم ضد جور الأستبداد و آيات القهر و الإستعلاء و نحن لا ندري من أمرتاريخهم و ثقافاتهم سوى النذر اليسير.
و في نفس الوقت كانت عندي بضعة تفاكير و تساؤلات في خصوص تجربته كأثنولوجي أفريقاني من جيل البحاث الفرنسيين الذين سعوا لتصحيح العقيدة الأخلاقية للإثنولوجيا و إنتزاع المبحث الإثنولوجي من أيدي سدنة الإستعمار في فضاء المبحث الأفريقاني. و هي تفاكير عنـّت لي من قراءة مقابلة طويلة أجرتها معه الباحثة الإثنولوجية " باربارا كاسياري" أستاذة الإنثروبولوجي بجامعة باريس 8.(2) و أظنني كنت أرجئ ونستي لعطلة نهاية العام و في زاوية الخاطر أمل بسفرة قصيرة لباريس لزوم النزهة الثقافية و لقاء الأصدقاء.لكن الموت " حق" مثلما هو" باطل" في آن.فقد رحل جوزيف توبيانا و تركني مع أسئلتي و تفاكيري و معكم و جلكم لم يقرأ له أو يسمع به.
و تقديم" جوزيف توبيانا"،( الجزائر 1919 – باريس 2006)، لمن لم يلتق به أمر عسير، كونه من طينة الرجال متعددي الغوايات بين الفن و اللغات و الإثنولوجيا والسياسة. فهو أحد قلائل من العارفين باللغات الأثيوبية معرفة متخصصه أهلته لتدريس اللغة الأمهرية في أم المؤسسات الأكاديمية الفرنسية المنفتحة منذ أكثر من قرن على دراسات العالم غير الأوروبي :" المعهد الوطني للغات و الثقافات الشرقية"(إنالكو).
لكن الكلام عن جوزيف توبيانا لا يكون بغير " ماري جوزي توبيانا " زوجته و زميلته في المبحث الأفريقاني منذ مطلع الخمسينات.فبعد إستكمال عمله الميداني في إثيوبيا في 1950. إنطلق مع ماري جوزي توبيانا في مبحث مهم و مركزي في حياتهما الأكاديمية حول الزغاوة بين تشاد و السودان.
و حكاية توبيانا مع السودان طريفة و عامرة بالدروس و العبر.ففي نهاية الثمانينات كنت أبحث عن أكاديميين على معرفة بالسودان لإستكمال هيئة المحكمين التي كان علي أن أدافع أمامهاعن أطروحتي في صدد التحول في المراجع الثقافية من خلال حالة تاريخ الفن المعاصر في السودان.و كنت قد نجحت في جمع بعض المختصين بالتاريخ و سوسيولوجيا الفن ، لكن مديرة بحثي ، نصحتني بأن أبحث عن أكاديمي يعرف السودان.و في ذلك الوقت كانت تلك مهمة صعبة لأن المختصين بالسودان القلائل تقاعدوا أو عتذروا بأن موضوع تاريخ الفن المعاصر في السودان بعيد تماما عن دائرة إهتمامهم.و هدتني الظروف للقاء جوزيف توبيانا و اكتشفت أنه يعرف السودان و أخذ يسألني عن مآل أصدقاءه في الخرطوم (الأساتذة محمد عمر بشير و يوسف فضل حسن و آخرين).أذكر انني سألته عما دفع به للسودان فقال: كنا نعمل على بحث عن الزغاوة في تشاد مع ماري جوزي. و لسبب من الأسباب غضب علينا الرئيس " تمبل باي" ديكتاتور تشاد الأول فطردنا من تشاد. لكننا عزمنا على إستئناف بحثنا من السودان لأن الزغاوة يقيمون بين البلدين و لا يعرفون الحدود السياسية بين تشاد و السودان.و من ذلك التاريخ بدأت علاقتنا مع السودان و مع السودانيين الذين رحبوا بنا و أحسنوا وفادتنا و أثاروا إهتمامنا بالسودان فيما وراء موضوع الزغاوة.(3)،و صار السودان بالنسبة لي بمثابة الواحة التي أستريح عندها في رواحي البحثي بين تشاد و إثيوبيا.
من ذلك التاريخ توطدت علاقتي بجوزيف و ماري جوزي توبيانا عبر سلسلة من اللقاءات و المساهمات المتبادلة.ذات مساء هاتفني ليقول لي برنة أسى صادق أن عبدالله الطيب قد توفي دون أن يعرف عنه البحاث الأفريقانيون في فرنسا أي شيء، و أنه من الضروري إستغلال المناسبة وعمل شيء لتعريف البحاث الفرنسيين بعبد الله الطيب كمثقف أفريقي ذي مساهمة جليلة في فضاء الثقافة الأفريقية المعاصرة.فكتبت له نصا تعريفيا بعبدالله الطيب نشره في نشرة" الجمعية الفرنسية للتنمية و البحث العلمي لشرق أفريقيا"(4)..
و أهمية جوزيف توبيانا في مشهد الأنثروبولوجيا الفرنسية هو أنه "من جيل البحاث الأفريقانيين الذين عبروا اللحظات التاريخية الحرجة التي تقاطعت فيها أقدار التجربة الإستعمارية و الحرب العالمية الثانية و حروب التحرر من الإستعمارو التحولات الإجتماعية في العالم الثالث في فترة ما بعد الحرب الثانية.و هي تجربة تكسب عملهم ثقلا تاريخيا يفتقر إليه جيل البحاث الأصغر سنا الذين أنجزوا مساراتهم البحثية ضمن إطار من الإستقرار العام.و قد إنطبعت تجربة جوزيف توبيانا منذ البداية بتجربة الحياة في الجزائر حيث تسنى له، من سني يفاعته الأولى، أن يعايش بشكل لصيق المعاناة من التفرقة التي عرفها الجزائريون سنوات الهيمنة الإستعمارية مثلما عايش في سني شبابه في فرنسا سنوات القهر أيام الإحتلال النازي لفرنسا في عهد فيشي.و قد حمل توبيانا هذه التجارب في متاعه الفكري و هو يعمل مع ذلك النفر من المثقفين الفرنسيين الذين انخرطوا بنشاط في الجدال حول ضرورة مساهمة الغرب بشكل جاد في تنمية الدول حديثة الإستقلال.كما حمل تجربته السياسية في متاعه كباحث أنثروبولوجي."(ب. كاسياري).
الحديث عن جوزيف توبيانا طويل.و قد أترجم للقراء و المهتمين بعض المقاطع من الحوار الذي أجرته معه ب. كاسياري لما يحتوي عليه من تفاكير شيقة في مسائل التعليم و التنمية و الإثنولوجيا في أفريقيا.و قد قصدت من هذه الكليمة أن أحمل للصحاب و القراء خبر رحيل صديق و باحث مهم في مشهد العلاقة الفرنسية السودانية.
كان من المقدّر أن يلتقي عدد من أصدقاء جوزيف توبيانا و زملاءه و تلاميذه في قاعة " الصالون " بالمعهد الوطني للغات و الحضارات الشرقية" بباريس ، الساعة الخامسة و النصف بعد ظهر يوم الثلاثاء 19 ديسمبر و ذلك لتقديم كتاب الأستاذة لدوين كابتيينس عن تاريخ المساليت. و شاءت الأقدار أن يتحول هذا اللقاء من مجرد مناسبة أكاديمية إلى منعى لهذا الشيخ الباحث الذي لم يفارق هم البحث حتى في لحظة الرحيل النهائي.كان البحث دينه الأول و الأخير، هذا العلماني الباسل الذي سيتبسّم في حكمة حين يتأنى عند جثمانه أصدقاءه المسلمون (من تشاد) و المسيحيون و اليهود( الفلاشة) ( من أثيوبيا) ليطلبوا له الرحمة كل من إلهه.و كل بلسانه.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
Lidwien Kapteijns, Mahdisme et Tradition au Dar For
Histoire de Massalit 1870- 1930,Ed. L’ Harmattan, Paris 2006
The Long Walk,VI
Lors du travail de terrain il faut être comme un poisson dans l’ eau »,Entretien avec Joseph Tubiana, Extrait de Nomadic People , N.S. 2004 , Vol 8(2)

Les Orientalistes sont des aventuriers, textes réunis par A. Rouaud, sépia- aresae, 1999
(3) و لماري جوزي و جوزيف توبيانا مساهمة كبيرة في أدبيات تاريخ و أنثروبولوجيا الزغاوة بدأت بكتابهما المشترك:
The Zaghawa from an Ecological Perspective,AA. Balkema/Roterdam/ 1977
و لماري جوزي توبيانا أعمال مهمة منها
Contes Zaghawa, 1961

Survivances Préislamiques en Pays Zaghawa, Institut d’ Ethnologie, Musée de l’ Homme, 1964.

Des Troupeaux et des Femmes, Mariage et transfers de biens chez les Beri ( Zaghawa et Bideyat) du Tchad et du Soudan)
Editions L’Harmattan, 1985

Un Patriote Tundjur :
Le Faki Adam Ab- Tisheka, CNRS, Laboratoire Peiresc, 1981
(4)
Nouvelles de l’ARESAE ; N° 146, Janvier 2004
Abdallah At-Tayyeb, 1921-2003,
Un intellectuel Soudanais, Par Hassan Musa