الثلاثاء، ٩ تشرين الأول ٢٠٠٧

أسئلة في الكتابة

مع أسامة عباس أسئلة في الكتابة

أسئلة أسامة عباس



اسامة عباس
سلام جاك
و معذرة للتسويف لكنها لابسات أكل العيش(أسامة، "لابسات" تصحيف لا إرادي، فقد صحّ منـّي العزم على كتابة" ملابسات" ولكن الكي بورد النزق نبا فكتب "لابسات"، و كان جيت للجد فـ " لابسات " أزرط من " ملابسات" أكل العيش في بلاد الغال و الغيل.و أكل العيش في هذه البلاد لبْس كبير و من لا يدري يقول عدس و الحمد لله على كل شيء).

المهم يا زول ،أسئلتك ما زالت في خاطري و هذه محاولة لقد عين الشيطان فتقبلها على علاّتها الكثيرة يرحمك الله.
عن سؤالك الأولاني أقول:
سؤالك عن" الكتب و الكتاب و المؤثرات التي ساهمت في تشكيل وعيي بالكتابة" سؤال الإجابة عليه صعبة لأن وعيي بالكتابة تشكل من خلال تجارب كثيرة متنوعة.و أظن أن خبرتي بالكتابة (و بالقراءة ) بدأت قبل دخولي للمدرسة الأولية، و أظن أنني دخلت على الكتابة أولا من باب الرسم قبل أن أدخل عليها من ياب الأدب. وقبل أن أدخل المدرسة كنت أرى إخوتي الأكبر سنا يكتبون في كراساتهم و يقرأون و كانت كتاباتهم و قراءاتهم تبدو لي ضربا من السحر العجيب، ، فاتخذت لي أقلاما و أوراقا أخربش عليها شيئا شبيها بالكتابة، نوع من خربشات تنتمي للمنطق الخطوطي لعلامات الكتابة و لتنظيم وحداتها القرافيكية على نحو الكتابة الرسمية.و أظن أن خربشاتي ـ التي كانت تغادر الورق للحيطان و جوانب الأثات ـ كانت تقابل بشيئ من السخرية من قبل الكبار العارفين بالكتابة كونها من جهة أولى مفارقة للكتابة المدرسية الرسمية ، و من الجهة الثانية لم تكن تندرج في مقام الرسم الإيضاحي الذي كانت لي فيه مهارات.هذه "الكتابة المزيفة" التي كنت أمارسها، كإحتمال في الرسم، كانت مقروءة لي( وحدي؟) كنص بصري خامته الكتابة.لكني كنت أتحرق شوقا لليوم الذي أتعلم فيه سر هذه الشفرة السحرية التي تملك أن تفتح مغاليق عوالم غريبة من القصص و الأخبار و الأحابيل الأدبية.و أظنني بدأت فك الخط في منتصف الخمسينات و أنا أتهجى سطور صفحة " يوميات التحرّي" في جريدة" كردفان" التي كان يصدرها الصحافي الرائد" الفاتح النور".كانت جريدة" كردفان" تصدر صباح الجمعة و مساء الإثنين تعتبر مادة مقروءة متوفرة باستمرارفي كل مكان. كان الكبار يشترونها لمعرفة تطورات بورصة المحاصيل أو أخبار و تحليلات الكورة التي كان يتابعها مراسلو الجريدة بين الرهد و بارا و كادوقلي و النهود و أمروابة إلخ. و كانت الجريدة تحتوي أيضا على ترويسة مهمة هي ترويسة " الإجتماعيات" التي كان الناس يعرفون فيها أخبار الزيجات و الوفيات وغيرها في نواحي كردفان و دارفور(كان للجريدة مكتب في نيالامنذ نهاية الخمسينات). بالنسبة لي كانت ترويسة " يوميات التحري" عامرة بما لذ ّ و طاب من الحوادث المثيرة التي كانت تكسر ملل الحياة اليومية العادية لمدينة مستقرة على عاداتها و مكتفية بذاتها و مستغنية عن ما يدور في خرطوم بعيدة ولا مبالية.و " الحوادث" التي كانت توقـّع حيوات الناس العاديين كانت تتشكل من قصص قصيرة متتابعة متجددة كل يوم.أظن أن " يومية التحري" في جريدة كردفان كانت بالنسبة لي عالما أدبيا قائما بذاته.عالم ؛حوادثه" كلها مشوقة و ذات مضمون أدبي غاية في الثراء.
ترى هل تكفي مثل هذه الإجابة لتوضيح أمر المؤثرات التي ساهمت بتشكيل وعيي بالكتابة؟مندري، لكنها كما قلت لك محاولة لقد عين الشيطان .(عينو اليمين بس)و من بعد سنعود لبقية أطرافه الأخرى.
وعيي بالكتابة على صلة وثيقة بوعيي بالقراءة.فالكتابة قراءة ثانية للنص، مثلما القراءة كتابة ثانية له( و هيهات).قرأت للغيطاني مرة أنه كان ينسخ بعض نصوص الأدب المملوكي حتى يستوعب منطقها الداخلي يتشرّب روحها و يتملكها بغرض إعادة إنتاجها في رواية أحداثها تدور في زمن المماليك. هذا النوع من الكتابة هو قراءة في مستوى رفيع ، بل هو حيلة في القراءة تجعل من فعل القراءة صناعة تتوسل للنص المقروء بالكتابة. و أنا بعد كل هذا قارئ غير نظامي ولا أعرف الصبر على قراءة ليست مرتبطة بالأسئلة التي تلح على خاطري.ثم أن غوايات الرسم تملك أن تشغلني عن القراءة بسهولة.
أذكر أنني قبل أن أقرا أدب نجيب محفوظ عبرت أرض النصوص الصحفية و أنواع الأدب" الشعبي" المترجم من الروايات البوليسية بين " مس ماربل" أغاثا كريستي ل"هولمز" كونان دويل لـ "لوبين" موريس لبلان ( و جلس لوبين يرمق دخان لفافته و هو يضرب أخماسا في أسداس..)..ياله من زمان. لقد كبرت في أسرة وفرت حولي جمهرة من الأشخاص المغرمين بالقراءة.فكنت أقرا كل ما أقع عليه من " المكتبة الخضراء" لكامل كيلاني" لـ "كتاب التعريفة" الذي كان يصدره" مكتب النشر" لغاية.. أنواع الكتب الصفراء من نوع" قرة العيون و مفرح القلب المحزون" و " الطب النبوي" و" قصص الأنبياء المسمى بالعرائس" للثعلبي .و كان زادي الأدبي في الخمسينات و الستينات يتكون من "الصبيان"(و شرحبيل أحمد الرسام حاضر مع غريزلدا الطيب و آخرين) ،و "ميكي"(والت ديزني مقطوع الطاري) و" سمير" و "صباح الخير" و" روز اليوسف"( حيث عرفت أساتذتي الرسامين اللباد و رجائي ونيس و جمال كامل و إيهاب نافع و حسين بيكار و مأمون و جمال الليثي و حجازي و هبة عنايت إلخ) و" آخر ساعة" و " المصور" بالإضافة للجرائد السودانية " الرأي العام " الأيام " " الصراحة " و " الناس" و " الصحافة" .في ذلك العهد كانت صحف الخرطوم اليومية تصل الأبيض بالطائرة مرتين في الأسبوع. و كان القراء مضطرين لشراء صحف الأيام الفائتة مع صحيفة اليوم.كانت تلك تجربة غريبة في القراءة حين تقرأ صحيفة الثلاثاء قبل صحيفة الأثنين و الأحد. أظن أن هذا النوع من القراءة يتيح الفرصة لملاحظة الكيفية التي يتخلّق عليها النص مع الزمن في نفس الموضوع..ثم جاء وقت اكتشفت فية " مكتبة البلدية" في الأبيض.واحة سرية من كنوزالمعرفة في قلب صحراء المدينة المزعومة عروسا للرمال.في مكتبة بلدية الأبيض لم يكن القراء يستلفون الكتب.فالقراءة "كاش" على حد تعبير أحد الأصدقاء. و كنت أقضي نهارات العطلة المدرسية الطويلة و أمسياتها أقرا بلا ملل، بل كنت أقرأ أي شيء" من طرف" حين يستبد بي الملل.و تعرفت فيها على أصدقاء فكر صاروا مثل أهلي، بل هم أهلي بالفعل كونهم أهّلوني لمجابهة أسئلة العالم.(و ما الأهل؟).في مكتبة الأبيض العامة كان هناك محفوظ و صلاح عبد الصبور واحسان عبد القدوس وجبران و الطبري و ابن المقفّع و القزويني صاحب " عجائب المخلوقات" جنبا لجنب مع الفيتوري("عاشق من أفريقيا" ياله من كتاب)، و عبد الرحمن الأبنودي( جوابات حراجي القط)و كان شتاينبيك ( أعناب الغضب و رجال و فئران) و غوركي و ميلفيل، كما كان فرويد( تفسير الأحلام) و كان فيكتور هوغو(البؤساء)، و كان ماركس عليه السلام و كان سارتر كرم الله وجهه في مجلات " الطليعة " و " الآداب"،مثلما كانت هناك سير الرسامين الأساطين و أعمالهم في مستنسخات مجلة "الهلال" المؤطرة بمقالات جيدة في الفن الحديث لـ كمال بسيوني و رمسيس يونان و يوسف فرنسيس وغيرهم.
المهم يا زول حديث القراءة يطول و أحاول أن لا أنسى أنك تسألني عن الكتابة.
لقد تعلمت" صنعة" الكتابة بشكل عفوي في صحف الحائط.و أظن أن كل مرحلة من مراحل الدراسة التي قطعتها من المدرسة الأولية للوسطى للثانوي لغاية كلية الفنون كانت مرتبطة بتجربة إصدار جريدة حائطية ، و أظن أن جريدة الحائط بالنسبة لي كانت نوعا فنيا فريدايتيح لي أن أكتب النصوص و أخط عناوينها و أدعمها بالرسم. جرائد المدرسة الإبتدائية كانت كثيرة و جماعية . منها " البراعم" التي كنا ننسخ عليها الشعر و موضوعات الإنشاء في " الشرقية الخامسة" تحت إشراف " شيخ بكري".ثم إلتقيت بمحمود عمر و عصام بشير حامد في الأميرية الوسطى لنصدر " السلام" بهامش حرية كبير في ناحية الرسم،بمباركة أستاذنا محمد الخاتم (شقيق الصديق الفنان عبد الباسط الخاتم). و في الأبيض الثانوية إلتقينا و ميرغني عبد الله مالك (ميرغني الشايب في رواية أخرى) و آخرين في تجربة جريدة حائط ـ أظن أن اسمها كان " الوعي"، قبل أن أشرع في إصدار جريدة كاريكاتير لنقد كل شيء من أداء المدرسة لأداء السياسة. كان ذلك زمن الحريات بعد أكتوبر 64.حين وصلت لكلية الفنون كانت أولى خلافاتي مع بعض الرفاق في الجبهة الديموقراطية تتعلق بالأسلوب الذي كانت تصدر به جريدة الجبهة الديموقراطية.كانت جريدة ساسة في المعنى الحِرَفي للسياسةو ساهمنا في أن نجعل منها جريدة فنانين منتبهين للممارسة السياسية.و بالتوازي مع جريدة الجبهة كانت لنا ، مع الصديق الفنان الراحل أحمد البشير الماحي، جريدة ثقافية هي "1+1=2".المهم يازول ،أخلص من هذا لأن تجربة الجريدة الحائطية تعتبر مدرسة مهمة في تعلم صناعة الكتابة، كون الكاتب يدخل على التحرير كصناعة إتصال قواعدها و أساليبها مرتبطة بغاياتها. و من أهم دروس الكتابة الصحفية هي أن الكتابة تمرين و تدريب و رياضة و عادة لا يعوّل فيها على الإلهام أو المزاج.و الكاتب " الصنايعي" المدرّب قادر على الكتابة تحت أي ظرف، دون أن يغفل عن كونه يتحرك داخل أرض الأدب المؤثثة بأثاث كبار الكتاب.وأول قواعد الكتابة الوعي ببعدها التطبيقي،ليست هناك كتابة مجانية،أو كتابة أدبية حرة أو جمالية بريئة من الغرض. كل كتابة مغرضة، و كل كتابة سياسية ، بطريقة أو بأخرى.بيد أن هناك كتابة مغرضة تعي غرضها و كتابة مغرضة يعوزها الوعي بالغرض الذي يتلبسها.وأظن أن انتباهي لبُعد الصناعة في الكتابة جعلني أقرأ آثار الأدب بحساسية خاصة تجاه أسلوب الكاتب في تركيب المكيدة الأدبية.و في هذا المقام، مقام تركيب المكيدة الأدبية، شواهد مهمة استحضرها على الدوام و انتفع بقربها، سواء كانت في جهة النصوص المقدسة( القرآن و الأناجيل إلخ) سواء كانت في جهة الآثار النصبية الكبيرة من نوع " الإلياذة" أو" ألف ليلة " أو " كليلة و دمنة" أو " سالامبو"آناتول فرانس" أو مؤخرا في " رباعية الإسكندرية" للورنس داريل أو" بندرشاه" سيدنا و مولانا ـ مقطوع الطاري ـ الطيب صالح كرم الله وجهه.
مرة ، في مطلع الستينات، عثرت على كتاب صغير تمزّق غلافه يبدأ بعد صفحة عشرين و ينتهي فجأة بفعل تمزق الصفحات الأخيرة.و شرعت في قراءته من باب مغالبة الملل في واحد من نهارات رمضان الطويلة. و سرعان ما استوعبتني القراءة و ملكت فؤادي أحداث هذه الرواية العجيبة لـ " سانتياغو" العجوز الفقير الذي يخرج للصيد في قارب صغير و يصطاد سمكة كبيرة لا يقوى على حملها فوق القارب فتهاجمه أسماك القرش تنتاش من صيدته حتى تأتي عليها. أعجبتني كثيرا هذه الرواية التي تحكي ما يدور في خاطر هذا الكهل المستوحش و هو يقاوم قوى الطبيعة، لكنني لم أعرف من هو مؤلفها و لا كيف انتهت. بعدها بسنوات شاهدت ـ في سينما عروس الرمال ـ فيلم " العجوز و البحر" المبني على رواية همينغواي الشهيرة، و كان الممثل القدير " سبنسر ترايسي" يلعب دور سانتياغو الصياد العجوز.أذكر أنني طوال ربع الساعة الأول كنت في حالة فريدة من الذهول و الفرحة الغامرة كوني كنت( وحدي؟) أعرف أن هذا الفيلم يحكي روايتي مجهولة المؤلف التي أمتعتني رغم أنني لم أعرف بدايتها و لا نهايتها.لم أقرأ رواية " العجوز و البحر" كاملة إلا بعد أكثر من عقدين من الزمان.لكني لم أجد فيها تلك المتعة التي وجدتها في قراءة تلك الصفحات المجهولة الممزقة التي سحرتني في زمان اليفاعة البعيد بما انطوت عليه من مكيدة أدبية عالية.خطرت لي هذه الحكاية لأني أظن أن صناعة الكاتب إنما تتعلق ـ أولا و أخيرا ـ بتركيب الكيد الأدبي كفخ مقصود منه أسر القارئ في أحابيل السرد.و حين يسقط القارئ في فخ الكاتب فلا ينوبه من تجربة السقوط سوى ذلك الكيد الذي حفّز الكاتب للكتابة أصلا.هذا الفهم للكتابة يردها لحيث اللعب.اللعب بين الكاتب و القارئ، و في مقام اللعب الأدبي هناك اللاعب الكاتب( المنتج) الذي يعي قوانين اللعب و يراعيها و ينتفع بها في إختراع لعب جديد و هناك اللاعب القارئ(المستهلك) الذي يكتفي من الغنيمة بالمشاركة في اللعبة و يستغني بمتعة القراءة عن هم إختراع لعب جديد.و في هذا المشهد يبدو أدب الطيب صالح مثل فخ كبير، اسمه" ودحامد"، يمور بطوائف القراء الأماجد الذين يكتبون ضمن منطق الإستهلاك دون أن يخرج أي منهم على قانون اللعبة التي اخترعها الطيب صالح.لقد فرض الطيب صالح مكيدته في كتابة مجتمع القرية و ثبتها بطريقة تجعل معظم الكتاب السودانيين الذين عالجو سرد القرية السودانية يقعون في إسار أيقونة " ود حامد" بمشهدها الطبيعي و بمناخاتها و بشخوصها.لقد بنى الطيب صالح سورا عاليا حول موضوعة القرية و عمل لها بوابة أغلقها و رمى المفتاح في بئر سحيق.و بعد قرية الطيب صالح لا يبق أمام الكاتب الجديد الذي يرغب في مقاربة موضوعة القرية إلا أن يخترع قرية جديدة مخالفة لقرية الطيب صالح أو يمشي يشوف ليهو حاجة تانية.


أظن أن سؤالك حول جدل الجيل الجديد و الجيل القديم مقرونا بالكتابة الجديدة و الكتابة القديمة فيه خلل منهجي، لأنه يضمر علاقة ما بين الجيل و نوعية الكتابة ، بقدرما تنطوي عبارات" قديمة" و "جديدة" على حكم قيمة إعتباطي لا تسنده أي حجة موضوعية.أنا لا أنكر وجود الأجيال كواقع زماني. الا أن الجيل فضاء اعتباطي يندرج في إطاره كل الناس الذين ولدوا و عاشوا في لحظة تاريخية بعينها.، مقولة الجيل تتعامى عن الواقع التاريخي لمجتمع ملغوم بتناقضات المصالح الطبقية.فقد ننتمي لنفس الجيل لكن تناقض المصالح الطبقية يؤثر على الطريقة التي يستخدم بها كل منا نفس الكلمات و على نوع الإستجابة الجمالية لكل منا لنفس الموضوعات الأدبية.
و في نظري (الضعيف؟) أظن أن مقولة الجيل ظهرت في المشهد الثقافي السياسي في السودان كذريعة لتمرير منطق التبديل في الأجسام القائدة لمؤسسات الثقافة و السياسة( أنظر حالة بعض الأحزاب السودانية التي تتفاخر بأنها فتحت الباب للدماء الجديدة الشابة لتتسنم مواقع القيادة). و على علاتها ، تملك مقولة " الجيل" أن تموّه، من وراء غشاء الغوغائية السياسية، أزمة حقيقية في منطق التبديل الديموقراطي الطبيعي ضمن أجسام القيادة في المؤسسات السياسية و الثقافية.لكن طبيعة التركيب الكبير اللاحق بالواقع السوداني لا يسوّغ إستباحة حرمة مفهوم " الجيل" و توظيفه فيما لا يصلح له.و في نهاية كل تحليل فإن التبديل في القيادات الفكرية و السياسية أمر يرتهن بالكفاءة و لا علاقة له بفتوة الشباب و لا بأقدمية المخضرمين
أسامة
أظن أن هذا الكلام يعفيني ( و هيهات) من مشقة الإجابة على سؤالك نمرة تلاتة:" كيف تقرأ كتابة الأجيال السابقة لك و اللاحقة؟"
أما عن سؤالك نمرة أربعة:
"كيف تنظر لدورك ككاتب في الحياة"
ما أنا يا صاح بكاتب، و لكنها" الحياة".أنا رسام أباصر الكتابة،لأن هذا الرسم الذي يكتفي بذاته ـ فيما يشاع ـ لا يكون ما لم تؤطره كتابة تدفع عنه غوائل السلطات و أنواع سوء الفهم الطوعي وغير الطوعي.و قد حفزتني ضرورات تقعيد الممارسة التشكيلية لمعالجة الكتابة في فضاء سوسيولوجيا الثقافة، و سوسيولوجيا الثقافة أرض واسعة يختلط فيها حابل علم الجمال بنابل الإقتصاد السياسي و هلمجرا.
طبعا المشكلة هي أن "مصاقرة" الكتابة ـ بأي ذريعة ـ تنتهي بـ"المصاقر" إلى إتخاذ هيئة الكاتب الأديب.و إتخاذ هيئة الكاتب الأديب يا صديقي مجازفة كبيرة و شر مستطير لا يقربه إلا أهل الغشامة الكبيرة أو أهل العزم الحديد المارقين للريبة و التلاف.وأنا شخصيا لا قبل لي بتحمل عواقب موقف الكاتب الأديب و لا رغبة عندي و لا وقت.
الأخ أسامة أرجو أن تجد في هذه السطور إجابة لأسئلتك، و لو عنّ لك المزيد فاكتب يرحمك الله و شكرا لك كونك حفـّزت الخاطر على نبش تفاكير الكتابة.
مودتي
حسن موسى

فن الشفاء 2 و 3 تعقيب

تعقيب لاهاي
الأعزاء المتابعين سلام
الأخ عيسى
شكرا على خواطرك السديدة وعلى" سربعتك" الطريفة:" يوم يلد و يوم ما يلد و يوم يلد ولادة ما ليها حد"و" السربعة" في تعريف للصديق الفنان محمد بهنس( الذي نبّهني لبعض سربعات مشهودات للصديق الشاعر خطّاب حسن أحمد)، (و أين محمد بهنس؟): هي نوع من توليدالمعاني الجديدة من خلال اللعب بالمباني القديمة، و أهلنا الفرنسيس يعرفون سربعتهم بعبارة عجيبة هي ال" كونتر بيتري" أو
Contrepèterie
و ترجمتها الحرفيةتعطينا " الزراط المضاد"، و قيل :" فن الزراط المضاد".و الكونتربيتري تقليد في تقنية التعبير الأدبي تواتر في أدب القوم عبر العصور ، و ينتفع بها الكتاب المتمكنين من صناعتهم بين " رابليه" و " بريفير" , " كونو" و رهط السورياليين كما انتفع شعراء العربية بتقنية التصحيف المتعمّد في توليد آيات التعبير الأدبي الذي لا تطاله حيلة الترجمان و لو كان من المجودين.
المهم يا زول، أظننا بحاجة للتأمل في المضمون الأيديولوجي لسربعات الأهالي الغبش ، بالذات في مقام النصوص الدينية، كون السربعة الشعبية ، فيما وراء منفعة النكتة الطريفة ، إنما تنطوي على مسعى تحرري غميس، فهي في الغالب نوع من مكيدة عفوية ترد وسيلة اللغة إلى نسبية كفاءتها و محدوديتها. و و في هذا المنظور فالسربعة قد تحرر اللغة القديمة من أثقال القداسة الدينية التي تلبّكها و التي تمنع المتلقي من إدراك المعني الأصلي المفترض في الأدب توصيله.
و حكاية " سورة التور" ليست سوى محطة ضمن سعي الأهالي الأميين لتملّك مفاتيح وجودهم و إعادة إختراع الدين على قدر مقاسهم.ولا جناح على القوم كونهم اخترعوا للتور سورة، فهم لم يفعلوا ذلك من باب التشنيع على عقيدتهم و إنما من باب تقعيدها كنموذج للإنسجام وفق منطقهم ، منطق" الحس السليم "الذي يتحسّب منه أخونا الفاضل الهاشمي،( اصبر عليّ يا هاشمي). و هذا الموقف يردنا لمحدودية النص ، أي نص، مثلما يردنا لنسبية كفاءة النص المقدّس الذي يمثله القرآن في هذه الحكاية،فالنص القرآني نتاج تاريخي فاعليته ترتهن بنوع الإستجابة التي يلقاها من طرف الناس المنتفعين به و ليس من طبيعته الداخلية كموضوع قدسي مكتف بذاته.و هذا التحليل، الذي يثبّت للأهالي الأميين مشروعية إختراعهم لسورة للتور، يجعل من نفي العالم الأزهري لسورة التور في القرآن مجرد قراءة أخرى بين القراءات المتعددة، و قيل المتعارضة ، بتعدد و تعارض المصالح .و تناقض المشروعيات لاينتقص شيئا من مشروعية قراءة العالم الأزهري العارف بالنصوص لكنه يموضعها ضمن سياق إجتماعي كموقف طبقي.و هذا يعني أن كل قراءة إنما تؤسس مشروعيتها من المصلحة الطبقية التي ينتظرها منها أهلها.ودرس حكاية " سورة التور" إنما يتجسد في تضامن الأهالي حول إمامهم و نصرتهم لرأيه، ضد العالم الأزهري، كنوع من ردة فعل عفوية غايتها حماية عالمهم ، عالم سورة التور، من زعزة الغرباء الذين لا يوثق في مراميهم.
عيسى
تقول:" و خلاصتك هده تسمح لي بالمشاركة باعتباري من جماعة (سورة التور)"، و أنا أقول لك :كضبا كاضب، و ذلك ببساطة لأن أهل سورة التور لم ينالوا يوما حظوة الوقوف من اعتقادهم موقفا يؤهلهم للنظر للأمور من هذه المسافة النقدية الثمينة التي تعطيك حق اختيار سورة التور إنحيازا لقضية الديموقراطية.أهل سورة التور يا صديقي لم يختاروا للسور ثورة( و هذه سربعة عفوية فلا تأخد بها) و لا ينبغي لهم، إنهم ببساطة لا يتصورون أن لا تكون للثور سورة في الكتاب. و المسافة التي نقفها ،أنت( في هولندا) و أنا ( في فرنسا) و الفاضل( في كندا) وأمثالنا( في السودان)، من أمور دين أهلنا، هي مسافة بنيناها من واقع التأمل و التعلّم و البحث عن المخارج الأقل ضررا، و نحن نقيم( بالوراثة) في مقام حظوة طبقية انتهزناها ضمن واقع الصراع الإجتماعي في بلادنا و الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.و في هذا المشهد الآثم أقول: لن نتخلى عن حظوتنا التاريخية ـ على الأقل في مستواها المادي ـ و في إيدنا القلم، ولن نعتذر عنها ابدا، فما العمل؟ العمل الوحيد الممكن في مثل حالنا هو توسيع فضاء هذه الحظوة فتشمل اكبر عدد ممكن من الناس.كيف؟ بالإنتماء لجماعة " سورة الديموقراطية". و لو في زول بفتكر إنو مافي حاجة اسمها" سورة الديموقراطية" في الكتاب فبطريقتو.شايف؟
و غير ذلك أوافقك في أن القاموس السياسي السوداني ملغوم بأنواع العبارات الهلامية الغامضة التي تتعدد دلالاتها بتعدد أغراض مستخدميها من نوع العرب و الأفارقة والجنوبيين و الشماليين و المهمشين و أهل الوسط و المركز و الجلابة و السود و البيض إلخ.و لعلنا بسبيل الخروج من الأزمة الراهنة ، نحتاج أولا لتحديد دلالة العبارة بشكل أكثر كفاءة حتى نتجنب سوء الفهم المجاني.
أما عن سؤالك في خصوص تصنيف إنتحاب" الدكتور فاروق أحمد آدم في رسائله الشهيرة للرئيس"(" و العبرة خانقاه" لموت مجذوب الخليفة") و الذي استفاد منه الفاضل في دعم تيار الغفران الإسلامي، في قوله: " و لا حوجة البتّة لمنطق الإعتذار و العفو النصراني عندنا لأن من عفا و أصلح فأجره على الله. و قد قال بعض الضحايا في السودان بعضمة لسانهم ( د. فاروق أحمدابراهيم مثلا) أنهم يبتغون الإعتذار ، و بس." فكل ما يمكنني قوله في هذا المقام هو أن لضحية التعذيب كل الحق في أن يبذل عفوه لجلاده على المستوى الفردي مثلما له كل الحق أن يحمل عكازه و يخلص حقه بيده ( و دي طبعا لمن استطاع إليه سبيلا ).لكننا يا صفوة لو أردنا نوع العمل العام المؤسسي الذي نعرّف عليه أسس الحياة المشتركة التي تقوم على الديموقراطية و العدالة ، و التي تملك ان تجنبنا مستقبلا تجاوزات المتجاوزين فعلينا ان نترك الضحية و جلادة يصفون حسابهم على المستوى الفردي لو أرادوا، لكن ذلك لا يغنينا عن التفاكر في أسس تصفية الحساب الجمعي.و كلامك عن" حرص الحكومات الشمولية ( و ليست الشمالية) ".." على قمع و إرهاب كل من يطالب بحقه في أي جزء من السودان .." سديد، و انظر لهذا النميري الديكتاتور الشمولي السابق و الذي ، بجاه الديكتاتورية الشمولية الراهنة ، ما زال يمشي في الأسواق و يتفاصح في منابر الإعلام و يده ملطخة بدماء الضحايا.و مافي زول يقول يا جماعة البغلة في الإبريق و الإبريق شايلو الورل و ماشي يقدل ساكت و التمساح عامل ميّت إلى آخر بلاغة البسطاء.
أرجو أن تعود، كما وعدت ، للحديث عن "أهمية تأمين الخدمات الأساسية". و سأعود بعد تقليب حديث الفاضل.
مودتي




3
ت لاهاي 2
الفاضل الفاضل.
سلام جاك و قعد معاك في أرض أهلك الكُنود،( و هي في الحقيقة،" حقيقة الهنود"، أرض أهلك الهنود، لكن "حقيقة الهنود" لم تؤدّي بهم إلاّ إلى الإستبعاد في حظيرة"الرزيرف"لأنها حقيقة ثقافة بادت تحت نار رأس المال النصراني . نفس نار رأس المال النصراني التي رمت بأهلك الأنصار في حديقة الفولكلور ينتظرون " إشارة " الخلاص التي لن تجيء من طرف الزعيم المشغول بالبيزنيس و حال السوق).المهم يا زول ، اندهشت حين عرفت أنك اطلعت على نصي في " سودانيزأونلاين" ،فمشيت نقرت على" المنبر العام" ولقيت نصّي و قد عاث فيه برنامج السنسرة الإلكترونية الأخرق تقطيعا : يعني كل ما يلاقي كلمة " موروث" يشطب منها نصفها( " روث") و يستبدل أحرفها بشطبات على قدر من البذاءة البصرية يفوق كل أدب البذاءة الطافح يوميا على صفحات سودانيز أونلاين، و الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.طبعا صاحبنا الركّب برنامج السنسرة دا بفتكر إنو البذاءة في الكلمات، يعني
البر نامج دا لو لقى طريقة في المعجم الإلكتروني ما يخلي فيهو نفـّاخ النار ، و حتى الكلمات التانية الممكن جزء منها يكون فيهو مشكلة من نوع " نيكوراغوا" و " مصطفى لطفي المنفلوطي" و" لطفي الخولي" و الزبد و الزبرجد و الكُسكس و كل الكُسور و البواقي ، كلها معرضة للشطب.و قد جاء في مثل شعبي : إنما البذاءات في النيّات و لكل امرء ما نوى.لكن السنسرة الإلكترونية تجهل الأمثال الشعبية .
ياخي و الله أنا متأسف غاية الأسف كون دعوتي "لجبهة عريضة للإنقاذ"، بذريعة " أدب الشفاء"، قد خذلت توقعاتك و لم توافق ما توسمته فيّ من روح ثوري طليق.فالورقة أزعجتك بمسحتها المحافظة المتدينة كما قلت:
"أزعجتني المسحة المحافظة التي طغت على العقيدة الطوباوية" ، و " باقي الكلام مليان بالمحافظة و التديّن".
فما أدراك ما المحافظة ( التدين خليهو لقدام).
ما المحافظة؟ و ما غايتها؟ و من المستفيد منها؟
تعرف يا الفاضل قبل سنوات كنا، باتريسيا و أنا نتناقش ، و قيل نتفاوض ، مع بنتنا "التينيدجر"، لإقناعها بوجهة نظرنا في أعتراضنا على حضورها حفلة عامة في القرية، على زعم لنا فحواه أن هذا النوع من الحفلات مفتوح للغاشي و الماشي ،و أنها لم تبلغ بعد مستوى النضج الذي يمكنها من ارتياد هذا النوع من المحافل إلخ . و هي ، كما ترى مخاوف الآباء التقليدية. فثارت ثائرتها و قالت من علياء أعوامها الأربعة عشر : " أنتم آباء محافظون"، قالتها كمن ينطق بإدانة نهائية لا تقبل الإستئناف.و خطر لي أنها على حق، و أمّنت أنا على قولها و زدت عليه "طبعا أنحنا محافظين و كتر خيرنا القدرنا نحافظ عليكي لمن كبرتي و وعيتي و كمان قدرتي تشوفينا محافظين".و كما ترى فإن قيمة المحافظة ترتهن بموضوعها. والآباء يحافظون على " فلذات أكبادهم" كما تقول بلاغة العربان ( و يعزّ أهلنا الفرنسيس عيالهم و يحرصون عليهم كما " بؤبؤ العين")،و في السنوات الماضية تعلـّم سدنة النيوليبرالية في أوروبا أن يستخدموا صفة المحافظة كسُبّة شنيعة في حق الحركة العمالية التي تحاول المحافظة على مكتسباتها التاريخية في وجه تغوّلات رأس المال المتعولم.طبعا كلامي بتاع " أدب الشفاء" مش فيهو " مسحة محافظة" و بس، دا يا زول المحافظة ذات نفسها.لكن بعد دا خلينا نجي نشوف محافظتنا دي " شن نفرها؟" و أنحنا دايرين نحافظ على شنو؟
المحافظة تعني صيانة ما هو موجود و و ما يهمّنا حفظه.و في هذا المشهد ، مشهد ما هو موجود ، فنحن في حضرة هذا الوطن الماثل كما حقل واسع من الألغام المادية والرمزية التي زرعها الأخوة الأعداء أبان عقود الحرب الأهلية ( و فيهم من يواصل زراعتها اليوم من وراء ظهر إتفاق السلام البالغ الهشاشة).و لا أحد بيننا يملك أن يجزم ما إذا كانت الحرب قد انتهت أم أننا بصدد هدنة إجبارية فرضها بيزنيس البترول،أم أننا نحضر لحرب أخرى أشد هولا من سابقتها.حرب تتمدد في مجمل أنحاء الوطن المتلاف المترامي الأطراف و تصبح هي القاعدة في اسلوب حياة السودانيين.و بمناسبة العبارة : " أسلوب حياة السودانيين "، فنحن يا صديقي في حضرة جيل كامل من السودانيين الذين ولدوا في عز الحرب ،جيل عمره من عمر الحرب،و أفق تجربته الوجودية تحدّه الحرب من كل جانب، هذا الجيل سيجد صعوبة كبيرة في أن يتكيف مع الحياة العادية للناس العاديين الذين يستيقظون في الصباحات العادية ليذهبوا لمشاغلهم العادية و يربوا عيالهم و يعلموهم في المدارس و يحلمون بتفوقهم و بنجاحهم و يزوجونهم و يرعون ذريتهم حتى يدركهم هادم اللذات و هازم المسرات العادية فيموتون موتا عاديا ويقام عليهم الحداد العادي ثم تستأنف الحياة مساراتها العادية . هذا الجيل غير العادي سيواجه كل الصعوبات الجمالية و السياسية و النفسية و المادية التي يفرضها عليه نمط الحياة في شرط السلم، و هي صعوبات لا يفهمها و لا يراها من خبروا الحياة العادية في شروط السلم.
و ضمن" مشهد ما هو موجود"، فنحن ، من جهة أخرى ، لحسن الحظ ، في حضرة زخم واسع من الآمال و النوايا الطيبة التي تنتظم جسم مجتمع سوداني معاصر ينتظر التنمية و الديموقراطية ليفتّح من طاقاته الخلاقة و يحقق يوتوبيا التعدد الثقافي و الديموقراطية.و لو تأملت في صور استقبال جون قرنق في الخرطوم للمست أن جموع الناس الذين هبّوا لإستقباله لا يمكن تصنيفها على أساس إنتماء عرقي أو جغرافي تقليدي.هذا التفاؤل الكبير هو جزء أصيل في" مشهد ما هو موجود" ، بل هو الدينامو الرئيسي لتعبيرات النسخة السودانية من أدب الشفاء .و يهمنا أن نحافظ عليه و نوظفه لصالح قضايا السلام و الديموقراطية و التنمية.
و حين أراك تلومني على التغاضي " عن واقع القمع و العنف الذي وثقته القراءات و عشناه بواقع أدب الشفاء.." ثم تلومني مرة ثانية على مصادرة الأوجه السلبية للواقع السوداني لأنك تراني أنساق ببراءة وراء إغراء " السماحة و الحس السليم و المحبة و الغفران النصراني اليهودي " التي تقبض " على خناق أدب الشفاء"و تحرمه " من رؤية بقية الآفاق الواقعية الكالحة "، أتساءل : لماذا ينتظر مني الفاضل أن أجتر الحزازات القديمة و أنا بصدد دعوة الناس لتجاوز تركة الماضي المظلم ؟ أنا يا صاحبي لم أنس حزازات التاريخ أبدا، و لا ينبغي لي أن أشيح عن إرث المظالم الذي أطّر وجودنا المادي و الرمزي، بل أن الحزازات و المظالم ما زالت ماثلة ، في لحم الناس و في دمهم قبل أن تثبتها الوثائق و القراءات المتنازع عليها.لكني يا صاحبي بصدد مشروع متفائل للخروج من حلقة العنف الشريرة التي تخيّم على الأفق السوداني.و حين أتساءل : ما العمل؟و كيف نرد الإعتبار لضحايا التجاوزات ؟أو كيف نرد حقوق الناس المهضومة و نصفي حساب الغبائن القديمة دون أن نجعل السودانيين شعبا من العور؟ أو كيف نقتص ممن ظلموا دون أن نحمّل الأبناء وزر الآباء؟ فتساؤلي يستشرف افق ما بعد تصفية الحساب و ينفتح على مشروع آخر هو كيف نتعايش معا ضمن وحدة ترعى التعدد الثقافي و العرقي و تحترم حقوق الناس بصرف النظر عن وزنهم العددي.
أنا يا صاح بصدد أدب للشفاء من تركة الماضي المظلم و من إنتكاسات المستقبل الهش، و هذا الأدب ، في شكله السياسي ، مشروع عمل عام جبهوي ،و لو شئت قل:" جبهة عريضة للإنقاذ" ، أيوه " الإنقاذ"، و لو شئت قل " الإنقاذ من هذا" الإنقاذ" الإسلامجي الـ " يونيك" في تاريخ السودان.و العمل العام الجبهوي الذي أنا بصدده ، و أنت أدرى ، هو عمل محافظة ( و لو شئت قل " صيانة")،كوننا مطالبين أولا بالمحافظة على الأمل في نجاح المشروع ، و هنا يمكنني أن أشرح تفاؤلي الطوباوي الذي ربما بدا لك ساذجا، مثلما نحن مطالبون بالمحافظة على الماعون البدائي الذي يمكن أن يسع عملا عاما فيه خانة للخصوم العربسلاميين الناطقين في لغة القرآن، من الذين يحلّون ، أو قل : يُحيلون ، مشاكل الحياة الدنيا في الآخرة وقد يحلمون بغزو الكفار من ساكني " أرض الحرب"، على تخوم " أرض الإسلام" و الأجر على الله..
و كونك " توجست من برنامج الجبهة العريضة، جبهة أدب الشفاء للإنقاذ"، لأنك تخشى أن يتسلل إليها" من كان اليد اليمنى لنميري و الترابي/البشير، حتى منصور خالد الذي توعّد الجنوبيين" بالتعريب بالحسنى" في مقدمة كتابه، جنوب السودان في المخيلة العربية" فتوجسك مشروع، لكن التوجس المشروع من المثبّطين و الإنتهازيين و المتشائمين و المخبرين و الجواسيس، لا ينبغي له أن يدفع بنا للإنكفاء على حلفائنا الآيديولوجيين الخلـّص في خندق ضيق،فنحن لسنا بصدد تنظيم مؤامرة إنقلابية ، و إنما غرضنا بناء مشروع ديموقراطي لأهلنا بوسيلة الديموقراطية. والتوجس من العملاء و المخربين و الإنتهازيين إن منعنا من ركوب المخاطرة نحو المشروع الديموقراطي فمعنى ذلك أننا لسنا أهلا لمثل هذا الحلم الطوباوي الجليل . و الأمر في نهاية التحليل أمر صراع ( طبقي طبعا) و كل حسّاس يملا شبكتو ضمن شروط العمل العام وسط أهلنا الذين تزعم شركات الإحصاء ( سوفريس و غالوب)أنهم متدينين بنسبة 99 في المية في غرب أفريقيا، يالنبي نوح..يا الفاضل يا خوي ، إنت إقتصادي/ سياسي نجيض و عارف ناس شركات الإحصاء العالمية ديل شغالين مع منو و دينهم شنو و مصلحتهم وين، بالذات لمن يقعدوا يحسبوا لينا المتدينين في أفريقيا و عينهم على " حرب الحضارات" بتاعة مقطوع الطاري الخواجة هنتينغتون .زمان مولاتنا "سوزان فوغل"،( في مقدمة كتالوغ معرض " آفريكا إكسبلورز") ، و هي من أخبر خبراء الفنأفريقانية الأمريكية، تحسّرت على ثقافة الأفارقة لتعاظم تأثيرات المسيحية و الإسلام على الثقافة الإفريقية. طبعا الحاجة" سوزان فوغل" ما خطر ليها ابدا إنو المسيحية و الإسلام ديل ديانات أفريقية افرقتها لا تقل عن أي ديانة افريقية أخرى سابقة لظهور الإسلام و المسيحية في القارة الإفريقية.و كان نبشت شوية يمكن تلقى الماركسية ذاتها بقت ديانة إفريقية عند بعض اولاد المسلمين البواسل في السودان. و الأفارقة يا صديقي، في السودان أو في غيره ، أذكياء ، يعرفون مصلحتهم، و هم قمينون باختراع" سورة" للديموقراطية عند مقتضى الحال.فبالله عليك أعفيني من حكاية " لا عقلانية المتدينين". و بعدين يا صاح: القال ليك منو إنو أنحنا القاعدين نحلل و نتفاصح في تدين الأهالي الغبش، القال ليك منو إنو أنحنا فالتين من طائلة الدين؟و الله هسع كان قعدنا فلفلنا كلام المثقفين السودانيين القالوا "لادينيين" ديل نلقاهم كل واحد منهم صاري ليهو دين في طرف توبو و راقد عليهو. و زي ما قال مولانا ابن المقفع: " لا أبيت ليلتي على غير دين" ، و ترجمتها عند الأهالي: " العاقل ما ببيع سروالو".و للدين في خاطر اولاد المسلمين منافع غميسة و حكاية زولك الأنصاري الذي أبكته خطبة السيد عبد الرحمن المطلسمة دون أن يفهمها، حكاية بليغة تستحق اكثر من مجرد الضحك. فمتعة "كلام سيدي" بالنسبة لهذا الرجل الأمي ليست في تماسك المضامين الدينية للخطاب، وإنما هي في شكل الخطاب كتصاويت صادرة من فم هذا الشخص الذي يجسد مفهوم القداسة في خاطر الرعية.خطبة سيدي في مشهد هذا الأنصاري هي نوع من حدث مشهدي " هابيننغ" مكثـّف تتضافر على تخليقه جملة من المؤثرات المسرحية البصرية و الصوتية و المكانية.و ربما لو قام شخص من العامة بالقاء نفس خطبة السيد عبد الرحمن على هؤلاء الأنصار الأماجد لما بكى فيهم أحد.ذلك أن سحر كلام سيدي هو في حضور سيدي نفسه.و في فرنسا اليوم هناك الكثير من الكاثوليك الأصوليين ـ و غير الأصوليين ـ الذين يجهلون اللغة اللاتينية تماما ، يؤمون الكنيسة يوم الأحد لسماع القداس في اللغة اللاتينية.ذلك أنهم بستشعرون سحر القداسة في هذه اللغة التي لا يفهمونها أكثر مما يستشعرونه في لغتهم اليومية العادية.و الدين في هذا المشهد يستعيد منفعة السحر التي افرغتها الإصلاحات الدينية العقلانية من مضمونها البدائي.و الزعيم الروحي الذي يخاطب أعضاء الطائفة ليس مجرد إمام يرشد أهله وفق تعاليم الدين، إنه ايضا ساحر يمارس شيئا من صلاحيات الكجور، و لغته العربية الفصيحة إنما تدخل مسامع الرجال الأميين المشدوهين كتصاويت مُطلـْسَمَة شفرتها تفك في مقام السحر( الأفريقي؟) البدائي قبل أن تفك في مقام الشرع الإسلامي.ترى هل يمكن أن نفهم شعبية الإسلام بين أهل أفريقيا على أساس هذا النوع من الرباط غير المنظور بين إمام حل محل الكجور و رعية من الأهالي المتعطشين للغذاء السحري القديم؟ مندري، لكن الفرضية تستحق التأني.
.لكن طالما اولاد المسلمين شايلين معانا هم صيانة الديموقراطية في منطقة العمل العام الجبهوي فما عندنا مصلحة نزرزرهم في أمور دينهم إذا يوم هفـّت ليهم يمشوا يحجوا لبيت الله أو يتصوّفوا و يلبسوا سبح و جبب مرقعة( شوف بالله أناقة الجبة الخضرا بتاعة الشاب الموسيقي العمل القرص بتاع مصطفى السني.أهو دا الفن ذاتو) ،و خليهم يمشوا يحجّوا أو يعتمروا و يجونا راجعين عشان قضية الديموقراطية دي في السودان ما بتتمسك بيد واحدة . و مولانا محمد ابراهيم نقد عارف حزبه كويس لمن قال : مافي ملحدين في الحزب الشيوعي( شايف؟).طبعا اولاد المسلمين القاعدين يقروا في كلامنا دا ما يفتكروا إنهم فلتوا من الزرزرة في أمور دينهم عشان خاطر الهم الديموقراطي الشايلنو معانا، لا ، الزرزرة محمّداهم طالما هم موجودين يكتبوا و يتكلموا في فضاء العمل العام، لكن الزرزرة في الأمورالروحية ، أو في أمور علم الجمال،أو علم الحب ، ليس محلها فضاء العمل الجبهوي الذي غايته تحقيق الديموقراطية.ديل ناس " أعدقاء" أعزاء تقوم تختـّم ليهم بي ورا و تلقاهم ( في " جهنم " مثلا) بعيد من محل اللـّمات الديموقراطية ، و تقوم توريهم دينك و تطلـّع ليهم دينهم و تفلفلو ليهم لمن حمار الوادي يكورك.
نهايتو،
يا فاضل في كلامك:
"و لأن قوام أدب الشفاء هو قوام واحد لمسلمين عاربة كما فهمت من الخطاب الموجه إليهم/ن، من دون البقية الباقية في السودان، فانه استدعى له من خاطر القبلة " حلف فضول" جاهلي مكي من القرن الميلادي السادس، كرمز لمناصرة المظلومين و تقعيد التسامح ـ و كأن تاريخ دفع المظالم لم يتطور منذها"
شايفك مستغرب من إستدعائي " حلف الفضول" الجاهلي المكي " كرمز لمناصرة المظلومين و تقعيد التسامح ـ و كأن تاريخ دفع المظالم لم لم يتطوّر منذها" فكأنك تملّك عربان الحجاز تراث أسلافهم و تحظره على بقية بني الإنسان.يا خي حكاية " حلف الفضول " دي غنيمة حرب ناخدها من العربان إذا نفعت معانا و ننتفع بيها، و بكرة ناخد غيرها من الهنود أو من الإنويت، و ما في زول طالبنا قرش. و لا يعني هذا أن مشروع " أدب الشفاء" هو وقف إثني خاص بالعربسلاميين السودانيين. و إن تم حديثي( و كتابتي) بالعربية "قول يا لطيف"(؟)ـ و هي كما تعرف اللغة المشتركة بيننا في ذلك المنتدى ـ فهذه مشكلة تقنية و ليست " ورطة " كما جرت عبارتك. و يوما ما ،إذا تمكّنت من تجويد لغات أهل "بابل/ السودان" فسألقي عليهم تفاكيري في ألسنة شتـّى ، والزعل مرفوع..