"Art is work"
عبارة مولانا" ميلتون قليزر"
Milton Glaser
التي تعرّف الفن بـ " العمل"، في معني الممارسة العملية مدخل مناسب لمقاربة " عمل" الصديق الفنان محمد عمر بشارة.فبشارة ينتمي لجنس الفنانين " الفـَعـَلـَة" الذين لا يستقيم أمر الفن عندهم إلا في سياق العمل. و هو قمين بالإنكباب على منمنمة صغيرة لساعات طوال فيرسم و ينقش و يلون و يحفر و يطرس و يطوي و يفرد و يخدش و يثقب و يمزق و يلصق و ينزع إلخ.. و كل هذا " العمل" يكسب تصاويره تلك الطبيعة الغريبة التي جعلت الناقد " توم فريشوتر" يخلص إلى أن
« His work is about process as much as product »
ولكني ، كلما تأملت في أعمال بشارة ـ على تواتر الأزمنة و الأمكنة ـ كلما ازددت قناعة بسعيه الواعي لترجيح كفة التخليق المادي للعمل ( البروسيس) على كفة الأثر الناتج ( البرودكت). هذا الحدب الذي يصعّد" الصناعة"، و لو شئت قلت: " التقنية"، لما فوق مقام الحاصل النهائي، " الأثر" ، و لو شئت قلت" التحفة"، هو القاسم المشترك الأعظم بين كل أعمال بشارة ، و تستوي في ذلك تلك الرسومات الصغيرة المنفذة بثفل القهوة و قلم الحبر الجاف على ورق رخيص ، أيام كان بشارة يعمل في "مصلحة الثقافة" في مطلع السبعينات، أو تلك المحكوكات و المحروقات التي أذكر ان مجلة " آفريكان آرت" الأمريكية نشرتها له في السبعينات.(رسومات على" سكريبر بورد" يمتزج فيها الحك بالحريق و شيئ من الحبر )، لمحفورات الزنك و النحاس وبعض أعماله الزيتية لغاية أعماله المتأخرة التي يمزج فيها بين الحفر و الكولاج و الرسم.
و قد لاحظ الناقد "ديفيد ليلينغتون" أن:
« Bushara uses such odd techniques that it is often impossible to see how a piece has been made .. »
و ملاحظة ليلينغتون تكشف بطريقة غير مباشرة عن مشروع بشارة الجمالي كبحث مركب في إحتمالات الخامة و الأداة. بحث يتم فيما وراء عادات التعبير التمثيلي ليستكشف ذلك المقام الفالت من طائلة البلاغة الكلامية: مقام الخامات التي تطرح خصائصها المادية الملموسة كمداخل جمالية لإدراك العالم في غير الابعاد الموسومة نهائيا بميسم التقليد الأدبي .
و عمل بشارة في هذا المشهد إنما ينطرح كدعوة لدخول أرض الممارسة التشكيلية المبرأة من شبهات الدين،( و ما الدين إلا وجه من وجوه الأدب) و هذا مدخل صعب لا يطيقه مشاهد يلبّك بصيرته بعادات المشاهدة الأدبية.
و في هذا الأفق، أفق العلاقة مع الأثر التشكيلي في بعده المادي كخطاب يتوسل بوسائل الخامات و الأدوات يحق لبشارة ان يقول:
"
« I work from nowhere, without an idea « .. ».I attack the surface and then the white is no longer neutral.There is a dialogue between the surface and myself. Ideas begin to build up. The more I work, the more things develop until I gain control.The images are elusive.They are both free and entrapped at the same time »
الكلام عن عمل من عيار عمل بشارة بوسيلة الكلمات أمر بالغ الصعوبة، ربما لأن معظم الكلمات المتاحة بين يدي المتأملين في التصاوير المعاصرة إنما سكّتها أقلام كتاب خرجوا من مقام علاقة دينية "بائدة" مع الأثر التشكيلي.و ربما كنا بحاجة لإختراع مفردات جديدة و تخليق خطاب نقدي من جنس الطبيعة الجمالية التي يستهدفها أثر بشارة.و هذه فولة تفيض عن سعة مكيالنا الراهن المستعجل، فكل غاية هذه الكليمة هي الإعلان عن معرض جديد في" متحف أوكسفورد" يشارك فيه محمد عمر بشارة مع فنانين آخرين هما:
Madi Asharya-Baskerville &
Helen Ganly
أنظر ملصق المعرض.
سأعود.
2
بشارة" الورّاق"..
عبد الماجد
يا أخانا الذي في الأسافير
سلام جاك و شكرا على قراءتيك الرشيدتين.و با حبذا قراءة ثالثة تفتح ابواب الريح على مصاريعها فننتفع جميعا و نستريح و هيهات. أقول : " و هيهات "لأن الحديث في هذا الشأن، شأن التداخل و التناقض بين لغة الخامة و خامة اللغة ، يظل ملغوما بشجون شتى: تقنية و جمالية و سياسية.و بين " جمالية" و " سياسية" يجوز لك ان تحشر " دينية" ( و الراحة مافيش على كل حال).
المهم يا زول ،أعدت قراءة تفاكيرك مرات و مرات، و حفزتني القراءة على العودة لهذا الأمر( قبل أن اتمكن من الحصول على مستنسخات إضافية من أعمال بشارة يمكن لها ان تساعدنا في تقعيد المفاهيم على متن الأثر المبذول للنظر).و غاية كليمتي هذي لا تتعدى استيضاح بعض النقاط فيما انبهم عندي من مسارب مداخلتك و توضيح ما قد يكون قد غمض على القراء في تعليقي القصير المستعجل.و هذا باب في " قد عين الشيطان ".
تقول:
"..و لكني أرى ان بشارة ، في كثير من أعماله، يكون في ذهنه صورة معينة يريد ان يرغم الخامة على توصيلها.و لا ندري قدر ما يتحقق له في المحصلة لأن ذلك في ذهنه هو وحده .."
و في هذه العبارة غموض لأن ما " في ذهنه هو وحده" هو المشروع/ الحلم ، و ذلك بكل ما ينطوي عليه "المشروع" من أطراف ذاتية و موضوعية ، أما" ما يتحقق له في المحصلة " فهو بالضبط ذلك الطرف الظاهر الذي يبذله الفنان للعيان في ماعون المسند المادي.
و في بقية عبارتك استرعى اهتمامي قولك:
" إلا أنه بمجرد اتخاذ القرار بعرض ذلك العمل " .." لا بد و أن يكون قد حقق شيئا من القبول".."و هذا لا يمكننا من التأكد من أنه كسّر حواجز الخامة بالكامل".و " استنزفها تماما".
و فكرة تكسير حواجز الخامة بالكامل و استنزافها تماما ، مما طالبت به الفنان المنخرط في عراك الخامة ، تتعارض مع الفكرة المضمنة في استدراكك ، المقيم بين الأقواس، الذي تقول فيه بأن
( " إستنزاف ما بداخل الخامة عندي( أي خامة ) هو ضرب من جنس" رابع المستحيلات" ) ..
و الخامة عند بشارة ـ و عندي ـ ( لو جاز لي أن أقحم نفسي في ثلة التشكيليين الـ " خاماتيين") ليست مجرد وسيلة لتوصيل الصورة الأدبية المتخلقة بين نزوات الخاطر و إنما هي أيضا صورة ذات سيادة قائمة بجاه منطقها الخاص الموازي أو/ و المتقاطع مع منطق الصورة الأدبية في اكثر من مستوى.و الخامة كصورة هي موضوع بحث مركزي عند كثير من التشكيليين المحدثين و القدامى سواء وعوا ذلك ام لم يعوه، و بشارة واع بمبحث الخامة/ الصورة كهاجس كفاح جمالي استنزافي مفتوح على الإطلاق.
طبعا هذا الكلام لا يعني ان بشارة يستغنى بصفاء مبحث الخامة عن مباحث التشكيل الأدبي التي تقرأ في مشهد " الدين"، فالدين ورانا و الدين أمامنا و لات مناص، يعني " سيك سيك معلق فيك".لكن أهلنا المسلمين قالوا: " الشريعة عليها بالظاهر"( و اللي في القلب في القلب)، و هي قولة جبارة تنطوي على باب بحاله في جمالية الحداثة التشكيلية كأمر ظاهراتي (فينومينولوجي).و الظاهر الذي تعنى به الشريعة عند المسلمين هو ، في تحليل ما، درع مفهومي يحمي المسلمين البراغماتيين من وطأة الشطح الأدبي الذي يبيح لكل شيخ الحق في إفتراع طريقه الديني الخاص،" طريقته"، و لو شئت قل: " رسالته".و حتى لا نتباعد عن الإشكالية الجمالية التي يطرحها عمل بشارة، فمن الأسلم مقاربته برؤية " ظاهراتية وجودية" ابتداءا من ما هو ماثل لبصر البصيرة حتى تتسنـّى لنا عقلنته كإسهام نافع في مقام إقتصاد الرموز المتداولة بين الرسام و الجمهور.و من " ظاهر الشريعة " تبدو تصاوير بشارة كخطاب في تدابير الورق و الحبر.و أنا أقدم الورق على الحبر لأن بعض أعمال بشارة تعتمد على الورق أكثر من اعتمادها على الحبر ، مادة الرسم.ذلك أن بشارة يمثل هنا ـ في سلسلة أعماله الورقية ـ كتشكيلي ورّاق يملك ان يستغني بالورق عن ريشة الرسام التي تنزف حبرها من أجل رسم الحدود بين عناصر التكوين القرافيكي. فهو يقوم بتمزيق الورق، ورق المطبوعات المختلفة المتنوعة التي يلتقطها من هنا و هناك.لكن طريقة بشارة في تمزيق الورق لا تتم كيفما اتفق،و هو في تحليل ما لا يمزق و إنما يخط بوسيلة التمزيق لأن بشارة ينفذ فعل االتمزيق بحيث تكشف الورقة عند موضع المزق عن خط لونه من لون لٌحمتها الكامن تحت قشرة اللون المطبوع. هذا الخط الناتج من عملية المزق هو في الغالب ابيض اللون لكن بشارة يحتال عليه أحيانا و يلوّنه بالأحبار الملونة حسب مقتضى الحال.و مزق الورق كوجه من وجوه تخليق الخط ليس وقفا على بشارة وحده، فهي تقنية قديمة خبرها نفر من التشكيليين المحدثين أذكر منهم الإسباني الكاتلوني "أنطونيو تابييس" كرم الله وجهه.
(أنظر أعمال تابييس في
http://www.michelfillion.com/detail.php?titre=deux%20noirs%20et%20carton
http://www.spaightwoodgalleries.com/Pages/Tapies.html
لكن بشارة لا يقنع من الرسم بتمزيق الورق فقط،فهو يرسم أيضا بطريقة غريبة بين اللصق و المزق و اللّحْت. فهو يبدأ بلصق ورقته على المسند ثم ينتزعها بعد جفاف صمغها فتلحت الورقة المنزوعة شيئا من قشرة اللون على ورقة المسند و تترك عليه بعضا من قشرة سطحها المنزوع، و يكون الحاصل شكلا جديدا يقوم بشارة في دمجه في التكوين العام للصورة.و تفاكير بشارة التشكيلية في مقام الورق كثيرة لا سبيل لتفصيلها في هذه العجالة المقصود منها إضاءة مبحث الخامة/ الصورة عنده، لكن بشارة لا يتوقف عند الورق وحده لأنه يمارس الرسم بالأدوات التقليدية المتاحة للجميع(الريشة و الفرشاة و أقلام الرسم و أدوات الحفر إلخ)،و في عمل بشارة الحفـّار الباحث حرية كبيرة تسوّغ له ان يلتف على " عقيدة " (دوغما) الحفار التقليدي ليبذل لنا أدوات الحفار نفسها كصورة ذات سيادة جمالية مستقلة.ففي هذا العمل المعروض في المعرض لا يكتفي بشارة بعرض المستنسخات الناتجة من طباعة لوحة الزنك المحفور على الورق لكنه يعرض لوحة الزنك المحفورة نفسها كمكون من مكونات الصورة النهائية التي يمتزج فيها المعدن بالورق في كولاج فريد.
و كنت أعرف لبشارة رسومات الحبر الشيني على الورق من الأحجام الصغيرة المألوفة ، لكني في نهاية التسعينات شهدته يعمل بأقلامه على أوراق كبيرة الأحجام،( إرتفاعها حوالي 150 سم و عرضها لا يقل عن ال80 سم).و قد ادهشتني تلك الرسومات بالتناقض البائن بين نسيج خطوطها الدقيق القائم على منطق المنمنمات و ضخامة التكوين البصري النصبي الطابع.و هو تناقض قديم ثبتته طرائق المشاهدة الكلاسيكية التي تفرض على مشاهدة كل نوع مسافة بعينها( و الدلالة الإيضاخية الصورة الفتوغرافية تفسد حين نتأمل تفاصيلها بعدسة مقرّبة). و أظن ان قيمة تلك الأعمال التي شهدتُها في مرسم بشارة بأوكسفورد يمكن ان تتلخص في قدرتها على التمدد و الإنكماش أمام عين المشاهد المتحرك حسب التغير في المسافة التي تفصل المشاهد من المسند. و في إنكماشها و تمددها تظل رسومات الحبر الشيني وفية لغاية صانعها الأولى و هي الكشف عن حصيلة البحث الذي انحرط فيه الرسام وراء امكانات الخامة/الصورة .و أظن، غير آثم ،أن بشارة في هذا التدبير المركب إنما يستثمر بطريقة مبتكرة، طريقته، لقيـّات فنانين مميزين ضلعا ، كل بطريقته، في مبحث مسافة المشاهدة.و أعني أستاذنا ابراهيم الصلحي "الأوكسفورداوي" الكريم و أستاذنا الراحل المقيم حسين شريف.و قد عرفهما بشارة عن قرب حميم و امعن النظر في آثارهما الجمالية و الوجودية و غنم من ذلك رشدا جماليا يمثل اليوم في أعماله و يكسبها خصوصيتها العالية التي تجعلنا نتجمّل بها في وجه الإنقطاعات .
( لمشاهدة بعض أثار الصلحي القرافكية انظر صفحة الفنون التشكيلية بالموقع
http://sudan-forall.org/sections/plastiic_arts/pages/plasticart_ibrahim_salahi.html#
و لمشاهدة آثار حسين شريف القرافيكية يمكن مراجعة أعماله بالأبيض و الأسود في كتاب جمال محمد أحمد: " سالي فو حمر"[ طبعة دار جامعة الخرطوم للنشر]، الذي هو من العلامات المهمة في مشهد تصاوير الكتب المعاصرة و لا بد لنا من عودة متأنية لتقديمه كمساهمة أبداعية مهمة في تقليد صناعة الكتاب(أنظر ايضا " القمر جالس في فناء داره "لعلي المك )و " . و لمشاهدة تصاوير حسين شريف الزيتية أنظر الرابط :
http://www.shariffe.org/
)لكن بشارة لم يتوقف عند محطتي أستاذينا الجليلين، بل واصل استكشافاته الطليقة في أراض أخرى بعيدة كل البعد عن مباحث الرسم و التلوين عند صلحي و شريف.فبشارة باحث في جملة معاني العبارة، و هو باحث متمرّس يدخل على الرسم بأدوات الباحث دون ان يهمل نزوات الفنان و جنونه المشاتر المشروع.و بفضل ادوات الباحث الفنان يواصل بشارة مساره المعقد و لا يتردد في التوقف عند تلك الأركان المنسية المهملة التي عبرت فوقها أجيال من الفنانين و تناستها حركة البحث التشكيلي الرسمي.فهو يزورأرض المصورين الزيتيين ويعرج على أرض الحفارين ، ينتفع بتقنياتهم و تعاليمهم القديمة و المستحدثة في اعادة اختراع عجلة جديدة فريدة تحتاجها عربته التشكيلية التي لا تنفع معها اي عجلة أخرى، و في مشوار البحث التشكيلي، بين الرسم و الحفر و التلوين، يملك بشارة أن يتوقف عند آلة الإستنساخ الفتوغرافي الـ" فتوكوبي" و يمسخها أداة تشكيلية جديدة لإختراع تصاوير مبتكرة تتراكب فيها الوحدات البصرية المستنسخة تجاه صورة مغايرة.و هو يملك أن ينتقي المستنسخة ليرسم عليها أو ليطبع فوق تكوينها تكوينا جديدا او يمزقها ليعيد دمجها في مشروع جديد إلخ. كل هذه التدابير البحثية المتنوعة التي تتم بين البصيرة و اليد/الأداة و المسند، إنما تتحقق في مقام فعل "لا أدبي".فعل مادي فالت بالقوة من طائلة الأدب الكلامي.لكن هذا الواقع الـ "لا أدبي " لا ينفي عن تدابير الباحث التشكيلي حقيقتها الأصيلة كلغة ذات سيادة بلاغية قمينة بإدراك معاني الوجود الماثل فوق/ وراء/ تحت/جنب سعة الكلمات.
سأعود
عبارة مولانا" ميلتون قليزر"
Milton Glaser
التي تعرّف الفن بـ " العمل"، في معني الممارسة العملية مدخل مناسب لمقاربة " عمل" الصديق الفنان محمد عمر بشارة.فبشارة ينتمي لجنس الفنانين " الفـَعـَلـَة" الذين لا يستقيم أمر الفن عندهم إلا في سياق العمل. و هو قمين بالإنكباب على منمنمة صغيرة لساعات طوال فيرسم و ينقش و يلون و يحفر و يطرس و يطوي و يفرد و يخدش و يثقب و يمزق و يلصق و ينزع إلخ.. و كل هذا " العمل" يكسب تصاويره تلك الطبيعة الغريبة التي جعلت الناقد " توم فريشوتر" يخلص إلى أن
« His work is about process as much as product »
ولكني ، كلما تأملت في أعمال بشارة ـ على تواتر الأزمنة و الأمكنة ـ كلما ازددت قناعة بسعيه الواعي لترجيح كفة التخليق المادي للعمل ( البروسيس) على كفة الأثر الناتج ( البرودكت). هذا الحدب الذي يصعّد" الصناعة"، و لو شئت قلت: " التقنية"، لما فوق مقام الحاصل النهائي، " الأثر" ، و لو شئت قلت" التحفة"، هو القاسم المشترك الأعظم بين كل أعمال بشارة ، و تستوي في ذلك تلك الرسومات الصغيرة المنفذة بثفل القهوة و قلم الحبر الجاف على ورق رخيص ، أيام كان بشارة يعمل في "مصلحة الثقافة" في مطلع السبعينات، أو تلك المحكوكات و المحروقات التي أذكر ان مجلة " آفريكان آرت" الأمريكية نشرتها له في السبعينات.(رسومات على" سكريبر بورد" يمتزج فيها الحك بالحريق و شيئ من الحبر )، لمحفورات الزنك و النحاس وبعض أعماله الزيتية لغاية أعماله المتأخرة التي يمزج فيها بين الحفر و الكولاج و الرسم.
و قد لاحظ الناقد "ديفيد ليلينغتون" أن:
« Bushara uses such odd techniques that it is often impossible to see how a piece has been made .. »
و ملاحظة ليلينغتون تكشف بطريقة غير مباشرة عن مشروع بشارة الجمالي كبحث مركب في إحتمالات الخامة و الأداة. بحث يتم فيما وراء عادات التعبير التمثيلي ليستكشف ذلك المقام الفالت من طائلة البلاغة الكلامية: مقام الخامات التي تطرح خصائصها المادية الملموسة كمداخل جمالية لإدراك العالم في غير الابعاد الموسومة نهائيا بميسم التقليد الأدبي .
و عمل بشارة في هذا المشهد إنما ينطرح كدعوة لدخول أرض الممارسة التشكيلية المبرأة من شبهات الدين،( و ما الدين إلا وجه من وجوه الأدب) و هذا مدخل صعب لا يطيقه مشاهد يلبّك بصيرته بعادات المشاهدة الأدبية.
و في هذا الأفق، أفق العلاقة مع الأثر التشكيلي في بعده المادي كخطاب يتوسل بوسائل الخامات و الأدوات يحق لبشارة ان يقول:
"
« I work from nowhere, without an idea « .. ».I attack the surface and then the white is no longer neutral.There is a dialogue between the surface and myself. Ideas begin to build up. The more I work, the more things develop until I gain control.The images are elusive.They are both free and entrapped at the same time »
الكلام عن عمل من عيار عمل بشارة بوسيلة الكلمات أمر بالغ الصعوبة، ربما لأن معظم الكلمات المتاحة بين يدي المتأملين في التصاوير المعاصرة إنما سكّتها أقلام كتاب خرجوا من مقام علاقة دينية "بائدة" مع الأثر التشكيلي.و ربما كنا بحاجة لإختراع مفردات جديدة و تخليق خطاب نقدي من جنس الطبيعة الجمالية التي يستهدفها أثر بشارة.و هذه فولة تفيض عن سعة مكيالنا الراهن المستعجل، فكل غاية هذه الكليمة هي الإعلان عن معرض جديد في" متحف أوكسفورد" يشارك فيه محمد عمر بشارة مع فنانين آخرين هما:
Madi Asharya-Baskerville &
Helen Ganly
أنظر ملصق المعرض.
سأعود.
2
بشارة" الورّاق"..
عبد الماجد
يا أخانا الذي في الأسافير
سلام جاك و شكرا على قراءتيك الرشيدتين.و با حبذا قراءة ثالثة تفتح ابواب الريح على مصاريعها فننتفع جميعا و نستريح و هيهات. أقول : " و هيهات "لأن الحديث في هذا الشأن، شأن التداخل و التناقض بين لغة الخامة و خامة اللغة ، يظل ملغوما بشجون شتى: تقنية و جمالية و سياسية.و بين " جمالية" و " سياسية" يجوز لك ان تحشر " دينية" ( و الراحة مافيش على كل حال).
المهم يا زول ،أعدت قراءة تفاكيرك مرات و مرات، و حفزتني القراءة على العودة لهذا الأمر( قبل أن اتمكن من الحصول على مستنسخات إضافية من أعمال بشارة يمكن لها ان تساعدنا في تقعيد المفاهيم على متن الأثر المبذول للنظر).و غاية كليمتي هذي لا تتعدى استيضاح بعض النقاط فيما انبهم عندي من مسارب مداخلتك و توضيح ما قد يكون قد غمض على القراء في تعليقي القصير المستعجل.و هذا باب في " قد عين الشيطان ".
تقول:
"..و لكني أرى ان بشارة ، في كثير من أعماله، يكون في ذهنه صورة معينة يريد ان يرغم الخامة على توصيلها.و لا ندري قدر ما يتحقق له في المحصلة لأن ذلك في ذهنه هو وحده .."
و في هذه العبارة غموض لأن ما " في ذهنه هو وحده" هو المشروع/ الحلم ، و ذلك بكل ما ينطوي عليه "المشروع" من أطراف ذاتية و موضوعية ، أما" ما يتحقق له في المحصلة " فهو بالضبط ذلك الطرف الظاهر الذي يبذله الفنان للعيان في ماعون المسند المادي.
و في بقية عبارتك استرعى اهتمامي قولك:
" إلا أنه بمجرد اتخاذ القرار بعرض ذلك العمل " .." لا بد و أن يكون قد حقق شيئا من القبول".."و هذا لا يمكننا من التأكد من أنه كسّر حواجز الخامة بالكامل".و " استنزفها تماما".
و فكرة تكسير حواجز الخامة بالكامل و استنزافها تماما ، مما طالبت به الفنان المنخرط في عراك الخامة ، تتعارض مع الفكرة المضمنة في استدراكك ، المقيم بين الأقواس، الذي تقول فيه بأن
( " إستنزاف ما بداخل الخامة عندي( أي خامة ) هو ضرب من جنس" رابع المستحيلات" ) ..
و الخامة عند بشارة ـ و عندي ـ ( لو جاز لي أن أقحم نفسي في ثلة التشكيليين الـ " خاماتيين") ليست مجرد وسيلة لتوصيل الصورة الأدبية المتخلقة بين نزوات الخاطر و إنما هي أيضا صورة ذات سيادة قائمة بجاه منطقها الخاص الموازي أو/ و المتقاطع مع منطق الصورة الأدبية في اكثر من مستوى.و الخامة كصورة هي موضوع بحث مركزي عند كثير من التشكيليين المحدثين و القدامى سواء وعوا ذلك ام لم يعوه، و بشارة واع بمبحث الخامة/ الصورة كهاجس كفاح جمالي استنزافي مفتوح على الإطلاق.
طبعا هذا الكلام لا يعني ان بشارة يستغنى بصفاء مبحث الخامة عن مباحث التشكيل الأدبي التي تقرأ في مشهد " الدين"، فالدين ورانا و الدين أمامنا و لات مناص، يعني " سيك سيك معلق فيك".لكن أهلنا المسلمين قالوا: " الشريعة عليها بالظاهر"( و اللي في القلب في القلب)، و هي قولة جبارة تنطوي على باب بحاله في جمالية الحداثة التشكيلية كأمر ظاهراتي (فينومينولوجي).و الظاهر الذي تعنى به الشريعة عند المسلمين هو ، في تحليل ما، درع مفهومي يحمي المسلمين البراغماتيين من وطأة الشطح الأدبي الذي يبيح لكل شيخ الحق في إفتراع طريقه الديني الخاص،" طريقته"، و لو شئت قل: " رسالته".و حتى لا نتباعد عن الإشكالية الجمالية التي يطرحها عمل بشارة، فمن الأسلم مقاربته برؤية " ظاهراتية وجودية" ابتداءا من ما هو ماثل لبصر البصيرة حتى تتسنـّى لنا عقلنته كإسهام نافع في مقام إقتصاد الرموز المتداولة بين الرسام و الجمهور.و من " ظاهر الشريعة " تبدو تصاوير بشارة كخطاب في تدابير الورق و الحبر.و أنا أقدم الورق على الحبر لأن بعض أعمال بشارة تعتمد على الورق أكثر من اعتمادها على الحبر ، مادة الرسم.ذلك أن بشارة يمثل هنا ـ في سلسلة أعماله الورقية ـ كتشكيلي ورّاق يملك ان يستغني بالورق عن ريشة الرسام التي تنزف حبرها من أجل رسم الحدود بين عناصر التكوين القرافيكي. فهو يقوم بتمزيق الورق، ورق المطبوعات المختلفة المتنوعة التي يلتقطها من هنا و هناك.لكن طريقة بشارة في تمزيق الورق لا تتم كيفما اتفق،و هو في تحليل ما لا يمزق و إنما يخط بوسيلة التمزيق لأن بشارة ينفذ فعل االتمزيق بحيث تكشف الورقة عند موضع المزق عن خط لونه من لون لٌحمتها الكامن تحت قشرة اللون المطبوع. هذا الخط الناتج من عملية المزق هو في الغالب ابيض اللون لكن بشارة يحتال عليه أحيانا و يلوّنه بالأحبار الملونة حسب مقتضى الحال.و مزق الورق كوجه من وجوه تخليق الخط ليس وقفا على بشارة وحده، فهي تقنية قديمة خبرها نفر من التشكيليين المحدثين أذكر منهم الإسباني الكاتلوني "أنطونيو تابييس" كرم الله وجهه.
(أنظر أعمال تابييس في
http://www.michelfillion.com/detail.php?titre=deux%20noirs%20et%20carton
http://www.spaightwoodgalleries.com/Pages/Tapies.html
لكن بشارة لا يقنع من الرسم بتمزيق الورق فقط،فهو يرسم أيضا بطريقة غريبة بين اللصق و المزق و اللّحْت. فهو يبدأ بلصق ورقته على المسند ثم ينتزعها بعد جفاف صمغها فتلحت الورقة المنزوعة شيئا من قشرة اللون على ورقة المسند و تترك عليه بعضا من قشرة سطحها المنزوع، و يكون الحاصل شكلا جديدا يقوم بشارة في دمجه في التكوين العام للصورة.و تفاكير بشارة التشكيلية في مقام الورق كثيرة لا سبيل لتفصيلها في هذه العجالة المقصود منها إضاءة مبحث الخامة/ الصورة عنده، لكن بشارة لا يتوقف عند الورق وحده لأنه يمارس الرسم بالأدوات التقليدية المتاحة للجميع(الريشة و الفرشاة و أقلام الرسم و أدوات الحفر إلخ)،و في عمل بشارة الحفـّار الباحث حرية كبيرة تسوّغ له ان يلتف على " عقيدة " (دوغما) الحفار التقليدي ليبذل لنا أدوات الحفار نفسها كصورة ذات سيادة جمالية مستقلة.ففي هذا العمل المعروض في المعرض لا يكتفي بشارة بعرض المستنسخات الناتجة من طباعة لوحة الزنك المحفور على الورق لكنه يعرض لوحة الزنك المحفورة نفسها كمكون من مكونات الصورة النهائية التي يمتزج فيها المعدن بالورق في كولاج فريد.
و كنت أعرف لبشارة رسومات الحبر الشيني على الورق من الأحجام الصغيرة المألوفة ، لكني في نهاية التسعينات شهدته يعمل بأقلامه على أوراق كبيرة الأحجام،( إرتفاعها حوالي 150 سم و عرضها لا يقل عن ال80 سم).و قد ادهشتني تلك الرسومات بالتناقض البائن بين نسيج خطوطها الدقيق القائم على منطق المنمنمات و ضخامة التكوين البصري النصبي الطابع.و هو تناقض قديم ثبتته طرائق المشاهدة الكلاسيكية التي تفرض على مشاهدة كل نوع مسافة بعينها( و الدلالة الإيضاخية الصورة الفتوغرافية تفسد حين نتأمل تفاصيلها بعدسة مقرّبة). و أظن ان قيمة تلك الأعمال التي شهدتُها في مرسم بشارة بأوكسفورد يمكن ان تتلخص في قدرتها على التمدد و الإنكماش أمام عين المشاهد المتحرك حسب التغير في المسافة التي تفصل المشاهد من المسند. و في إنكماشها و تمددها تظل رسومات الحبر الشيني وفية لغاية صانعها الأولى و هي الكشف عن حصيلة البحث الذي انحرط فيه الرسام وراء امكانات الخامة/الصورة .و أظن، غير آثم ،أن بشارة في هذا التدبير المركب إنما يستثمر بطريقة مبتكرة، طريقته، لقيـّات فنانين مميزين ضلعا ، كل بطريقته، في مبحث مسافة المشاهدة.و أعني أستاذنا ابراهيم الصلحي "الأوكسفورداوي" الكريم و أستاذنا الراحل المقيم حسين شريف.و قد عرفهما بشارة عن قرب حميم و امعن النظر في آثارهما الجمالية و الوجودية و غنم من ذلك رشدا جماليا يمثل اليوم في أعماله و يكسبها خصوصيتها العالية التي تجعلنا نتجمّل بها في وجه الإنقطاعات .
( لمشاهدة بعض أثار الصلحي القرافكية انظر صفحة الفنون التشكيلية بالموقع
http://sudan-forall.org/sections/plastiic_arts/pages/plasticart_ibrahim_salahi.html#
و لمشاهدة آثار حسين شريف القرافيكية يمكن مراجعة أعماله بالأبيض و الأسود في كتاب جمال محمد أحمد: " سالي فو حمر"[ طبعة دار جامعة الخرطوم للنشر]، الذي هو من العلامات المهمة في مشهد تصاوير الكتب المعاصرة و لا بد لنا من عودة متأنية لتقديمه كمساهمة أبداعية مهمة في تقليد صناعة الكتاب(أنظر ايضا " القمر جالس في فناء داره "لعلي المك )و " . و لمشاهدة تصاوير حسين شريف الزيتية أنظر الرابط :
http://www.shariffe.org/
)لكن بشارة لم يتوقف عند محطتي أستاذينا الجليلين، بل واصل استكشافاته الطليقة في أراض أخرى بعيدة كل البعد عن مباحث الرسم و التلوين عند صلحي و شريف.فبشارة باحث في جملة معاني العبارة، و هو باحث متمرّس يدخل على الرسم بأدوات الباحث دون ان يهمل نزوات الفنان و جنونه المشاتر المشروع.و بفضل ادوات الباحث الفنان يواصل بشارة مساره المعقد و لا يتردد في التوقف عند تلك الأركان المنسية المهملة التي عبرت فوقها أجيال من الفنانين و تناستها حركة البحث التشكيلي الرسمي.فهو يزورأرض المصورين الزيتيين ويعرج على أرض الحفارين ، ينتفع بتقنياتهم و تعاليمهم القديمة و المستحدثة في اعادة اختراع عجلة جديدة فريدة تحتاجها عربته التشكيلية التي لا تنفع معها اي عجلة أخرى، و في مشوار البحث التشكيلي، بين الرسم و الحفر و التلوين، يملك بشارة أن يتوقف عند آلة الإستنساخ الفتوغرافي الـ" فتوكوبي" و يمسخها أداة تشكيلية جديدة لإختراع تصاوير مبتكرة تتراكب فيها الوحدات البصرية المستنسخة تجاه صورة مغايرة.و هو يملك أن ينتقي المستنسخة ليرسم عليها أو ليطبع فوق تكوينها تكوينا جديدا او يمزقها ليعيد دمجها في مشروع جديد إلخ. كل هذه التدابير البحثية المتنوعة التي تتم بين البصيرة و اليد/الأداة و المسند، إنما تتحقق في مقام فعل "لا أدبي".فعل مادي فالت بالقوة من طائلة الأدب الكلامي.لكن هذا الواقع الـ "لا أدبي " لا ينفي عن تدابير الباحث التشكيلي حقيقتها الأصيلة كلغة ذات سيادة بلاغية قمينة بإدراك معاني الوجود الماثل فوق/ وراء/ تحت/جنب سعة الكلمات.
سأعود