الجمعة، ٢٩ كانون الأول ٢٠٠٦

الناس أذكياء














صحيفة" ثقافات إفريقية"
Africultures Oct.Dec.2005



ترجمة مقترحة لحوار مع الفنان حسن موسى نشر في ثقافات إفريقية الإلكترونية
Africultures.comأجرى الحوار
لوسي تويا وتيري وليام كوديدجي












LucieTouya et Thierry William Koudedji
ترجمه من الفرنسية إسمعيل طه



أنطلق في حياتي من مبدأ بسيط وهو أن الناس أذكياء


حسن موسى فنان سوداني متعدد المواهب فهو رسام, مصمم قرافيك ومعلم لكنه يعرف نفسه ببساطة كصانع صور. التقينا به في جنوب فرنسا حيث يقيم, وكان أن فتح لنا أبواب فنه وأفكاره. لقد تقدم للمعرض الجماعي الذي أقامهAfrica Remix تحت عنوان : فن قارة , بمركز بومبيدو في أغسطس الماضي, بعملين فنيين. و تعد هذه سانحة أن نكتشف عمل هذا الرجل الكريم والملتزم والذي لا يدعنا دون أن يثير تساؤلات



.
لقد نشأت في مدينة بغرب السودان وتعيش في فرنسا منذ سنوات عديدة وتمارس فيها الإبداع (الرسم))والتعليم، كيف



تتعايش كفنان وكفرد مع الثقافتين؟
لا أقول بأنني أحمل ثقافتين, لدي ثقافة واحدة لكنها معقدة التركيب, وهي التي أتقاسمها مع العالم, إنها تتعلق بثقافة السوق, ثقافة المجتمع الاستهلاكي الذي بنى معالمه حسب منطق سوق الرأسمالية العالمية. إضافة لبعض العناصر وافدة من ثقافات البحر المتوسط, من التقاليد المسيحية الخ من ما يسمى بالغرب. أما الكليشيه المعتاد في العبارة اليومية المبتذلة التي تقول بأنني أحمل من جانب ثقافة عربية إسلامية شرقية أو إفريقية ومن جانب أخر أحمل ثقافة غربية, فإنها تعد في ظني انحرافا واضطراب في الرؤى أن نفكر في مفهوم الثقافة بهذه الطريقة. لانه ليست هناك غير ثقافة واحدة سيطرت وافترست الثقافات الأخرى, لكنها بالغة التعقيد وذات تشابك عظيم. فعندما آخذ إحدى الدوائر جانبا, كالمرجعية العربية الشرقية أو الإفريقية, فاجد نفسي دائما في داخل منظومة ثقافية هضمت وعضونت ثقافات أخرى في داخلها. إنني اعتبر نفسي انتمي بصورة نهائية إلى هذا العالم. ليست هناك عوالم وثقافات أخرى فكلنا شركاء داخل هذه الدائرة الثقافية, لكن يجب علينا مبدئيا أن نعي مدى تعقد وتشابك ثقافتنا. هذا هو ما أحاول أن اشتغل عليه في أعمالي



الفنية.
انك تلامس عدة مجالات من خلال أعمالك الفنية وفي نفس الوقت تعرف نفسك كصانع صور ما هو مشوارك الفني؟




كنت مبهورا بالصور منذ طفولتي. وتطبعت أولا بأول,بتقاليد فن الرسم الأوربي, لأن تلك الصور كانت مثار فضولي. كنت أراها في الكتب المدرسية, في المجلات, في الإصدارات, على البطاقات البريدية وعلي كل منتجات فن الرسم والتشكيل. وهكذا أردت أن أصنع ذات يوم مثل تلك الصور التي كانت تكشف لي عن عالم عجيب. فيما بعد في كلية الفنون بالخرطوم تعلمت تقنية صناعة الصور و حاولت تملّك تصاوير تقليد
الفن الأوربي. اليوم, وكصانع صور أو عندما أتحدث عن هذا المجال فإنني أجد نفسي في داخل تاريخ الفن الأوربي. اشعر بنفسي وريثا له,ولو أنني اشعر في نفس الوقت بأنني وريث تواريخ أخرى ربما يجهلها من هم في جيلي من الأوربيين. اعمل كشخص يمتلك عدة أدراج, فهناك درج الخط العربي, درج الرسم الأوربي ودرج الرسم بالمائيات الصينية وهكذا . إنني أحيا بكل هذه العناصر المركبة. وهي تمدني بعلبة أدوات تسمح لي بعمل ما أحب من صور.

إذن, كأنك تقوم بمد جسور بين بقاع مختلفة في شخصيتك, وبالتالي هل تعد أعمالك من الصور التي ترافق كتاب الأحاجي الموجه لجمهور الأطفال, هل تعدها وسيلة عبور لطفولتك؟




الصور التي تتحدث عنها توجد في كتب الأحاجي التي صممتها, إنها تعتبر بصورة رسمية كتبا للأطفال لكنها موجهة أصلا للكبار واعتبرها كتب للصور أساسا, فأنا لا أعدها كنوع من الكتب التوضيحية. إنها قبل كل شيء تضم صورا احبها. غالبا ما نتحدث عن كتب موجهة للأطفال لكن الكبار هم الذين يختارون في نهاية الأمر, هذه الكتب تتوجه إليهم في الغالب وكأنها تقول لهم, هذه مادة طيبة لأطفالكم. لكن إذا تجاوزنا نظرة الكبار, فان أطفال اليوم يملكون قدرة بصرية معقدة ومتطورة جدا. فمثلا, الطفل الذي في سن العاشرة ، لكي يلعب لعبته الإلكترونية، عليه ان يتمكن من إدارة ثلاثة بؤر صورية للحركة البصرية على شاشة اللعبة الإلكترونية, فهكذا نجد انه عليه أن يراقب و يعمل على ثلاثة محاور في نفس الوقت, إضافة لذلك يلزمه أن يدير اللعبة بأصابعه. إنها تجربة بصرية معقدة تتجاوز قدرات الكثيرين من الكبار. فعندما أتوجه للأطفال بكتبي وصوري, فإنني اعي جيدا بأنني أمام جمهور ذي أهلية بصرية عالية. ولهذا السبب أعتقد أن نظرة الأطفال النافذة القائمة على خبرة بصرية مركبة ستقلب موازيين وطرق صناعة الصور في السنوات القادمه. و في المستقبل القريب سوف تكون هنالك صور عديدة التي لن يتسنّى لها أن تجد قبولا في عالم كتب الأطفال



.
بمناسبة معرض افريكا ريمكس. قمت بتقديم عملين هما" أدوات للعباد"ة و" العارية الأمريكية الكبيرة", قماشة الرسم عبارة عن مجموعة من الأنسجة التي ضبطت وخيطت مع بعضها البعض لماذا هذا الخيار ؟




العمل على القماش الكطبوع يعد إحدى وسائلي التقنية التي أستعملها..وجدت نفسي يوما ما أمام إشكالية الخلفية أو الصفحة العذراء. لأن الخلفية البيضاء (العذراء) ليست خالية لكنها بيضاء بمعنى أنها مؤثـّثة بقيمة البياض. وعندما أبدأ الضرب بالريشة على جسد اللوحة البيضاء يجب على أن أتعامل مع هذا البياض. هذه العملية قادتني إلى التساؤل عن البداية الفعلية للصورة. فهي تبدأ أولاً في الرأس ثم تنعكس على المسند المادي. ونفس السؤال نجده قائماً فيما يخص نهاية اللوحة, ولأن أمر البداية والنهاية يعد مسألة من صميم الأفكار الدينية, التي تسمح للناس أن يبنوا عالماً بين الاثنين بتحديد يوم الخلق و يوم القيامة. أعتقد أن اللوحة توجد في مكان ما داخل علب رؤوسنا ، وفي لحظة ما نجد لها خلفية مناسبة لتمثيلها ومن ثم نتقاسمها مع نظرة الآخرين. ولا يعني والحالة هذه أن اللوحة قد وصلت نهايتها حالما سجلت ووضعت على الخلفية، إننا نراها باستمرار في داخل عقولنا، وينبغي العمل عليها وتحسينها بصورة دائمة. ولكي أواجه مسألة البداية على مستوى اللوحة ، بدأت العمل أولاً على مساند من ورق الحيطان. إنها خلفية تحمل آثار خطابها التشكيلي البصري وكذلك عناصرها الرمزيةالخاصة بها. ولها تاريخها الخاص لترويه وتدعى على أساسه بأنها منجزه. و أنا أباشر عليها عملي كشخص يلعب مع الشخص الذي بنى هذا الخطاب البصري على خلفية الورقة، و أبحث عن منفذ من خلاله يتسنّى لي أن انزلق إلى داخلها وأتملكها لأبنى فيها عالمي أنا، حتى أشعر بأنني أهيمن كل عناصرها المكونة.وهكذا وجدت نفسي منتبها لنوعية المسند المادي للصورة (جسد اللوحة). في وقت ما أخذت ملاءات قديمة مطبوعة، محاولاً إدخال طريقتي في تشكيل الصورة. ولذلك أرى لوحاتي.كتكملة لما هو موجود. لأن وجودي في العالم ما هو إلا تكملة لما هو موجود من قبل. في ظني هنالك الكثيرين من الفنانين الذين يتصرفون وفق هذه الطريقة. بعض الرسامين يفعلونه بوعي والبعض الآخر دون وعي. النسيج ،نسيج المسند، أي نسيج يعتبر عنصراً موجوداً وله وظيفة بطبيعته، كأنسجة تسجيل الأحداثً ذات الطبيعة الرمزية والتقنية ، أنه أي النسيج يفتح لي مجال لاستطلاع جمالي غير متوقع العواقب وهكذا عندما أجد نسيجاً مطبوعاً عليه وحدات زهر عباد الشمس فهو يقودني إلى فان جوخ Van Gogh.بنفس الطريقة التي يقودني بها نسيج مطبوع بتصاوير الموز إلى جوزفين بيكر. إنها مسألة" حتمية بصرية" ولا أستطيع أن أتخطاها. فيما يخص لوحة (أدوات عبادة) ففي اليوم الذي وجدت فيه القماش منقوشاً بعناصر تعود إلى القرن التاسع عشر, بدأ لي في أول وهلة كعالم مميز يشبه عالم الأشياء المتحفية. في ذلك الزمان ، كنت مشغولاً بصورة "سارة بارتمان "، تلك الفتاة الأفريقية التي يسمونها La Venus Hottentot . " فينوس الهوتنتوت". ولقد أثار فضولي ما تمثله في المخيلة الأوروبية . هذه الفتاة الأفريقية التي جلبت إلى أوربا في القرن التاسع عشر لكي تعرض كحيوان ، أو كشيء في معرض ، وكان الناس يتوافدون لمشاهدتها كأنهم في حلبة سيرك. لقد مثلت بها الشخصية الأفريقية ، وبعد موتها، تم الإستيلاء على جثتها باسم العلم و حنّط جسدها في فرنسا و حفظوا فرجها و مخها في علب زجاجية ظلّت معروضة في متحف الانسان (ميوزي دو لوم) إلى وقت قريب.إنها تشكل أيقونة لسوء الفهم الأوروبي الافريقي العظيم المعاصر و الذي لم يعترف به أحد بعد الصورة التي استعملتها هنا تتمثل في نموذج جبس سائل مـُقـَوْلَـبْ فوق جسدها. فالذين صمموا هذه الصورة وقدموها بهذه الطريقة أرادوا أن يعرضوها كما كانت، أي كل بطنها وأعضائها التناسلية بدعوى إظهار حقيقة ذلك الجسد. الأفريقي حينما رأيتها أول مرة وجدتها صورة مشبعة بالعنف والشراسة البالغة. فأردت أن أعرض هذا التمثّل وأدخلت في لوحتي جسد بارتمان كعنصر متحفي معرض للنظر لأنها كانت هكذا في حياتها كلها معروضة حتى بعد موتها داخل علب في إحد أكبرالمتاحف الباريسية. أدخلتها ضمن عناصر أخرى متحفية مطبوعة على القماش. ثم أدخلت بعد ذلك شكل حارس ملائكي وقررت أن كون أنا هذا الحارس كنت أهم حينذاك بأن أحيطها بأكبر قدر من الحراس.و بدا لي كل هذا التدبير كوسيلة لرد الاعتبار لهذه السيدة. في منطق التواصل،يتعلق الأمر بالنسبه لي في إعادة الصور للعالم, أن نعيد العالم صوره. فهي ، أي الصور، لها خصائص الضربات واللكمات. إننا نأخذ ونعطي اللكمات كذلك نقوم بإرسال وتوصيل العنف لأننا نستقبلها بذات الطريقة, كما يحدث هذا في حالات أخرى. كنت مؤخراً في لندن بصحبة بعض الأفارقة المتعلمين وكانوا يتساءلون إذا ما كان ممكنا للفن أن يغير العالم. أنا لست راغباً في تغيير العالم وإلى ماذا نغيره ؟ كلنا يعرف النتائج المترتبة على ما فعله الذين أرادوا تغيير العالم. لا أريد أن أغير العالم لكني لا أريد من العالم أن يغيرني . جورج بوش و كونداليزا رايس يريدون أن يغيروا العالم و يرسلوا الجنود لإقامة الديمقراطية وتغيير المجتمع ولكن مقابل ماذا ؟ ما هو الثمن ؟ وعوداً للبدء، أقول عندما يرسل العالم لي صوراً .متعفنة وعنيفة, أقوم أنا بدوري بإرسال نفس الصور إليه. و رد الصور طريقة في المقاومة ، إنها نوع من خط دفاع بالنسبة لي



.
تركيبة لوحة (أدوات عبادة) في شكل صليب تستدعي موضوع الصلب في اللوحات الكنسية و نجد فيها موضوع النحت الجنائزي النصبيي



.
أعلن هنا انتمائي الكامل لفناني عصر النهضة،و تقليد القرنين السادس عشر والسابع عشر ، و صوري تتشكّل فوق هذه المرجعيات بطريقة مقصودة. إنني أعلن عن قرابتي الفنية مع فناني عصر النهضة ، القرنين السادس والسابع عشر. أن لوحاتي تقوم على تلك المرجعية وبشكل مقصود. في هذا الإرث آخذ هذه التصاوير التي هي اليوم مجرد تصاوير متحفية .... ، إنها لوحات ميته أصبحت أشياء لدراسة تاريخ الفنون أشياء للعبادة إذا جاز التعبير لكنني عندما أستعيرها في مواضيعي فإنني أعرّضها لمعاملة جديدة فلنقل بأنني أبعثها من جديد وانشط فيها تلك الطاقة المهدودة لكي تصبح محفزاً للتفكير في أعمالي. نعم فالمسألة كما لو كنت أدخل إلي مشرحة موتي و أستخلص الجثث ثم أبعث فيها الحياة من جديد ، فإذا نجحت في أن أعيد احياء جثث اللوحات العظيمة التي وسّمت تاريخناً فياله من تشريف هائل. أعتقد أن تأثير الصور على الناس بشكل عام هو تأثير قوى بشرط أن يظل المعنى المراد إعطائه من خلق الصورة فعالاً. ويطرح هذا الواقع معضلة كبيرة ، لأن الصورة في النهاية ما هي إلا كمثل زجاجة في البحر. أنا أكتب خطاباً وأودعها الزجاجة التي تم رميها في البحر ، قد يصل الخطاب إلى أحد لا يستطيع أن يقرأ كتابتي أو الى أحد يستطيع أن يقرأني ولكنه لايفهم ما أقوله له من خلال الخطاب ، دائماً ما أكتب العنوان عنوان اللوحة بالخط العريض ، و بهذه الطريقة لا أظن إننا سنخطىء في فهم موضوع الصورة حينذاك. لكن كوني أخذت في الاعتبار كل شيء ، فذلك لا يعني أن الناس يمكن أن يفهموا معنى صورتي. بطريقة ما ، أو في لحظة ما تعتبر عملية ابراز النص ا الذي يؤطر العمل شيئاً محبطاً بالنسبة لمنطق الصورة، ولكنها يمكن لها أن تنجح أحياناً وإذا نجح لقاء العنوان المكتوب و الصورة المرسومة فذلك مصدر رضاء كبير لي



.
هل تتحدث لوحة أدوات للعبادة عن مسألة تقديس الفن المعاصر ؟




أعتقد أن الفن أصبح اليوم أداة للعبادة . فمثلاً إذا سألنا الناس في داخل مسرح أو متحف :هل بينهم من يؤمن بإله ؟ فيمكن أن يكون جواب الأغلبية بالنفي. لكننا إذا سألناهم (هل تؤمنون بالفن ؟) فالناس سيجيبون بالإيجاب .لأن الفن أصبح شىء من قبيل الاعتقادات الدينية . فالمواد الفنية أصبحت أدوات عبادة دينية ينتجها الفنانين. إنهم أصبحوا وكأنهم أنبياء مندمجين في النظام الحالي بمعنى أنهم أصبحوا تحت سيطرة السلطة, سلطة مدراء المتاحف وسوق الفن, و سلطة النقاد ومؤرخي تاريخ الفن.
لكن هناك اعتقاد بقدسية عالم الفن وهو في ظني آخر المقدسات. فالفن يبدو أنه يحتل المساحة الشاغرة بين عالم ديني قديم ومندثر وعالم ديني على قيد الظهور. إن اهتمام السلطات السياسية والاقتصادية بالفن وصرف مبالغ طائلة في هذا المجال يكشف عن القوة التي يتمتع بها الفن . أعتقد أنها مسألة ذات صلة بعقيدة مركزية في ديانة توحيد السوق. و هي عقيدة الملكية الخاصة لممتلكات عالمنا. الفن مفهوم قدسي يبرر عمل الفنان كملكية خاصة, بينما العمل الفني خلق أصلاً للعام لأنه ليس هناك سبب بأن يكون خارج إطار الصالح العام من جمهور المستفيدين الذين في داخلهم يتطور الفنان. إننا نتحدث عن الفنان كما لو كان نبيا, لكن الأنبياء ليس لهم حقوق الملكية التي يحددها السوق لصالح الملاك القانونين إن الجانب المقدس من الفن هو الذي يبررملكية الفنان لحقوق الوحي والإلهام. إنها فكرة عجيبة واعتقد إنها من صميم مجتمعنا المعاصر.فصاحب العمل يحسب نفسه مالكا لعماله, لأدواته ولكل ما يمكن أن يكون مصدر طاقة في مجال ملكيته. اليوم, لقد تم تضييق الحوار الذي يدور حول المسوغ القانوني و الأخلاقي لملكية براءة اختراع الأنسجة الحيوية، تم تضييقه و حصره بين كل من ممثلي شركات الصحة الصناعية والمؤسسات الدينية. ولا يعد هذا الحوار حوارا ذا مخاطر، بالنسبة لديانة السوق، إذا بقي في حدود المباديء الاخلاقية للثقافة الأوروبية أو حتى عند حدود الكاثوليكية. لكننا يمكن أن نفهم أهمية المشكلة عندما ننظر أليها على ضوء الأزمة التي نشبت بين الدول الفقيرة والشركات الصناعية العاملة في مجال الصحة حول أمصال مرض نقص المناعة المكتسبة الأيدز. ربما هنا تكمن الصلة بين الحياة, السوق وعالم الفن المقدس. هنالك علاقة بين هذين العالمين, لا ادري نوعيتها لكنني أعتقد أنها في حالة تشكل وينبغي أن نتأملها عن قرب.
ماذا يعني وجه بن لادن في لوحة العارية الأمريكية العظيمة؟




تعد هذه اللوحة اختصارا من وجهة نظر علم تاريخ الفن, فهي سمحت لي بإيجاد حلقة ربط بين إحدى لوحات الرسام الفرنسي" بوشي" و هي صورة كانت فضيحة في زمانها. وأعمال فنان البوب آرت" وسلمان" الذي قام بإنجاز سلسلة من اللوحات المسماة Great American Nude إضافة لهذا هناك حالة عالمنا المعاصر الذي أصبح فيه بن لادن كأيقونة رمزا محوريا من رموز المشهد السياسي و الإعلامي. لقد قمت هكذا بإيجاد وصلة ربط بين عالم اليوم وعالم تاريخ الفنون وبالتالي فهي ،أي اللوحة تعد عملاً على أيقونات متعددة ومعاصرة تحديداً. إنني أطرح سؤالاً هنا من أين خرج بن لادن ؟ إنه في الواقع فضيحة أمريكية. إنهم هم الذين شكلوه مثل فرانكنشتاين. لقد قاموا بتسليحه لكي يحارب الذئب الشرير في تلك الحقبة. حدث أنه كسب الحرب ثم انقلب ضد مشكليه وصناعه ما كان يهمني في الأمر هو أن بن لادن وجه أمريكي . إنه يخرج من المنطق الأمريكي في إدارة العالم لقد بنيت العمل في هذا الاتجاه. هنالك العلم الأمريكي كأيقونة من أيقونات عصرنا. إنها أيقونة عجيبة في حياتي. أتذكر حتى الآن المظاهرات الأولى التي سرت فيها و أنا طفل في السودان.و التي كانت ذات صلة بالولايات المتحدة, عمري آنذاك العاشرة أو الحادية عشر. كانت هناك مظاهرة إثر زيارة قام بها نيكسون أو شيئ من هذا القبيل. لم أكن أفهم شيئاً حينذاك وسط أولئك لطلبة الذين كانوا يهدرون غضباً Down down U.S.A فيما بعد عرفت بأنهم كانوا يقولون: تسقط تسقط أمريكا. في لحظة ما قاموا بحرق علم أمريكي, مرسوم على قماش بطريقة تنقصها المهارة، أمام البعثة الأمريكية. فهمت بأن العلم كان عنصراً من صميم المظاهرة. كما لو أنه يجسد أيقونة الشر. فيما بعد اشتركت في مظاهرات حرقت فيها العلم الأمريكي أبان فترة الحرب في فيتنام أو أبان أزمة الشرق الأوسط. يمثل العلم الأمريكي أيقونة ذات جبروت لا مثيل له. فيما بعد اكتشفت " جاسبر جونز" وفنانين آخرين عملوا على العلم الأمريكي.إنه أيقونة مفتاحية. كل هذه العناصر عبارة عن صور توجد معاً تتقاطع وتلتقي مع بعضها بطريقة تلقائية. إنها تتجاذب مع بعضها البعض كالمغنطيس لتشكل لوجه جديد. أعمل على أقمشة مرتقة ومخيطة أحياناً بطريقة سيئة لأنني لا أجيد الخياطة بالماكينة أو بالأحرى أحاول أن أخيط بطريقة سيئة حتى أتحايل على التقنية. إنها في نهاية الأمر تتعلق بحرفة يدوية. إنها تحايل لكي أتستطيع أن أخلق صورة تشبهني. أعرض الأشياء التي أجيد صنعتها جنبا إلى جنب مع الأشياء التي لا أجيد صنعتها, لأن عملي في النهاية هو كل هذه الأشياء معا




. إضافة إلى ممارسة تقنية الرسم, نجدك تمارس الكتابة النقدية في بعض المجلات, وتلقي محاضرات كيف فرض هذا المنهج نفسه عندك؟




إنها الإرادة في التصحيح لأننا قد نعبر عن أنفسنا بشيء وأحيانا يفهم الناس شيئا أخرا. انتقد ما يحدث لي كما انتقد نظرة الناس إلى. يمكن أن أقول أنني أصبحت ناقدا مجبرا. أقوم بإنتاج كلمات لأؤطر بها صوري, أو لتصحيح حديث يخصني, أو للتفاعل ضد أوضاع تحتم تدخلي فيها



.
لوحاتك الفنية تعج بوجوه أسطورية كالقديس سباستيان, الذي يفتح مجالات للتأويل
والمعاني الفنية والسياسية كيف تستعين بهذه المرجعيات؟




يعد القديس سباستيان أحد معالم كتاب الإنجيل, وجه إنجيلي, ويأتي اهتمامي بالإنجيل لسبب كونه كتاب المنتصرين. لقد احتلت الحداثة الرأسمالية مكانها في العالم كله, على نمط المجتمع الأوروبي المسيحي, عن طريق الإنجيل والمبشرين. قد يرتاد الناس الكنائس قليلا لكننا نجد مبادئ المسيحية ذائبة في الفضاء الثقافي السائد , فأيا كانت أصولنا, بوذيين, مسلمين أو يهود فنحن منصّرين بطريقة أو بأخرى. والانجيل بعد ذلك يعتبر ميراث إنساني أو (غنيمة حرب ) كما يقول كاتب ياسين. على عهد دراستي تاريخ الفن بكلية الفنون, انتهيت إلى حقيقة إنني لن أفهم نصف تاريخ فن الرسم الأوروبي دون قراءة الإنجيل. انه فن قام في خدمة المؤسسات الدينية, فالقديس سباستيان, القديس جورج, مريم العذراء والمسيح يشكلون جزاء من تجربتي التشكيلية. أنا أنتفع بالقديس سباستيان نموذجا لأنه يشكل بالنسبة لي مسندا لا مثيل له في خلق لوحات مركّبة تتناسب مع الرسالة التي أريد إيصالها. فالقديس سباستيان هو ذلك الرجل الذي يقرر الذهاب إلى الموت بقدميه, لأنه ان لم يذهب نحو الموت فلن تكن الحياة ذات معنى بالنسبة له. الحياة مليئة بمثل هذه الوجوه التي تذكرنا بسان سباستيان, فلذلك قمت برسم سباستيان بوجه فان جوخ أو بوجه شي غيفارا. في وسع الناس العاديين أن يصبحوا مثل القديس سباستيان. أتناول بنفس الطريقة القديس جورج وهو يقتل في التنين. انه شيق, لانه من الوجوه النصرانية القليلة التي تعمل بهذا العنف. وسيذهب القديس جورج المعاصر ليقتل التنين ويدمر متحف بغداد, كما يفعل كثير من القديسين الجورجيين الذين يدمرون في أماكن كثيرة بفضل خراقة قوتهم. هذه هي الأشياء. المتناقضة التي تتداخل في حيواتنا و أعالجها من خلال هذه الشخصيات الاناجيلية.

عندما نتأمل لوحة القديس جورج, فانه يذكرنابـ " البراق" مطية النبي محمد إلى السماء في ليلة الإسراء والمعراج)؟




عندما أختار الشخوص, فأنا أختارها حسب الجمهور الذي أتوجه إليه بالخطاب, لأنني أعرف ما ستثيره من ردود أفعال. أنا أعيش في فرنسا منذ عشرين عاما, ربما لو كنت في السودان, لاستعملت وجوه غير الوجوه المسيحية. فخيل" البراق" كائن عجيب غرائبي يحمل النبي إلى السماء مارا بالقدس, إنه يعمل بفاعلية في داخل المجتمع الإسلامي. لكنه يفقد فاعليته هنا. كان في استطاعتي أن ابني صورة كتلك, لكنها ستشاهد هنا كصورة دخيلة وغريبة اكزوتية. وأنا لا تهمني هذه. الإكزوتية



.
تعطي لوحاتك انطباعا بأنها تنطلق من حركتين, فمن جهة هناك حركة استوعبت تاريخ الفن الغربي, و حركة مقاومة نابعة من هذا العالم التوفيقي, من جهة أخرى. ماذا هناك من فعل للمقاومة في أعمالك؟




المقاومة مسألة مركزية في حياتي , ليس وحسب في أعمالي الفنية, إننا نحاول أن نقاوم, نحاول أن نجتاز الحواجز, لكن أحيانا قد لا يكون هنالك خيار, فنتخلى. اصعب الأشياء هو أن تفكر في خط التراجع, حينما يكون الأمر غير محتمل. أتذكر قصة حدثت معي قبل عشر سنوات, أثناء درس في الرقص المسمى في فرنسا بـ " رقص الجاز" .كنت الأفريقي الوحيد في الدرس. في لحظة ما, كان على المجموعة أن تقوم بحركة معينة ونحن نرقص. كنت من ضمن الذين نجحوا في أداء حركة الرقص. أخذتني المعلمة نموذجا وقالت لبقية التلاميذ ( انظروا إلى حسن, فبما انه إفريقي فقد قام بأداء الرقصة بطريقة تلقائية) .
لم أتجرأ حينذاك, لأقول لها بأنني قادم من بقعة في إفريقيا يعد فيها رقص الرجال عيبا. نرقص حينما نكون صغارا, لكن الأمر يصبح فيما بعد شأنا للفتيات والنساء, لكنني لم أتجرأ لأنني كنت محفوفا بنظرات الإعجاب التي كانت تطوقني, كأنهم ينظرون إلى الإفريقي الذي يجري الرقص في عروقه مع الدم. فلا يحتاج إلى بذل جهد للتعلم, بينما كنت أجتهد وأتعب في أداء هذه الرقصة. لقد بذلت جهدا كبيرا لتعلم هذه الحركات لكن لم يكن سهلا كذلك أن أشرح هذا لهؤلاء الناس الذين كانوا ينظرون نحوي باعجاب. وهنا, إذن, يأتي فعل التراجع, لقد قبلت بهذه الهالة التي حولي هالة الراقص الإفريقي بينما كانت المسالة ضد طريقتي وكينونتي في الحياة. لكننا نستطيع أن نقاوم, فكما أشرت سابقا, لا أريد أن أغير العالم و في الوقت نفسه, لا أريد من العالم أن يغيرني وهنا المعضلة. فمسألة استمراري في الرسم, بالرغم من وجود حواجز وأشياء معطلة, اعتبرها فعل مقاومة . فالرسم يفقد أولويته أحيانا أمام شروط البقاء. فنحن منقادين بأشياء أخرى كثيرة



.
. انك تقاوم مفهوم الفنان الأفريقي الذي يعرفك في إطاره الذين يحترفون العمل في مجال الفن المعاصر؟ في المقابل تتحدث عن" الفنافريقانية" ماذا تعني بذلك؟




الفنافريقانية مفهوم ديناميكي ابتكرته مؤسسات تجهل الواقع الاجتماعي للأفارقة. انه الفن الذي يفترض الأوروبيون أن الأفارقة ينتجونه . و يتم التفكير فيه هنا في أوربا للأفارقة. وهذا الفن الذي يعرض, أثناء التظاهرات الفنية الاوروبية التي تدور حول الثقافة الإفريقية, و التي تتوجه أساسا لجمهور أوربي. فكل شيء يتم صنعه هنا, الرعاة أوروبيون و الفنانون يعيشون في أوربا في أغلب الأحيان, وإذا كان بعضهم في إفريقيا, فان نظرتهم دائما ما تكون تجاه أوربا الخ. وعليه, يمكن القول بان مصطلح الفن الأفريقي هو جزء من هذه الآلة الاقصائية والتي تعي بأن الأفارقة المولودين في إفريقيا يعدون جزءا من مشهد الفن المعاصر لكنها لا تقبلهم داخله حتى وان كانوا عباقرة, وبالتالي يتم وضعهم في داخل منظومة الفن الغير الأوربي. إن الفنافريقانية ابتكار له عدة وظائف, لكنه لا علاقة له به بفن وواقع القارة الإفريقية, ويمكن أن ننتمي لهذه المنظومة أو لا لكنني أشير هنا إلى النتائج. وأعتقد انه وفي أغلب الأحيان يكون نتاج بعض مفاهيم الجيوسياسية الأوروافريقية. فالأفارقة لا يملكون المال اللازم للقيام بمثل هذه التظاهرات وبالتالي غالبا ما يأتي الدعم المالي من قبل الأوربيين أو الأمريكان, من خلال شركات ومصانع لها مصالح استراتيجية في إفريقيا



.
حسنا ما هو رأيك تجاه ممول معرض افريكا ريمكس القائم في مركز بومبيدو, وهو ليس سوى شركة توتال؟




لابد من وجود أمير راعي للفن, إنها فكرة من صميم التقاليد الأوربية. في عصر النهضة كان هنالك أمراء وملوك, فيما بعد في فترة الجمهورية الفرنسية هنالك رؤساء. اليوم, وفي عصر العولمة لقد تم إحلال دور الأمير بالشركات الضخمة التي تدير كل شيء. ففي هذا الاتجاه, يمكن لشركات مثل توتال, مايكروسوفت وموبيل أن تنشط من أجل الفن, وحري بها أن تقوم بهذا النشاط بصورة علنية. فيمكننا أن نعرف حينذاك أين مكاننا بالضبط, بدلا من أن يتستروا خلف قناع منظمات المساعدات الإنسانية. وبالتأكيد هنالك أسئلة كثيرة يمكن أن تثار ما دمنا نتحدث بهذه الطريقة. فمثلا, لماذا تهتم هذه الشركة بالفن الأفريقي؟ وبأي نوع من الفن الأفريقي؟ هل هنالك سلطة فكرية داخل هذه الشركة تقرر في مصير الفنانين؟ وبأي منهجية؟ هذه نماذج أسئلة مشروعة. ومن ثم أسأل نفسي هل لدي مصلحة كفنان أن أنتمي لمشروع كهذا؟ وإذا لم أنتمي ما هي النتائج المترتبة على ذلك؟ إنها أسئلة يجب أن يثيرها الجميع, الفنانون ومناصرو الفن. وفي الختام ما هي النتائج المترتبة, على المدى البعيد من عمل هذا النوع من الممولين المناصرين للفن؟

لكن وبالرغم من ذلك فأنت تقوم بالاشتراك في هذه التظاهرات, كيف تفسر هذا الالتزام؟




أعتقد أن الجميع في فضاء الفن الافريقي يعرفون كيف أفكر, و قد ينظرون إلى,أحيانا, كشخص مزعج, فكلما كان هنالك تجمعا للفنانين الأفارقة, فإنني أجاهر برأي في أن الفن الإفريقي ليس سوى أكذوبة كبيرة. لكنني في نفس الوقت أجد نفسي معهم, لأنني لا أملك مكانا أخرا. انه المكان الوحيد الذي يسمح بعرض ما أقوم به من عمل. لكن حتى إذا توفرت لي منابر أخرى أعرض فيها أعمالي, فإنني سأستمر في ارتياد هذا المنبر لأنه لا يشكل مجالا للفن وحسب انه أيضا مجال لممارسة العمل السياسي. وكل الذين يعملون في هذا المجال, سواء اللجان المنظمة للمعارض و مناصري الفنانين, على درجة من الوعي بالبعد السياسي لهذه التظاهرات. لكن هنالك كثير من الأفارقة الذين لا يعون مسألة تداخل السياسة مع الفن. وفي هذا الاتجاه, أعتقد انه يمثل مجالا سياسيا ثمينا لأننا حينما نفهم وظيفتها يمكننا حينئذ أن نغير مجرى وأهداف التظاهرة كلية. لا ينبغي أن نترك المجال كلية لسيطرة اللجان المنظمة لهذه التظاهرات



.
ألا تعتقد بأن خطابك هذا يصب في خدمة مناصري فن ومؤسسات الفنأفريقانية بإعطائهم وزنا وعمقا اكبر؟




كلا, إنني أنطلق من مبدأ بسيط وهو : الناس أذكياء ! فإذا أخذنا معرضا كبيرا يزوره حوالي 60 ألف متفرج في الأسبوع, فسنجد عددا من المشاهدين يتمتعون بدرجة من الحساسية لكي يفهموا الخطاب المزدوج المبثوث وينتقون منه ما يصلح. في اعتقادي أن الناس أذكياء بما فيه الكفاية لكي يعيشوا ويتأقلموا مع عالم يتطور بسرعة مذهلة, فقبل ثلاثين عاما لم يكن هنالك أحدا يتصور بانهيار الاتحاد السوفيتي وحائط برلين وأن ينتهي نظام التمييز العنصري في جنوب إفريقيا. واعتقد أننا سنضحك بعد بضعة سنوات لفكرة أن يضعوا الفنانين السود معا تحت مسمى ( انتم الفنانون الأفارقة)فعندما نعيد التفكير اليوم في ما حدث قبل قرن حينما تم جلب الأفارقة لكي يعرضوا في حديقة حيوانات ، ويأتي الناس لمشاهدتهم هنا في باريس, فبنفس الطريقة, تعتبر افريكا ريمكس وافريكا 05 وكل التظاهرات التي تتم باسم الفن الإفريقي حدائق حيوانات الحاضر. فربما سيأتي اليوم الذي سيقول فيه الناس, بعد ثلاثين أو خمسين عاما: كيف سمحوا بتنظيم شيئ من هذا القبيل؟

الخميس، ٢٨ كانون الأول ٢٠٠٦

من إخترع الأفارقة؟8

من اخترع الافارقة
الحلقة الثامنة
و من اخترع السودانيين؟

غاية الآلة الأفريقانية هي تشكيل نوع من الافارقة يشبهون الصورة المزيفة للأفريقي التي تخلّقت في الخاطر العرقي الأوروبي، ثم تسويغ التباسات هذه الصورة بالصورة الواقعية حتى يخلص الافارقة، قبل غيرهم،الى قبول صورتهم المزيفة الممسوخة و تبنيها وانكارغيرها.و اذا كان سدنة الفنأفريقانية الاوروبية يخوضون حرب التصاوير الافريقانية بمثل هذه الضراوة المكلّفة فما ذلك الا ليقينهم من أن انتصارهم في هذه الحرب العجيبة انما يعني الهيمنة على رأس المال الرمزي لأهل أفريقيابشكل حاسم.و هي غنيمة ثقافية مردودها الاقتصادي و السياسي لا يقدّر بثمن.و اذا كان رواد الصنعة الفنأفريقانية في البداية يقتصرون علىبعض بلدان غرب أوروبا المهمة كفرنسا و بريطانيا، فان الثقل الجيوسياسي للصنعة الفنأفريقانية أصبح يحفّز الكثيرمن الاوروبيين اليوم على تنظيم المبادرات الفنأفريقانية كما في مثال ألمانيا و اسبانيا و ايطاليا و البرتغال...و بين الدول الآسيوية المهمة يبدي اليابانيون اليوم اهتماما أكيدا بالفنأفريقانية.و لا أحد يعرف بعد الشكل الذي ستتخذه الآلة الفنأفريقانية الصينية غدا. و في النهاية لا أحد يعرف كيف يستعد الافارقة لاستقبال هؤلاء و أولئك، هذا ان كانوا يستعدون فعلا.
هذه السطور لا تكفي للاحاطة بمجمل التشعب و التركيب اللاحق بالآلة البديعة التي ينتفع بها الأوروبيون في فبركة صورة أفريقيا على مقاسهم النيوكولونيالي.و اقول: " الآلة البديعة"، كون القوم تمكنوا من اختراع ألة للقهر سحرها يأسر القاهر و المقهور في آن.و عبارة " الآلة البديعة" تستدعي لخاطري صورة تلك الآلات التي ترتجل في عجلة شرط السوق الرأسمالي لتصبح في زمن وجيز جزءا من الأمر الواقع، كما منحوتات السويسري " جان تينغلي" الانتحارية التي عرف بها في مطلع الستينات.و هي منحوتات آليةـ أو آلات نحتية ـ مزودة بمحرّك. و ما ان ينطلق محرك المنحوتة، حتى تدور أجزاءها الموصلة بالمحرك في حركة عشوائية مجنونة في كل الاتجاهات الى أن ينفصل كل عضوعن أصله بفضل القوة المركزية الطاردة و تنتثر الأجزاء في الفضاء و لا يبقى سوى المحرك الذي يظل يدوروحده الى أن يستنفذ طاقته ويهمد تماما.و لكن خلافا لآلات " جان تينغلي" الانتحارية فان الآلة الفنأفريقانية حين تشرع في صيرورتها الانتحارية فهي تجر الافارقة معها في مسار التدمير الذاتي.وأنا أقول هذا بعيدا عن المجاز البلاغي، اذ يكفي التأمل في مصير هذه الآلة المسماة بـ "الدولة القومية" التي غنمناها،بدون تفحّص نقدي ـ كما الهدية المسمومةـ ضمن ما نابنا من ميراث غنائم الحداثة الاستعمارية ، فدخلت علينا بالساحق و الماحق،و انحطت لحالة "الدولة القبلية" في الصومال و في رواندا و في ليبيريا و في الكونغو الخ(وماخفي أزرط). و تأملوا في مصير هذه الآلة المسمّاة بـ " التبادل الاقتصادي" بين بلدان أوروبا و أفريقيا، الذي انمسخ الى دَين مزمن وذريعة لاستعبادنا لأبد الآبدين، و نحن قوم نعبر في حكمتنا عن عبودية الدَين بعبارات مثل " سيد الدين سيدك".ثم ما قولكم في هذه الآلة الأخرى المسمّاة " التعاون الثقافي" التي انكشفت عن كونها مجرد ذريعة للتدخل في تدبيرنا الرمزي و الانحراف بمساراته لصالح استراتيجيات الهيمنة و الوصاية و صيانة مناطق النفوذ، لغاية هذه الآلة المسماة بـ " الثقافة الأفريقية" بصيغة الافراد لشعوب قارة بحالها.و هي آلة مهمتها مصادرة التعدد الثقافي الاجتماعي التاريخي و العرقي لأهل القارة، و اختزالها في هيئة كيان زنجوي مبسّط و طيّع و قابل للقسمة بين غيلان رأس المال و سعاليه التي لم تكف عن افتراس خيراتنا المادية و الرمزية منذ فجر الاستعمار.و ضمن آلية الثقافة الافريقية تبدو " الفنأفريقانية" كمجرد ترس صغير.لكن هذا الترس الصغير يلعب دورا كبيرا في تسويغ صورة أفريقيا كما يتمناها الخيال الاوروبي الملتوي كتجسيد لفكرة الاصالة الخالصة المنزهة عن كافة الشوائب.
ماذا نفعل بهذه "الأصالة الافريقية" التي صممها الفنأفريقيون الاوروبيون ـ كما قميص عامر ـ على مقاسهم قبل أن يبذلوها للأفارقة. ماذا نفعل بهذه الصورة المشاترة التي رسموها لنا من وحي خيالهم ثم طالبونا بأن نشبهها؟
ان مشكلة مفهوم" الاصالة الافريقية" تكمن في كونه يفترض للثقافة الافريقية أصلا خالصا منزها من الشوائب، تتميّز به عن غيرها من الثقافات.و في مبدأ الاصل الثقافي الخالص ضلال مفهومي كبير يدحضه الواقع التاريخي للظاهرة الثقافية.فالثقافة، مطلق ثقافة، انما ترتهن بحركة التاريخ الذي تتخلّق في اطاره، تاريخ التناقضات بين مصالح الفرقاء الاجتماعيين.والثقافة بهذا تتشكل ـ كما الكائن الحي ـ على صورة تناقضات المرحلة التاريخية ، وان غفلت عن هذه المهمة تفنى. و ضمن هذا الافق، افق البقاء، تفاوض كل فئة اجتماعية يتفق أفرادها عند مصالح اجتماعية بعينها، تفاوض نصيب ثقافتها من الشوائب التي لا مناص منها و تسعى لتوليفها و تكييفها مع مشروعها الاجتماعي.و الواقع الثقافي المعاصرلثقافات أهل السودان غني بالامثلة على مساعي المفاوضة المستمرة التي تتكشف عنها عبقرية السودانيين، بسبيل التوفيق بين تناقضات الجغرافيا و التاريخ تحت شروط الواقع الاجتماعي المعاصر، وهذا مبحث يفيض عن سعة هذا المقام.و خلاصة الامر هي أن الثقافة لا تكون الا ملغومة بنصيبها المعلوم ، و غير المعلوم، من شوائب شرطها التاريخي.( و" الشوائب" في لسان العربان صيغة جمع تدل على" العيوب و الادناس و الاهوال"، و في مادة" شوب" معنى الخلط و الغش و الخديعةو هي صفات شحنتها الدلالية الدينية البيّنة تسوّغ لأنصار "الأصالة الثقافية" تهريب السؤال الثقافي خلسة لأرض الدين بلا مناقشة أو تمحيص.و أعني بـ "أرض الدين" تلك المنطقة التي يتحلل فيها الناس باسم الاعتقاد أو باسم الذوق،أو بكلاهما، من مقتضيات المنهج العقلاني الموضوعي، و هي أرض يتقاسمها أهل الاعتقاد الديني الرسمي مع الكثيرين من المتدينين الفطريين المتنكرين وراء الاقنعة العلمانية الرسمية، و هذه فولة تنتظر كيّالها في مشهد مناقشة التديّن و العلمنة المبذولة للمسلمين اليوم).أقفل قوس الدين هنا و أعود لمسألة "شوائب" الثقافة الافريقية التي تفسد على الفنأفريقانيين الاوروبيين و غير الاوروبيين بهجة الكرنفال العرقي السعيد.أقول : ان الثقافة لا تكون الا مشوبة، و هذه قولة لا يطيقها أنصار ثقافة الهجنة و التمازج، الذين تتأسس فكرة الهجنة في خاطرهم على افتراض الصفاء الثقافي لدى الثقافات المتهاجنة قبيل مباشرتها لفعل الهجنة.و لو شئت ترجمت عبارة " فعل الهجنة" بفعل" الخيانة"و " الغش" و "التدنيس" لعناية الخلاسيين العربسلاميين الذين يموّهون وراء زهوهم الجمالي المغالي بصُدفة التخلّس الزنجعربي في السودان ، أزمة وجودية عميقة سببها الاحباط العرقي الذي يتخلّق في ما يمكن أن نطلق عليه " مُرَكّب ود الحرام" في الثقافة السودانية العربسلامية، و ذلك في معنى الكائن الخلاسي الذي يعاني من كون أبيه العربي لا يطيقه بينما هو شخصيا لا يطيق أمه الزنجية.و قد مر على السودانيين ـ قبل أن ينمسخوا لـ " سودانويين" ـ مر عليهم عهد كانوا فيه " عارفين عزّهم" العرقي و " مستريحين" و " أولاد بلد" يقعدوا و يقوموا على كيفهم الخ..في ذلك الزمان لم يكن عدد المشغولين بـ " مدرسة الغابة و الصحراء" يتعدى ذلك النفر القليل من أهل الصفوة الخرطومية الذين كنت تشاهدهم، بسلامتهم، في المحافل الثقافية التي كانت تنشط داخل أرض " استحكامات غردون". ثم جاء عهد خرج " أولاد البلد " فيه من جغرافية" البلد" و تشتتوا ايدي سبأ، في بلاد العرب و السجم و الرماد، وعيّرهم" الاخوة في العروبة" بسوادهم و بزنوجتهم، وداخلهم شك كبير في " عزّهم" وفقدوا الراحة و الامن الرمزي العرقي المتوارث أبا عن جد في " البلد" اياها.صار أولاد العرب "دياسبورا " في بلاد العرب، و لم يعد بامكانهم أن يقعدوا و يقوموا على كيفهم في بلاد طيرها العربي عجمي مستعرب و مستغرب من فصاحة السودانيين.و كتب عليهم أن يشرحوا لداجنة العربان لغتهم ونسبهم و خصوصيتهم كتجسيد حي لواقع الهجنة العربية الافريقية.و في هذا المشهد اكتشف شعب المتعلمين بين المغتربين السودانيين عزاءا كبيرا في أدب " الغابة و الصحراء"، كونه أدب يشرح للعربان(و هيهات) تعقيد المسألة السودانوية في أناقة عربية معاصرة، فضلا عن كونه يقعّد هؤلاء العرب" السود"(انيين) مقعد قبول في محافل الثقافة الرسمية الـ" كل عربية"بأنواعها.و هي ثقافة بروباغاندا ترعاها سلطات الانظمة العربية القومية و تتعزّى بها عن واقع الخلافات و أنواع الشتات العربي الازلي.
لكن الرواج الشعبي الذي يلقاه أدب شعراء " الغابة و الصحراء" وسط الدياسبورا السودانية في بلاد العربان يتميز بطابع انتقائي يختزل التنوع الابداعي لشعراء الآفروعروبية المهمين لحدود التعبير الايديولوجي السودانوي للطبقة الوسطى العربسلامية في السودان.و لو تمعنا في كم الاقتطافات الاجبارية التي تتواتر في أدبيات الهويولوجيا السودانوية لوجدناها لا تتجاوز الابيات و المقاطع الشهيرة التي" تأيقنت" بفعل التكرار و تحولت الى نوع من ستار يحجب المساهمة الشعرية لهؤلاء الشعراء المهمين.مثلما يحجب من وراءهم شعراء سودانيين مهمين لم تكن صيانة السودانوية بين أولوياتهم. و مما "زاد الطين بللا" أن بعض محترفي السياسة الناشطين في منافي التسعينات وجدوا في عظم الأدب السودانوي" كدّة" فاستولوا عليه وغنـموه جهارا، و أدباء السودانوية الاحياء ساكتين و متواطئين ـ و قيل " مستفيدين " ـ و مافيهم زول قال:" بغم"...( و هذه فولة أخرى لا أجد لها براحا في هذا الكيل فصبرا يا حضرات).
أقول أن الثقافة لا تكون الا مشوبة. و هي قبل كل شيء، و بعد كل شيء، مشوبة بنوعية النظرة التي ينظر بها اليها أهلها مثلما هي مشوبة بنوع النظرة التي يلقيها عليها الآخرون من منصّات ثقافاتهم.و نحن اذ ننظر لما نعتبره ثقافت"نا" فان ضمير الجماعة الناظرة يقبل القسمة لغاية أقل تشكيل ممكن لأصغرجماعة قمينة بانتاج ثقافة ما بين ثقافاتنا. و حين ينظر الآخرون لما يعتبرونه ثقافتنا فهم انما يفعلون ذلك من واقع تعددهم و اختلاف رؤاهم و مصالحهم .و في هذا الافق يجدر التعامل بكثير من الحذر مع عبارة " الثقافة الافريقية" التي يؤسّس عليها كثير من الناس طرائق و اساليب التعامل مع الافارقة.ففي الـ" بيزنيس" السياسي و الاقتصادي الذي يقوده الاوروبيون في أفريقيا تتمتع عبارة " الثقافة الافريقية" بثقل نوعي خطير.وهذا الثقل الدلالي المميز لعبارة " الثقافة الافريقية" هو ، في تحليل نهائي ما، أمر لا مصلحة لأهل أفريقيا في تجاهله.
و على هذا فان افريقيا التي َنفَدتُ بجلدي منها في نهاية السبعينات لا علاقة لها بأفريقيا البحّاث الاثنولوجيين و من لف لفهم من الأفريقانيين المحترفين،مثلما لا علاقة لقارتي المظلمة و الحارة الجافة المتلافة بأفريقيا" الام"(موذرآفريكا)، التي تهجس خواطر السود
" الآفرواميريكان" و لا خواطر رجال " الراستا" البريطانيين وسلالات أهل جزر البحر الكاريبي الذين يصلون الارحام السوداء بذريعة الدياسبورا. ان لأفريقيا التي تسكن خاطري صورة عامرة بالاشتباهات المشروعة و غير المشروعة التي يبذلها لي الاعلام المتاح على علاته. صورة القارة التي تفاوض أسباب البقاء بين الحروب و المجاعات وايقاعات الطبول الاكزوتية اياها.و هي على كل حال الصورة الوحيدة المتاحة لأفريقيا تحت الشرط الراهن . فما ذا نصنع بهذه الصورة ؟
أنا شخصيا، افضل الاحتفاظ بهذه الصورة الخائنة الممسوخة،و" مضايرتها" و امعان النظر النقّاد المتأنّي في مكوناتها، مهتديا بمقولة " الجن التعرفه أخير من الجن الما بتعرفه". كون هذا الـ "جن " المعروف لنا هو ، في تحليل نهائي ما، "جرادة في الكف.."، بل هو" الجرادة "الوحيدة التي نتقاسم معرفتها مع الافارقة و مع غيرهم من أهل شمالي المتوسط و أهل آسيا و أمريكا.هذه "الجرادة المشتركة" هي الحد الادنى الذي يمكن لنا أن ندبّر عليه فرص المخارج التنموية المشرفة لمجتمعات أفريقيا.
و حين أقول بـ " مضايرة" الصورة المتاحة لأفريقيا فأنا استخدم العبارة في معنى الاعتناء النقدي الواعي بها في مدلول فعل" المظاءَرة".و المظاءرة في لسان العربان تدل على عطف الناقة أو المرأة على ولد غيرها فتتبنّاه وترضعه بدلا عن أمه الغائبة.و فكرة مضايرة هذه الصورة الممسوخة لأفريقيا تفرض نفسها علينا بحكم أنها الصورة الوحيدة المتفق عليها فضلا عن أن ضرورات البقاء المادي تفرض أولوية تعريف المخارج الواقعية العاجلة لأهل القارة على الجدل البيزنطي حول تعريف الصورة المثلى لأفريقيا. فلا وقت أمامنا حتى نصرفه في ترف تعريف الصورة المثلى للقارة.
و"مضايرة" صورة أفريقيا يستدعي الى الخاطر هذا التقليد " الافريقي" القديم، تقليد " البصارة " المهنية و الحكمة الحرفية الذي يعتمد عليه الـ " اسطوات" الاميون في فهم و ترويض و ترميم و اصلاح، بل و اعادة اختراع آليات المجتمع الصناعي المكلفة التي ترد بين ظهرانينا بشكل فوضوي، بلا تدريب أو تحضير مسبّق، و بدون" دليل الاستعمال" اياه ،ثم تهلك في أصقاع بلادنا بفعل الحر و الغبار ووعورة المسار، فيتأمل القوم في مصيرها الأفريقي قبل أن يتفتّق خيالهم الحرفي الشعبي عن أذكى المخارج التقنية لبعث الحياة في أوصال الآلة النافقة. و " الحاجة" التي هي" أم الاختراع"( و أبوه كمان)، راكمت في خبرة الأهالي تراثا واسعا من أدب البصارة التقنية الشعبية ، و هو تراث فريد في نوعه ، له أعلامه و مواقفه و حلوله البراغماتية الذكية التي تحفظها ذاكرة الاجيال. وذلك وجه من وجوه الحداثة الافريقية يجهله خبراء الفنأفريقانية.
ان المظاءرة النقدية لصورة أفريقيا المتاحة يقتضي حيلة و خيالا واسعا من قبل كل المهمومين بمصير أفريقيا.و أول الحيلة انما يكون في الاستفادة من كل المادة المبذولة في صدد أفريقيا، بما فيها المادة الفنأفريقانية اياها(بصرف النظر عن رأيي الشخصي في مزالقها الاكزوتية المشهودة).و على منطق الاستفادة لا أستبعد أي من الفنأفريقيين الميامين من نوع" جان هيبير مارتان " أو"جان كلير" أو " سوزان فوغل" الخ ...فهؤلاء القوم يظلون مفيدين لفهم فنون الافارقة بحكم كونهم ، و حتى اشعار آخر، يمثلون ـ و بصرف النظر عن دوافعهم الحقيقية ـ القلة القليلة التي تبدي الاهتمام بما ينتجه الافارقة من فن. و ضمن هذا المنظور فهم يعرّفون مجالا نظريا لمباشرة الحوار حول الأسئلة التي يطرحها على العالم المعاصر فن الافارقة.
في فجر الغزوة الاستعمارية وجد الاوروبيون أنفسهم أمام لحظة خيار فادح يقتضي منهم اتخاذ موقف تاريخي بالنسبة لأهل المجتمعات غير الاوروبية التي بسطوا عليها سلطان رأس المال بذريعة عبء الرجل الابيض النصراني المتمدّن:
اما أن يتآخوا مع المهزومين، و يتضامنوا و يتقاسموا معهم خيرات العالم المادية و الروحية محققين بذلك حلم الحضارة الانسانية النبيل بامكان يوتوبيا السعادة النصرانية الناجزة حيث " يسكن الذئب مع الخروف و يربض النـمر مع الجدي و العجل و الشبل و المسمّن معا و صبي صغير يسوقها. و البقرة و الدّبّة ترعيان. تربض أولادهما معا و الاسد كالبقر يأكل تبنا. و يلعب الرضيع على سرب الصل و يمد الفطيم يده على جحر الافعوان. لا يسوؤون و لا يفسدون في كل جبل قدسي لأن الارض تمتلئ من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر.."(العهد القديم، اشعياء، الاصحاح الحادي عشر).
أو أن يهيمنوا و يستعمروا و يستغلوا هؤلاء الناس المقهورين الذين ما كان فيهم من يمانع مبدئيا في الانخراط في يوتوبيا السادة و الاستفادة من خيراتها المادية و الروحية.
و اليوم في فجر العولمة الليبرالية يجد الاوروبيون أنفسهم أمام خيار اخلاقي فادح مشابه: هل يتضامنوا مع المقهورين و الفقراء بسبيل استعادة اليوتوبيا الانسانية المفقودة ، أم يتحالفوا مع الاغنياء الاقوياء بسبيل استعادة نصيبهم من غنائم حرب العولمة الليبرالية
التي يشنها رأس المال على الفقراء.و هي غنائم تافهة لا تسمن و لا تغني من جوع و لا تكفي لترميم اليوتوبيا النصرانية المتداعية التي يتمترس خلف أسوارها بناة أوروبا البواسل. هؤلاء الرجال و النساء العلمانيون الذين لا يتورعون عن الاحتجاج بالدين لاستبعاد تركيا المسلمة من قسمة الاتحاد الاوروبي. و رغم أن عرضي لمأزق الطوباويين من عيال النصارى ينطوي على شيء من التبسيط ، الا أن تبسيطي انمايجد تبريره في البساطة المقابلة التي تغلّف بها بروباغاندا رأس المال المتعولم التناقض التاريخي، في عرضها لحال الحرب الجارية بين الاغنياء و الفقراء، كحرب بين الحضارات المصنفة شرقية ضد تلك المصنفة غربية.ان حرب "قوى الخير " ضد "قوى الشر" التي تشنها البلدان الغنية تحت قيادة " بوش"( الاب و الابن) على البلدان الفقيرة، التي يزعم قيادتها الانبياء الكذابون من شاكلة " أسامة بن لادن" أو" صدام حسين"أو "معمر القذافي"( و أولادهم)، انما تجسد أغلظ أشكال التبسيط المغرض الذي يهدف لتمويه الواقع الراهن، واقع اغتنام العالم كما يباشره الاغنياء على انقاض اليوتوبيا النصرانية البائدة.و هي حرب مصطنعة اصطناعا، حرب مزعومة" وقائية"و " نظيفة" و "جراحية" لمجرد أنها تبدأ من شاشات التلفزة و تنتهي على شاشات التلفزة، كما لوكانت وجها من وجوه اللعب الالكتروني. غير أن دم الفقراء الذي يسيل على أرض الواقع يدحض اللعب الالكتروني و يكذّب تمويه البروباغاندا مهما عظمت حيلتها.
بلا شك ، كل هذا يبعدنا عن الفن الافريقي كما يحتفل به سدنة الجمالية العرقية الأوروبية. و ربما كان من الاقوم لنا، بسبيل مقاربة الواقع الذي يعيشه الافارقة اليوم، أقول : ربما كان من الاقوم لنا أن نتأمل في هذا النوع من فنون الافارقة الذي لا يحفل به الاوروبيون كثيرا : فن البقاء على قيد الحياة.


ـ هذا النص هو حصيلة ترجمة حرة للنص الفرنسي الذي نشر في مجلة " الازمنة الحديثة" عدد أغسطس / نوفمبر 2002
« Qui a inventé l »es Africains ? », in Les Temps Modernes, Aoùt-Novembre 2002.

من إخترع الأفارقة؟ 7


من اخترع الأفارقة؟
الحلقة السابعة
الغرب الممسوخ

المتأمل في مشهد العلاقة المتوتّرة بين "جان كلير" و " جان هيبير مارتان" لا يجد صعوبة في فهم القاسم المشترك الأعظم بين موقفيهما المتناقضين في الظاهر.فبين "كلير" الذي يسعـى لانقاذ الغرب بقفل أبواب مؤسسات العرض أمام الفنانين غير الأوروبيين، و"مارتان" الذي يسعى لانقاذ الغرب بحقن دم جديد غير أوروبي في شرايين مؤسسات العرض الأوروبية، يتفق "كلير" و"مارتان" على حقيقة مريعة: الغرب في خطر و يجب انقاذه بأي ثمن.بيد أن هذه" الحقيقة المريعة" التي يلتقي عندها الأخوة الأعداء انما تنبني عند كليهما على مفارقة مفهومية،(و قيل على" أكذوبة")، تاريخية و اقتصادية و سوسيولوجية غليظة فحواها: أن المجتمع الأوروبي هو الغرب مثلما أن الغرب هو أوروبا. و التطابق بين مفهومي الغرب و أوروبا ينتهي الى تمليك ظاهرة الحداثة للأوروبيين دون غيرهم من عباد الله المستبعدين – كسر رقبة- لـ "رزيرف" التقليد.
و هكذا يتوجّب على الفنانين المعاصرين غير الأوروبيين الذين يبحثون عن فرصة لعرض أعمالهم في مؤسسات العرض الأوروبية،يتوجب عليهم الوقوف عند نقاط التفتيش على الحدود بين الثقافات، و ذلك حتى يتمكن ضباط الجمارك و مسؤولي الأمن الحضاري من التحقق من أصالة هوياتهم أولا ، ثم تصنيفهم حسب الأمكنة المعدة لاستقبال " الاجانب" ضمن هرم التراتب الثقافي الأوروبي.و قد أصابني كثير من هذا أول عهدي بالقائمين على مؤسسات العرض بأوروبا، و الحق أقول : في البداية فاجأني الامتحان وأحبطني و أحزنني أيما حزن، سيّما و انني وفدت لشمالي المتوسط متفائلا بفرصة وضع حد لغبن الدياسبورا الأفريقية التي خبرتها في ذلك الوطن المحزون الجاف المتلاف.لكن المثل الصيني يقول(و دي ما ينفع فيها الا مثل صيني): السم الذي لا يقتلك يزيدك مناعة، و الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.فقد نفعتني سنوات الاستبعاد من مؤسسات العرض الأوروبية في التفرغ لمراقبتها من مسافة نقدية ساعدتني على فهم ما يجري وراء الكواليس. و حقيقة فأنت لا تحتاج لذكاء خارق لتفهم أن ما يجري في كواليس الفنأفريقانية الأوروبية ما هو الا انعكاس مباشر لواقع العلاقة السياسية بين أوروبا و أفريقيا.وان كان لـ" كلير " فضيلة على "مارتان" فهي في صراحته التي تلخص العلاقة مع غير الأوروبيين، و ضمنهم الأفارقة، في عبارة الاستبعاد الفظ الغليظ و بضيق شنيع في الأفق السياسي و الانساني.و ربما وجد ذلك الامر تفسيره بقرب
" كلير " من دوائر اليمين السياسي المحافظ التي لم تهضم بعد نهاية الاستعمار في أفريقيا.و على الطرف النقيض يقف مارتان، المحسوب على اليسار الاشتراكي الفرنسي،كنموذج ناجح للبهلوان الذي يلعب على كل الحبال.و لا جناح، فالفنأفريقانية التي يرفع رايتها" مارتان" هي في الحقيقة تعبير ثقافي عن السياسة الأفريقانية النيوكولونيالية التي صانتها حكومات اليسار الاشتراكي على تعاقب الأنظمة في فرنسا(و للاستزادة من معرفة سياسات الاشتراكيين الفرنسيين في أفريقيا يمكن الرجوع لكتابات ف. اكس. فيرشاف و بالذات كتابه " لافرانسأفريك"( و يمكن ترجمتها بـ" فرنسا أفريقيا" ـ على نحو المضاف اليه ـ اذا تجاوزنا عن التسطيح الذي يخيم على العبارة العربية).
(F.X. Verschave, La France Afrique, Paris ,Stock,1999)
و" مارتان" يلعب دور الجمركي الذكي الذي يصنف الفنانين الوافدين من الخارج ـ من خارج أوروبا و من خارج الغرب و من خارج الحداثةـ و ينتقي منهم من ينفع في تدعيم النسخة الأوروبية لما يعتبره صرح الفن الغربي.
و قد كان هذا، على الاقل، حالي حين رمت بي الأقدار في طريق "مارتان" الذي اتصل بي مرة، في مارس 1999، بوصفي فنان أفريقي(؟) معاصر،و عرض علي الاشتراك في معرض " قسمة الاكزوتية". في رسالته( المؤرخة بتاريخ 8 مارس 99) لم ينس "مارتان" أن يضيف التحذير المعهود الذي تعود المنظمون الاوروبيون لمعارض الفن غير الاوروبي أن يوجهونه للفنانين غير الاوروبيين حول مخاطر فقدان العذرية الثقافية من جراء الانجراف وراء اغراءات الحداثة الغربية الخ.و هاكم عينة من هذا الادب الابوي الرفيع:
"ان تبني الحداثة يمكن أن يعتبر موقفا تقدميا ضد الظلامية السلفية القديمة مثلما يمكن أن يعتبر فقدانا للهوية و خضوعا للهيمنات الثقافية والسياسية و الاقتصادية للغرب". حين قرأت كلمات " مارتان" لم اصدق عيني.و تقاطرت الاسئلة في خاطري:
عن أي هوية يتكلم؟عن أي حداثة؟ و عن أي غرب؟و هل يمكن للشخص أن يفقد هويته كما يفقد طاقيته أو خاتمه مثلا؟و ما مصير من فقد هويته؟هل يموت غمّا أم يبقى سابحا في الفضاء كما شخوص لوحات "شاغال" الشهيرة أم أنه يرسى على هوية غيره و" يكفّنها" كما الميتة في بلاغة الأهالي.ثم كيف يمكن الهرب من قدر الحداثة؟و في النهاية ما أصل هذا الشيطان الاكبرالمسمى بـ " الغرب" و الذي يحرص الجميع على تذكيري بمخاطره حتى اصون نفسي عن غواياته المهلكة؟
كل هذه التساؤلات حفّزتني على الكتابة لهذا الساحرالاكبر الذي يهيمن على مشهد الفنأفريقانية، لأشرح له كم الاشتباهات المركبة المقيمة في موقفي كفنان غربي غير أوروبي لا تسعه التصانيف الجمالية و السياسية المبذولة للمنتفعين بالفن المعاصر.
وقد كانت حيلتي في شرح الامر لـ " مارتان" غاية في البساطة.يعني بالعربي كده: يا زول انت آلتك دي، بتاعة الحوار بين الثقافات، آلة مريبة في أصلها.ثم أن صفتك الوظيفية كممثل لسلطات المؤسسة الثقافية الرسمية لا تؤهلك لتمثيل الحضارة الغربية.ناهيك عن كوني شخصيا زاهد تماما في تمثيل أي حضارة كانت، مثلما أنا زاهد في تمثيل اي "آخر" غربي كان أو شرقي.باختصار، أنت و أنا و آخرين، لسنا سوى شركاء في نفس الـ "اسكوات"( ترجموا:" سكن غير قانوني" و قيل " عشوائي")
Squat
الذي بذلته لنا حضارة السوق المتعولم.لكن ان كنت أنت تستنكف حضوري بجانبك تحت سقف نفس الـ"اسكوات" فما ذلك الا لأنك ترى في حضوري خطر "المساواة في الحقوق" التي أطالب بها. ومطالبتي بـ "المساواة في الحقوق" يمكن أن تجر عليك و على أمثالك فقدان أغلب الامتيازات المادية و الرمزية التي راكمتموها منذ فجر عهد السيطرة الاستعمارية.و سواء كنت أنا أفريقيا أو أسيويا أو هندأمريكي أو كنت من آبوريجين أوستراليا، فان الهوية الوحيدة التي تتيحها لي شروط ثقافة السوق الرأسمالي هي هوية المستبعد الغربي غير الأوروبي. و هذه الوضعية تعني أنه ان كان ثمة مشروع لتأسيس هوية ثقافية لشخص مثلي، فان هذه هذه الهوية الثقافية لا يمكن أن تتأسس الا على معطيات واقع الاستبعاد الذي كتب علي أن اكابده في موطني الأصلي كما في أوروبا في آن واحد.ومعطيات واقع الاستبعاد هي بلا شك قاعدة أكثر ثباتا من كل ركام الفولكلور العرقي البائد، الذي يلبّك خواطر المتكلمين في الهويولوجيا بالوكالة الجائرةعن جموع المستبعدين .لقد فقد الغرب حدوده الأوروبية منذ أن انتشر واستشرى على الأرض كلها.وبفضل الشبكة الواسعة لمراكز نفوذ مؤسسات السوق الرأسمالي العالمي و المتعولم، فأن الغرب كمفهوم غادر حدوده الأوروبية و تمدد على مجمل مساحة المعمورة.صار الغرب اليوم بلا حدود.انه كل مكان طالته آلة السوق.هذا الواقع الجديد نسبيا الذي كشفته تطورات العولمة الليبيرالية بشكل حاسم يلغي فكرة الغرب كمرادف لفكرة أوروبا و يطرح مفهوم الغرب بصيغة الجمع. يعني "كلنا في الهم غرب"، بس المسألة بقت خشوم بيوت، و لكم غربكم و لنا غرب مثلما لكم حداثتكم و لنا حداثة ، و"الحسّاس" يملا شبكته.هذا الغرب الجديد الممسوخ صار يروّع الأوروبيين و يزعزعهم كلما اكتشفوا أنه صار يستعصي على قدرة الأدوات الرمزية و السياسية و التقنية التي كانوا يتحكمون بها على مصائر العباد في زمن الغرب الاستعماري السالف.الغرب الجديد "لحمة راس"الأوروبيون فيه لا يمثلون الا جزء من كل يشمل الأسيويين مثلما يشمل الجنوب أمريكيين لغاية الأفارقة(كراع الفروة).هذا الغرب الممسوخ صاريفسد على الأوروبيين بهجة الثقافة منذ أن اكتشفوا أن قوانين" منظمة التجارة العالمية" تفتح سوق الثقافة أمام رأس المال المتعولم.و الفرنسيون مثلا، لم يكفوا عن حرب الـ "قاتس"(الاتفاقيةالعامةلتجارة الخدمات)،
General Agreement on Trade in Service (GATS)
من أجل معاملة استثنائية تحمي سوق الثقافة القومي من تغول التجارة الثقافية الكبيرة(ترجم "التجارة الثقافيةالأمريكية").فعلى مبادئ الـ "قاتس" سيصبح من المتعذر على فرنسا مثلا دعم الانتاج السينمائي الفرنسي أو دعم دور النشر الفرنسي دون أن تقع تحت طائلة قانون منظمة التجارة الدولية بدعوى تزييف التنافس التجاري الحر.ان الغرب الممسوخ الجديد لا يبالي بالاستثناءات الثقافية لهذا البلد أو ذاك الا بالقدر الذي تؤثر فيه هذه الاستثناءات على سّلم القيم في بورصة المال.
و اذا رجعنا للخواجة "مارتان"في "اسكوات" السوق الغربي أقول:
شوف يا خواجة،بقبولي المشاركة في معرضك، رغم تحفظاتي على نواياه الاكزوتية المكشوفة،فأنا انما أراهن على ذكاء الجمهور المستنير ،الذي أثق في قدرته على الوصول لمعاني تصاويري، و لو خاض في دروب هذه المتاهة الطويلة،الممتدة لأربعة كيلومترات من الفخاخ الاكزوتية.و حقيقة فقد راهنت، من طرف خفي، على ذكاء هذا الساحر الأكبر الذي كان قد كتب لي في رسالته:" ان عملك الفني يهمني بقوة". هذه العبارة السحرية عشّمتني في قدرة الرجل على تهريب عملي الفني من وراء ظهر ضباط جمارك الجمالية العرقية و حرس الحدود بين الثقافات الذين سهروا على تنفيذ القسمة الاكزوتية.لكن المهرّباتي المنتظَر لم يفهم مرامي رهاني.
بعدها بسنة اتصل بي " تيري راسباي" بصفته " قوميسير" المعرض و كشف لي أنهم في لجنة المعرض، و" بعد مناقشة مستفيضة"، توصلوا لقرار أن لا يعرضوا أعمالي الفنية في " قسمة الاكزوتية"، و لكنهم في نفس الوقت يرغبون في نشر رسالتي لـ " مارتان" في مقدمة كتالوغ المعرض، و ذلك" لأنها تلمس اشكالية الاكزوتية مثلما تؤشّر لحدود مشروع مبذول كمبحث سوسيو انثروبولوجي"(أنظر مقدمة كتالوغ "قسمة الاكزوتية"، ص 15.حين شرح لي " تيري راسباي" ذلك فهمت أنني كسبت رهانا لم يخطر على بالي قط.ذلك هو رهان المداهنة الدبلوماسية، رهان الـ " بوليتيكلي كوريكت" الذي هو روح الشاغل المعارضي لدى معظم القائمين على أمر الفن غير الأوروبي.
مناورتي البسيطة لم تعط أُكُلُها ولم تؤثر على "مارتان" الذي أشاح عن تصاويري و لم ينس رسالتي. و قد بدا لي تفسير الأمر في كون هذا الخبيرالمحترف المختص بالفن غير الأوروبي كان قد قرر،وعن سبق القصد، أن يتجاهل تصاويري التي لا تطاق، كونها على صورة حداثتي كفنان غربي من أفريقيا. لكنه في نفس الوقت لا يستطيع تجاهل ملاحظاتي النقدية في صدد اشكالية المشروع الفنأفريقاني.و مغزى هذه الحكاية يتلخص في ان الفن المعاصرغيرالاوروبي كما يفهمه الاوروبيون هو فن لا يطيق النقد.
و فيما وراء تجربتي الشخصية فان معرض " قسمة الاكزوتية " يتكشّف، وبمنهجية ميوزيوغرافية بريئة في ظاهرها، عن جملة من الالتباسات المفهومية المقصودة التي لم يعد يستغني عنها أي منظم معارض يعمل في منطقة الفن غير الاوروبي.
فمعرض الفن غير الاوروبي ينطرح اليوم، تحت ادّعاء اعتباطي، بكونه نوع معارضي جديد مستقل بذاته، و قيل فتح ميوزيوغرافي بحاله.و بسبيل تدعيم هذا الـ" نوع" على المسرح الثقافي فان أصحاب معرض الفن غير الاوروبي يراكمون جملة من التحديدات و الأعراف و اللوائح عند تقاطع الفن و الاثنولوجيا.و ضمن منظور و مرجع معرض " سحرة الأرض" فان معرض " قسمة الاكزوتية" ينطرح كـ "محطة تقوية" للقيم و المعايير التي سبق أن بثّتها محطة الارسال الأولى:" سحرة الارض".
و أول الاعراض تظهر على شخص قوميسير المعرض نفسه.فصاحبنا يتقمّص " الدور" الذي عهدوا به اليه بدون تردد.و أنا استخدم عبارة "الدور" في معنى اللعب المسرحي الكلاسيكي.فمعظم القوميسيريين الأوروبيين من منظمي معارض الفن غير الأوروبي ينتهون الى قبول دور " ممثل الغرب" أو الناطق الرسمي باسم الثقافة الغربية.و من موقع الحظوة الثقافية الغربية ينعمون على من يرغب في المشاركة في " حوار الثقافات" بلقب ممثل الثقافات " الأخرى".
وبعد استقراره في موضع المشرف على علاقات الحوار و التبادل الثقافي بين الغرب و الآخرين فان قوميسير المعرض يفصح عن نيته في استيعاب و دمج كافة الثقافات الاخرى ضمن منظور ثقافة انسانية كونية.ثقافة جامعة تتأسس على قاسم مشترك أعظم قوامه مفهوم غامض اسمه" الروح الانساني". هذا " الروح الانساني" بفترض أن البشر يلتقون عند مثل انسانية سابقة على مصالحهم الطبقية،و هو بلا شك مفهوم جميل زهيد الثمن لا يرغب أحد في التشكيك في مصداقيته، بالذات في مثل هذا الموقف المتفائل الذي يبشّر بيوتوبيا السلام و الوفاق التام بين الأعراق و الثقافات.بيد أن مشروع اندماج كافة الثقافات في ثقافة كونية انسانية الذي يبذله الأوروبيون في محافل الوئام العرقي و الثقافي يقتضي من القوم التخفيف من غلواء الأنانية المركزية التي طبعت تاريخ الثقافة الأوروبية في علاقتها مع ثقافات غير الأوروبيين.فلكي تتمكن ثقافة الأوروبيين من انجاز مشروعها الانساني فهي مضطرة لأن تفسح مكانا لثقافات الآخرين.و قد يبلغ الأمر بالمحتفلين بالثقافات غير الأوروبية أن يطلبوا من التقليد الثقافي الأوروبي أن يعتّم من ألقه أو أن يتظاهر بالموت بسبيل استدراج المتشككين و الـ "أرأيتيين"و الذين لُدغوا من جحر اليوتوبيا الأوروبية أكثر من مرتين.و حين لا يرغب الغرب الأوروبي في لعب لعبة المتماوت، فهناك أشخاص مثل " تيري ايهرمان" قمينون باعلان " موت الغرب" حتة واحدة..و حذارى لمن لا يعرفون " تيري ايهرمان"، رجل الأعمال الناجح الذي يدير شركة "آرت برايس".و هي شركة خاصة تنشط في بيع و شراء الأعمال الفنية و تفاخر بكونها " في طليعة المؤسسات التجارية العاملة في بورصة سوق الآثار الفنية على مليوني صفقة بيع تخص 172000 أثرا فنيا لفنانين يتوزعون في الفترة التاريخية الممتدة من القرن الخامس حتى اليوم"(آرتبرايس.كوم)

و بالنسبة لـ "ايهرمان" الذي يعتبر من الشركاء الذين يقدمون الدعم المالي لـ " بينالي ليون للفن المعاصر" فان معرض " قسمة الاكزوتية" يؤشر لنهاية الجمالية الغربية و يفتح الباب واسعا للجمالية العالمية"(تقرأ: العولمية).و الفرنسيون قوم مولعون بفكرة "نهاية" العالم. و هي ظاهرة لا بد أن لها علاقة بتكوينهم النفسي و الرمزي المطبوع بالتراث الكاثوليكي الذي لا يستغني عن فكرة " قيامة" العالم.فقبلها بعام انتهز" باكو رابان"، مصمم الأزياء الفرنسي الشهير الفرصة ليعلن نهاية العالم في سنة ألفين. و قد شغلت نبوءة " باكو رابان" الاعلام الشعبي لفترة و نفعته في عمل دعاية تجارية مجزية لم تكلفه أي شيء.لكن ان كان " رابان" لا يتورع عن علان " نهاية العالم" لكي يتمكن من بيع بعض تصميماته ـ الرائعة في مشهد النحت رغم كل شيء ـ ، فان " ايهرمان" يبدو أكثر تواضعا،انه يكتفي باعلان "نهاية" الجمالية الغربية لا غير.
كون الفن غير الأوروبي لا يصبح موضوعا للمشاهدة الا تحت شرط العرقنة ، فذلك الواقع يحفز المسؤولين من " قسمة الاكزوتية" على عرقنة الفن الأوروبي حتى يتم تأسيس المساواة بين الثقافات.لكن هذه المساواة الفادحة لا تمنع حراس الجمالية العرقية من أن يحفظوا للفن الأوروبي المعرقن حظوة المرجع المركزي بالنسبة لفنون الثقافات الأخرى.و الاعتراف بمركزية المرجع الفني الأوروبي و تعاليه يتم دائما بصوت خفيض تحت صدى التصريحات الرنانة حول المساواة بين الثقافات ، أو كما قال "مارتان" في تصريحه لمحرر "لوموند"(25 يونيو 2000 ):
" ان معرض "قسمة الاكزوتية" يقتضي قسمة نتمناها عادلة بشكل مثالي. و في الواقع فنحن كلنا نعرف في أي جانب تكمن السلطة و أين تكون الهيمنة.في جانب الغرب طبعا".و يتابع حواريو "مارتان" أفكاره وقع الحافر على الحافر حين يقرون بفساد القسمة الاكزوتية.ففي مقدمتهما لكتالوغ معرض " قسمة الاكزوتية" يكتب " تيري راسباي" و " تيري برات" ـ على نهج " جان كلير"ـ و بصفاتهم كـ " ذكور بيض و مسيحيين" (كذا) بأن " القسمة الاكزوتية غير عادلة لأنها تندرج ضمن سياق فني تأسس و تطور منذ البداية على يد الغرب".
ان طموح ارضاء الجمهور العريض يدفع القائمين على عرض أعمال الفنانين غير الأوروبيين الى تبسيط و طمس الاشكالية المركبة لهذا الفن المعاصر الذي يتم انتاجه خارج أوروبا.و هو موقف يتم تارة لأن الرعاة الاوروبيون يجهلون الجسور والأنفاق السرية و العلنية التي تربط فن غير الاوروبيين بفن الأوروبيين، مثلما هو يتم طورا لأن الرعاة الاوروبيون يتجاهلون،و عن سبق القصد و الترصّد، طبيعة العلاقات القوية المركبة بين فنون غير الاوروبيين و فنون الأوروبيين.و ليس غرضي هنا تصنيف "مارتان" و حوارييه في فئة الجاهلين أو في فئة المتجاهلين.غرضي هو اثبات هذه الصفة العجيبة من صفات مناهجية( ميتودولوجيا) الصناعة المعارضية المعنية بعرض فنون غير الاوروبيين للجمهور الاوروبي.و هي الصفة التي تتلخص في استبدال المقاربة النقدية للظاهرة الفنية غير الاوروبية بما يمكن أن نسميه بـ "المقاربة السحرية" العزيزة على " مارتان".فما كان " مارتان" يسميه" سحر الاشياء" يكتسب، عند حوارييه" برات" و" راسباي"، اسما جديدا هو " الفكر البصري". يشرح الرجلان كيفية الانتفاع بمفهوم "الفكر البصري" حسب تجربتهما في معرض " بينالي ليون الثاني للفن المعاصر"، 1993 :
" حين تستعصي التصانيف الشكليةعلى توقعات النظرة التاريخانية النقدية " يستخدم العارضان مفهوم " الفكر البصري".."الذي يعتمد على قيمة التناظر الشكلي( ايزوتوبي)
Isotopie
المتفرّد للأعمال الفنية. و هو مفهوم لا علاقة له بالجمالية الخطابية المقعّدة."(مقدمة كاتالوغ" قسمة الاكزوتية" ص 8). و " الجمالية الخطابية المقعّدة" التي يعنيها " برات " و "راسباي" تتحدد ـ بعد عبارة " بشكل عام" المريبة بقدر ما هي ايجازية و تبسيطيةـ
كجمالية" الفلاسفة و مؤرخي الفن و من لف لفهم من التراجمة"( نفسه ص9).و لا أحد يعرف ما اذا كان الاثنولوجيون، الذين يمثلون القوة الضاربة للقوميساريا النظرية لمعرض" قسمة الاكزوتية"، ضالعين في فئة" التراجمة" اياها، لكن " برات" و"راسباي" و من وراءهما " مارتان" قرروا الاستغناءعن الفلسفة و عن تاريخ الفن لتأسيس البنية النظرية للمعرض على مساهمات عدد معتبر من نجوم الدراسات الاثنولوجية في فرنسا.و لكن ، اذا وضعنا في الاعتبار تصريح " برات"و "راسباي" بكون" البينالي في فرنسا، بحكم أن تمويله يأتي من المال العام، فهو أيضا خدمة عامة للمواطنين" ، فان جمهور المواطنين الفرنسيين سيجدون صعوبة كبيرة في قبول جمالية يعرّفها موظفو الخدمة المدنية الذين يستبعدون، باسم "الفكرالبصري"، مجمل ميراث الفلسفة و تاريخ الفن.و رغم كل دعاوى الاستقلالية بالنسبة لميراث الفلسفة الجمالية و مراجع تاريخ الفن فان "برات" و "راسباي" يظلان وفيّان لضميرهما المهني كموظفي خدمة عامة، لأنهما لا يقدمان معرضهما على مرجع"الفكر البصري" وحده، بل يدعمانه بمرجع تاريخي مهم هو" معرض سحرة الارض" الذي يثمّنانه كمرجع فني ناجح و" مضمون"، بل و" مبرّأ " ميّة في الميّة" من شبهات المداهنة السياسية و الروحية والتقنية"(ص9).
و هكذا، حين يصير التنكر للمداهنة السياسية همّا يرعاه أفندية الخدمة العامة الذين عهدت اليهم الدولة برعاية مؤسسات الثقافة، فمعنى ذلك أن"الرماد" قد" كال حمّاد" قبلها بزمن طويل.و في تحليل نهائي ما، فان الصراحة ـ و قيل الوقاحة ـ المبرمجةلموظفي الخدمة العامة تملك أن تصبح بضاعة مطلوبة بقدر ما يلبي موقف الزهد في المداهنة طلب الجمهور العريض.
و لو عدنا لمفهوم " الفكر البصري" الذي يتأسس عليه الفهم المعارضي لكل من " برات" و "راسباي"، فثمة مثال طيب عن حالة من حالات التناظر الشكلي الفريد( ايزوتوبي) يبذله لنا عمل الفنان السويسري المعاصر المعروف " توماس هيرشهورن"
Thomas Hirschhorn
و هو تناظر شكلي كما توارد الخواطر بين موقف"هيرشهورن" و موقف رعاته من الواقع الجيوسياسي المعاصر.و عمل "هيرشهورن" المعني يستحق الاهتمام كونه يطرح اشكالية الطريقة التي ينظر بها بعض الفنانين الأوروبيين و رعاتهم لما يحدث في المجتمعات غبر الأوروبية.ففي عمله المعنون:" الامم المتحدة ، نموذج مصغّر" ، الذي يعتمد أسلوب التأثيث (انستاليشان)
(Installation)
و هو عمل صمم خصيصا لمعرض " قسمة الاكزوتية"، يقدم " هيرشهورن" للزوار مسارا مسهّما داخل ماكيت من الأطلال المصغّرة لحاضرة ضخمة مكونة من عدّة مدن معروفة دمّرتها الحروب التي تدخلت فيها قوات الامم المتحدة.و نص كتالوغ البينالي الذي يقدم لعمل "هيرشهورن" يدعم النبرة النقدية لعمل الفنان تجاه مواقف منظمة الأمم المتحدة بقوله:" ان تدخل الامم المتحدة يتم تمثيله هنا بحضورعدد كبير من الدبابات و طائرات الهيليكوبتر البيضاء على طول مسارح العمليات الحربية.و ذلك بأسلوب تكراري دون أن نعرف على وجه التحديد ما اذا كان غرض حضورقوات الأمم المتحدة هو اطفاء نار النزاعات أم تأجيجها.و عند كل منعطف من منعطفات مسرح العمليات يبذل الفنان للزائر مجموعة من الوثائق المطبوعة التي توثق للنزاعات التي جرت أو تجري في البلدان التالية:لبنان، سيراليون، فلسطين،رواندا،الكنغو زائير سابقا،الشيشاني، البوسنه،تيمور، شياباس،كوسوفو.". أثناء المعرض لفت بعض الزوار نظر المنظمين الى أن قوات الامم المتحدة لم تتدخل أبدا في اقليم "شياباس" أبدا.لكن المنظمون الكرام لم يحركوا ساكنا لتصحيح المعلومة المغلوطةبعد افتتاح المعرض. فقد رفع الأقلام و جفت الصحف.ويبدو ان تدخل قوات الامم المتحدة أو عدم تدخلها في اقليم" شياباس" لم يكن يهم القوم كثيرا، فقد كانت أولويتهم القصوى تتلخص في دعم قضية الهنود العادلة و لو أدى بهم الامرلتزييف وقائع التاريخ المعاصر.و يبدو أن بعد نزاع اقليم " شياباس" من دائرة اهتمام الجمهور العريض في أوروبا ، بجانب الرغبة المسيحية المشروعة في التضامن مع قضية الهنود العادلة ضد سياسات الحكومة المكسيكية، قد لعبا دورا في تسويغ المسلك غير المسؤول لمنظمي معرض " قسمة الاكزوتية".و ربما كانت المسألة في جملتها،في خاطر الفنان كما في خاطر منظمي المعرض،لا تخرج عن نطاق التناظر الشكلي(ايزوتوبي) الذي يُفترض أن كل مسارح النزاعات الـ "عرقية" في العالم تتقاسمه بما يجعل تدخل قوات الامم المتحدة أمرا محتوما. و في تحليل القوم النهائي خلاصة سياسية عرقية تقول بأنه في ظلام القارات غير الاوروبية فكل القطط بالضرورة سوداء.
و بما أن خبراء الفن الاكزوتي عموما ـ و الفن الافريقاني على وجه الخصوص ـ هؤلاء القوم الذين يوصفون ذواتهم طوعا بكونهم " ذكور" و "بيض"،بما أنهم يتمركزون ،عمدا في الزاوية العمياء للفكرالبصري الايزوتوبي(و ترجمتها:"الفكر الاعتباطي") ، فهم ينتهون بالضرورة الى حالة عمى البصيرة التي لا ينفع معها اي بصر وان حدّ.
والبصيرة التي تعمى عن رؤية الطبيعة التناحرية لعلاقات القوى الاجتماعية ذات المصالح الطبقية المتناقضة، هي بالضرورة بصيرة طبقية،و عماها المزعوم هو حيلة أصيلة من حيل مدبّري الصراع المستفيدين من شرط العمى، عمى المقهورين و المستبعدين.و خلاصة الأمر، أمر القائمين على عرض فنون غير الاوروبيين، يمكن أن توجز في كون هؤلاء القوم زاهدون، ظاهر و باطن، في أي رؤية اجتماعية للمسألة الفنية. بل أن الرؤية الاجتماعية للمسألة الفنية صارت أمرا يصنّف في باب عدم اللياقة و الـ "بوليتيكلي انكوريكت" في أوساط العاملين في مؤسسات الفن المعاصر. و في هذا المشهد تصبح الرؤية الاجتماعية لأمور الفن الافريقي المعاصر وزرا في جسامة التابو السياسي المريع الذي يفسد بهجة الفنأفريقانية السعيدة على كافة الضالعين في مهرجان الاستبعاد الاجتماعي المتذرّع بذرائع الابداع.أن قدَر أدنى محاولة لطرح رؤية اجتماعية طبقية لواقع حركة الخلق في البلدان الافريقية ـ مثلا ـ هو أن تزلزل نظام المسلّمات الرمزية و السياسية الذي تأسس عليه تقليد فن الاستبعاد ضمن التقليد الأوروبي.ففي المرآة الاجتماعية لواقع حركة الخلق الأفريقية يخاطر الاوروبيون ـ و الفرنسيون على وجه الخصوص ـ يخاطرون برؤية صورة مخجلة لوجههم النيوكولونيالي المظلم في مركزالبؤس المادي و الرمزي المطبق على واقع حركة الخلق في أفريقيا.هذه الصورة التابو المنصوبة في مركز تناقضات النسخة النصرانية لثقافة رأس المال المتعولم، و التي لا يدركها بصر بغير بصيرة النقد الاجتماعي، أقول: هذه الصورة العجيبة مهمّة لأنها تقيم في قلب النسخة المعاصرة لأقدم شقاقات التقليد الثقافي اليهودي النصراني: شقاق التصاوير، شقاق التناقض التراجيدي بين صورة الحقيقة و حقيقة الصورة.
أن صورة بؤس العالم الثالث مبذولة اليوم عبر وسائط تكنولوجيا الاعلام ، و لكن مجرد بذل الصورة أمام العيان لا يعني أن الناظر اليها يشاهدها. فالمشاهدة تعليم، و أنا أستخدم عبارة الـ "تعليم" في معناها المزدوج: التعليم في معنى التأشير المادي على الصورة بوضع علامة تميزها بين فوضى التصاوير التي تزحم حقل البصر ، و التعليم في معنى تأسيس منهج نقدي في تربية البصيرة. يعني بدون تعليم لا يكون بصر و لا بصيرة. فهل يعني ذلك أن الاوروبيين ينقصهم التعليم حتى يتمكنوا من احسان مشاهدة
الوجود الذي نقاسمهم اياه؟لا، ثم لا و ألف لا،الاوروبيون على بصر حديد و بصيرة أحد لكنهم يشيحون بناظرهم عن صورتنا التي لا تطاق: صورة سوء التنمية الافريقي المزمن الذي يمثل الوجه المظلم القبيح لتنمية السوق الرأسمالي التي تحفظ للقوم مواقع الحظوة و الرفاه وتنفي الأفارقة لهاوية الافقار و التخلف.فعلا صورتنا لا تطاق ، بل أن من يتجاسر بالنظر ناحيتها يخاطر بأن ينمسخ تمثالا من الملح لأبد الآبدين كما تقول اسطورة افريقية (من اختراعي طبعا).لهذا يتفنن خبراء التصاوير الأفريقانية من ساكني اليوتوبيا الاوروبية في اختراع صورة أخرى لأفريقيا، صورة يمكن مشاهدتها بغير مخاطرة، صورة لأفريقيا خارج التاريخ ومنزّهة عن دنس السياسة والمال و غير ذلك من تناقضات حضارة السوق.بيد أن تناقضات حضارة السوق ليست قدرا أفريقيا يمتنع على غيرهم. فـ "التسوّي كريت في القرض .." لا بد و أن تجده في جلدها،و سيأتي اليوم الذي تبدأ فيه آلة الجمالية العرقية في اختراع فرنسيين يمكن مشاهدتهم بلا مخاطرة لو اقتضت ضرورات السوق المتعولم .و من يدري فقد يتاح للأفارقة في حينها أن يسدوا النصح للفرنسيين من واقع خبرتهم التاريخية، و أهلنا يقولون : أسأل مجرّب و لا تسأل حكيم. يومئذ يتحقق حوار الحضارة الحقيقي بين ضحايا حضارة رأس المال.

من إخترع الأفارقة ؟ 6

من اخترع الأفارقة؟

الحلقة السادسة
"سحرة الارض" و أرض السحرة

كثيرون هم المنتفعون بلقيات الاثنولوجيا المـُعـَرقـَنة على نهج " ميشيل ليريس"المتأنسن. وعددهم لا يقتصر على منظمي التظاهرات الفنية فحسب، فهم يقيمون في أقاليم السياسة العالمثالثية مثلما هم في أقاليم الأدب و الموسيقى و الفلسفات أو حتى في أقاليم علم النفس"الاثني" الذي يحاول الأوروبيون أن يعالجوا به أدواء نفوس"الآخرين" مما لا تطيقه تدابير علم النفس الأوروبي المطبوع بتراث الثقافة المتوسطية اليهودينصرانية.
و ضمن هذا المنظور، منظور استثمار لقيات الاثنولوجيا المعرقنة، أعالج معرض " سحرة الأرض"
Les Magiciens de la Terre, 1989
الذي نظمه " جان هيبير مارتان" [قبل عام من وفاة "ميشيل ليريس"]. و هو المعرض الذي اصبح مرجعا و نموذجا لسلسلة من المعارض اللاحقة خلال سنوات التسعينات.
و في معرض " سحرة الأرض " نجد مفهوم عـَرقـَنة العالم يعمل بكامل طاقته على مبدأ المساواة بين الثقافات الذي طرحه "ميشيل ليريس".فـ "جان هيبير مارتان" يعرض أعمال الفنانين غير الأوروبيين، كما يقول:"على قدم المساواة مع أعمال طليعتنا الفنية". و لكن ، خلافا لـ "ميشيل ليريس"، الأستاذ الجامعي الذي يخاطب جمهورا من الباحثين والمطـّلعين، فان " جان هيبير مارتان" يخاطب الجمهور العريض من زوارالمعارض.و هو،في الغالب ، جمهور غير ذي دراية بتراكب اشتباهات الشأن الاثنولوجي مع اشتباهات الشأن الفني.و بالنسبة لـ "مارتان" فالجمهور العريض من زوار المعارض الكبيرة يمثل مركز قوته مثلما يمثل نقطة ضعفه على صورة "كعب آخيل"،ذلك أن الرجل أمام نوع من قياس أقرن حدّه الأول حار و حده الثاني لا يُنكوى به.فمن جهة الحد الأول ـ و لنسمه حد الفنانين ـ ينطرح خطر قصورالجمهورالعريض غيرالمدرّب عن استيعاب الاشتباهات الجمالية الغالية الكامنة في أعمال الفنانين المعاصرين،مما يرمي بـ " مارتان " تحت طائلة قولة عيسى بن مريم المشهودة :"لا تنثروا الدرأمام الخنازير".ومن جهة الحد الثاني ـ و لنسمه حد الجمهور العريض ـ ينطرح خطر تبسيط الآثار الفنية و قصقصتها لتناسب طاقة الجمهورالعريض على الاستيعاب. و كل هذا يردنا لحكاية الشاعر العربي القديم الذي سأله رجل من العامة: "لم لا تقول ما يفهم؟" فرد الشاعر:"و لم لا تفهم ما يقال؟".و"مارتان" في هذا المشهد يقف موقفا فريدا كونه من جهة ينمسخ رهينة في يد جمهوره العريض الذي لا يفهم ما يقوله الفنانون، مثلما هو يمسخ جمهوره رهينة في اطار الحد الفكري و الجمالي الذي رسمه هو، و الذي تصور أن فهم الجمهور غير قادر على تجاوزه.طبعا أمر معرض " سحرة الأرض" يملك أن يتكشّف عن ملابسات أكثر تعقيدا من شرحي المبسـّط المجحف في حق الرجل.لكن "جان هيبير مارتان" بطبعه البيروقراطي كموظف في خدمة الدولة، و قل كـ "أفندي" قح من أفندية الجمهورية الفرنسية، فهو مشغول بقيمة الكفاءة في أداء الخدمة العامة و هي قيمة يسندها تقليد عريق في الصنعة البيروقراطية الجمهورية.و بغريزة الأفندي فالرجل ينحاز بعفوية تامة للجمهور العريض و " معليش " للفنانين.
و بين اشتباهات الاثنولوجيا واشتباهات الفن يقعّد "مارتان" آلته الحربية على منصّة السحر.والرجل لا يتناول السحروفق المفهوم الـ "علمي"للممارسة البدائية في توصيف الاثنولوجيين لها،و انما يتناوله حسب الاستخدام الدارج عند الجمهورالعريض المنبهربمايتجاوزطاقته على عقلنة الظواهر.وهكذا يتحلل"مارتان" من مقتضيات الترابط المنهجي التي يمكن أن تضايق حرية حركته وهو يدبر شؤون الصناعة المعارضية بين الفن والاثنولوجيا.ومن علياء منصة"السحر"، يتمتع"مارتان" بمطلق الحرية في"توجيه" الباحثين الاثنولوجيين الذين قد لا يقاسمونه قناعاته الفنية مثلما يتمتع بنفس القدرمن الحرية في"توجيه"الفنانين الذين قد لا يقاسمونه قناعاته الاثنولوجية.وهذه الوضعية تسوّغ للرجل أن يقول قولا في جور كلمته الغليظة المشهودة اياها:
"ان التأثير غير المفهوم البالغ الحساسية الذي يحدثه فينا الفن يمكن تشخيصه بعبارة
"السحر""
J.H.Martin,Préface du catalogue Magiciens de la Terre, pp.8,20
وفي شعاب المنهج السحري يمسخ"مارتان" مجمل المفاهيم والتصانيف التي تأسس عليها تقليد النقد الجمالي الأوروبي،العزيزة على"جان كلير"،يمسخهاالىضرب من ضروب الممارسةالسحرية"الشامانية"[الكجورية]،بيد أن هذا الموقف لا يمنعه من الاعلان عن توافقه مع"الأحكام الجمالية المتجذرةوالمؤصّلةفي تربة أوروبا الراهنة،"و التي يراها"مارتان" قابلة للاندماج في عالم الجماليةالمعرقنة.وعليه فالرجل لا يمانع في تجنّب مفهوم"الفنان" من اللحظة التي يصبح فيها هذا المفهوم عقبة أمام تصنيف فئات المشاركين في معرض"سحرة الأرض".وهذا الموقف يسوّغ لـ"مارتان" أن يكتب في مقدمة كاتالوغ المعرض كلمة هي مفتاح كل نظرية الصناعة المعارضية التي سيتبعها الفنأفريقانيون من بعده:
"من الحكمة أن نتجنّب ذكر كلمة"فن" في عنوان المعرض كونهاستجرنا الى اللبس اذا استخدمناها لتصنيف أنواع الابداع الوافدة من مجتمعات لم تخبر مفهوم الفن".
و"الكلام ليك ياالمُـنطّط عينيك"،فـ "المجتمعات التي لم تخبر مفهوم الفن" ديل أنحنا
زاتنا..لكن مافي داعي للزعل،فـ"مارتان"في صفنا.و بما أنه يرى تعذّرتعميم صفة"الفن"
علىنتاج الممارسات الفنية الوافدة من خارج أوروبا فهو يسحب صفة الفن من الجميع و يطبّق بدلا منها صفة"السحر"على كافة الممارسات التي يحتفي بنتاجها معرض"سحرة الأرض".و لا جناح على "مارتان" و لا يحزن الفنانون الأوروبيون الذين هم بالسحر فرحون منذ أن طلع عليهم الالماني " جوزيف بويس" بمفهوم الفن كممارسة شامانية.و بجاه " جوزيف بويس" صارت صفة الفنان الشامان أو" الكجور" مرتبة لا يدركها سوى الراسخون في الصنعة الشامانية.لكن ضلال " مارتان " لا ينتهي عند مقايضة الفن بالسحر فحسب، فصاحبنا يفسّر منطق سوق الفن و ظاهرة التضخّم المالي على صعيد حركة البيع و الشراء " بالسحرالكامن وراء هذه الممارسات ذات المظهر المغالي في ماديته أحيانا"( مقدمة كاتالوغ سحرة الأرض ،ص 21-22).و اذا كان " مارتان" الخبير الدولي المحترف، و الذي يعرف تماما أن سوق الفن أبعد ما يكون عن سوق السحرة و الشامانيين، لا يتورّع عن تفسير قانون السوق بالسحر فذلك يعني أن هذا النوع من التفسير يجد أذنا صاغية في أوساط الجمهور العريض الذي يتمنى من صميم قلبه، و من عمق ذاكرته الرومانسية أن يبقى الفن بمنأى عن السوق ، و لو كان ذلك المنأى في علياء السحر.و مارتان يعرف ـ أو على الاقل يستشعرـ روع جمهور الفن من بأس السوق في المجتمع الرأسمالي المعاصر. ذلك أن الفن بوصفه آخر المعتقدات الجمعية الكبيرة يجب أ لا يقع في قبضة سادة السوق، فالفن في حكمة الشعب " لا يقدّر بثمن".و حين يقرر "مارتان" كل هذا فهو يستعين بسحر مضمون المفعول، هو سحر اللبس المتكنّز في تلافيف الكلام التقريبي الذي " يدّي الحلة روراية و يدي الدلّوكة عصا" كما تعبر بلاغة الغبش.و خيار التقريب كمنهج في مخاطبة الجمهور انما يرتهن بواقع الوعي الراهن الحاصل وسط الجمهور العريض(.وأستخدم عبارة "الوعي" في الكلام عن " الجمهور العريض" لأن الوعي الفني ـ بصرف النظر عن نوعيته ـ حاصل بالقوة بحكم أن الجمهور العريض، من واقع تعرضه العفوي لوسائل الاعلام و من واقع تعليمه النظامي و غير النظامي معرّض لحركة الوعي السائد. لكن حاصل الوعي العفوي لا يؤدّي ما لم يتم تعهده بالصقل و المراس الناقد القاصد الراصد و الذي، حتى ان لم يبلغ حد التخصص، فهو يهيء المتلقي لمحاورة المبدع بندية فكرية، كون الصقل و المراس النقدي يوجهان بصيرة المتلقي لما هو جوهري في فعل الابداع).أقفل قوس الاستطراد و أقول ان الوعي التقريبي للجمهور بالظواهر الفنية في سياق انتاجها الجمالي و الاثنولوجي يسوّغ لـ "مارتان" التقرير بـ " ان المقاربة الحسية الحدسية للعمل الفني تغلب على المقاربة العالمة المتثاقفة"، و هذا ضرب من تحصيل الحاصل ، اذ لا أحد يغالط في كون المقاربة الابتدائية للأثر الفني انما تكون حسية حدسية قبل أن تكون معرفية. لكن هذا التقرير لا يمنع هذه المقاربة الحدسية من أن تنبني على خبرة و على معرفة مسبّقة بالقوانين و الشروط العامة التي يتعرف عليها منهج مقاربة الأثر الفني.هذه " المعرفة المسبّقة" في خاطر الجمهور هي ما اصطلح على تسميته بالثقافة الشعبية. و هي المعرفة التي تتخلّق وسط الأحكام المسبّقة السائدة التي تعطي أفراد الجمهور العريض الانطباع بأنهم يتقاسمون نفس الرصيد الرمزي و تقوي عندهم الاعتقاد بالانتماء لنفس الثقافة.
و على قاعدة ثقافة الحدس هذي يبذل " مارتان" معرض " سحرة الارض" كذريعة للتأمين على منظومة الأحكام الجمالية و العرقيةو ادّعاءات الأنسنة النصرانية لجمهور الطبقة الوسطى الفرنسية الذي لا يداخله شك في كونه يمثل مستودع القيم الانسانية الكونية و ملاذها الوحيد.و لا عجب فمن جهة نجد منفعة كل المعارض الجماهيرية الكبيرة انما تكون في قدرتها على التأمين على الأحكام المسبّقة في خاطر الجمهور العريض.و من الجهة الأخرى فالجمهور العريض لا يؤم سوى المعارض التي يجد فيها ما يتملق عواطفه و يدعم مسلماته العامة.
و ضمن هذا المنظور يمكن أن نتساءل :ما هي المنافع التي يتوقعها الجمهور الفرنسي العريض في معرض مثل معرض " سحرة الأرض" ؟
تقول حكمة البسطاء:" سيد الرّايحة يفتح خشم البقرة"، و قد تقاطرت جماهير الطبقة الوسطى الفرنسية بمئات الآلاف لتشهد معرض " سحرة الأرض" في حماس غير مسبوق،لترى و تلمس تجسدات منظومة القيم الجميلة للمجتمع الذي اخترع" حقوق الانسان" و جعل من معاني " المساواة و الحرية و الأخاء" شعارا لدولة الجمهورية الفرنسية.و هي معان تتصدر معرض " سحرة الأرض" ضمن اخراج (ميزانسين) مسرحي ألمعي يبلغ الغاية في تجويد الصناعة المعارضية.و رغم أن معرض " سحرة الأرض" يضم عددا كبيرا من الفنانين المعاصرين الوافدين من خارج التقليد الفني الأوروبي الا أن خطاب العرض لا يتوجه لغير الأوروبيين ليعبر لهم عن أن الفرنسيين يكنون لهم أسمى المشاعر الانسانية، لا، خطاب " سحرة الأرض" الأساسي يتوجه للفرنسيين لتذكيرهم و تطمينهم بأنهم ما زالوا أفضل حماة "حقوق الانسان" ، و أنهم ما زالوا ابطال قضايا المساواة و الحرية و الأخاء ، على الأقل على المستوى الثقافي، حيث أن حماية قيم حقوق الانسان على المستوى السياسي أو الاقتصادي صارت تستشكل على القائمين على أمور السياسة و الاقتصاد و تفسد عليهم أمور ميراثهم الانسانوي، بل أن مجرد النطق بعبارة" حقوق الانسان" في ساحة السياسة الفرنسيةصار يعادل النطق بعبارة" افتح يا سمسم" الشهيرة التي تفتح مغاليق المغارات الاكزوتية السحرية ، بيد أن عبارة " حقوق الانسان"، في مشهد السياسة الأفريقية لفرنسا، صارت تفتح للقوم " طيز وزّة" في سعة القارة المظلمة اياها، و ذلك حين يسمعون رئيس وزراء ديغولي من وزن
" جاك شيراك" يصرح أثناء زيارة رسمية لغرب أفريقيا، و في حضرة " صديقه" الجنرال " اياديما"، ديكتاتور"توجو" السابق ووالد ديكتاتورها الحالي ، يصرّح معزّيا كل الطغاة الأفارقة المذعورين من تقدم الحركة الديموقراطية بـ " ان الديموقراطية الغربية لا تتناسب مع الثقافة الأفريقية ". أو حين يسمعون رئيس وزراء اشتراكي من وزن" ميشيل روكار"، الذي يعد من أميز أيديولوجيي الحزب الاشتراكي،يطلق التصريحات العدائية ضد المهاجرين الوافدين من مستعمرات فرنسا السابقة و يقول القولة المشهودة التي عادت عليه بخسائر سياسية مهمة:" ان فرنسا لا تستطيع أن تتحمّل كل بؤس العالم" .و أمثال هذه العبارات القاتلة كثيرة، بل هي نوع أدبي بحاله يلجأ اليه عدد كبير من ساسة فرنسا من أقصى اليمين ليمين اليسار، و ذلك حين يتنافس المتنافسون أثناء المعارك الانتخابية على كسب ود الناخبين على حساب المهاجرين من بلدان المستعمرات الفرنسية السابقة.
و اذا كان فرنسيو نهاية الثمانينات في حاجة لمن يؤكّد لهم نبل قيم مجتمعهم، و التي هي، من حيث المبدأ،لا تحتاج لتأكيد باعتبارها ، افتراضا، من ثوابت الذاكرة الجمعية، فما ذلك الا لأن هذه القيم النبيلة قد تعرضت ، في مكان ما من الوعي الجمعي، لزلزلة عميقة من جراء الأزمة التاريخية المركّبة التي أدركت البنى الاقتصادية مثلما أدركت القناعات الاخلاقية لمجتمع نصراني اشتراكي المزاج لكنه حريص ـ اليوم أكثر من الأمس ـ على رقابة مناطق نفوذه النيوكولونيالي في الارض الافريقية.أرض السحر و المواد الخام التي بدونها تصبح صيانة المستوى المعيشي لليوتوبيا الجمهورية أمرا مكلفا لا يطيقه المواطنون الأحرار.
جاء في الأثر:" اذا لم تستح فاصنع ما شئت".و ذلك هو حال هؤلاء المواطنين الأبرار الأحرار الذين يصنعون ما يشاءون بالذات حينما يتعلق الأمر بالقارة المظلمة.هؤلاء المواطنون الأحرار من بناة أوروبا لم يترددوا في تنظيم قمّة أوروبية أفريقية في عام ألفين بغرض التفاكر مع زعماء افريقيا حول أنجع الوسائل لمواجهة العولمة..يالنبي نوح، و منذ متى كانت المفاكرة في العولمة تتناسب مع الثقافة الأفريقية؟؟ثم ما هو هذا الوباء الجديد الموصوف بالعولمة ان لم يكن يمثل العاقبة المنطقية لسياق دمج البنى الاجتماعية و الاقتصادية في منطق السوق العالمي؟و هو سياق ذاق مرّه الافارقة منذ أجيال و دفعوا ثمنه، و مازالوا يدفعون، بعملة سوء التنمية و الديون الجائرة و الحروب المزعومة عرقية و المجاعات الاصطناعية و الحقيقية.. الخ.لقد حفر الأوروبيون حفرة سوء اسمها الاستعمار، و ما خطر ببالهم أن ظروف السوق قد تضطرّهم للانحشار فيها مع بقية المستبعدين فلم يوسعوا فيها مراقدا تسعهم مع المغلوبين،أو كما جاء في قولة( من اختراعي) للشيخ فرح ود تكتوك: يا حافر حفرة "السوق" وسّع مراقدك فيها..
و الأوروبيون، في مواجهة شروط السوق المتعولم، في حال يرثى لها من الروع من الحضور التجاري القوي لبعض مجتمعات العالم الثالث كالصين التي كانت قبيل عقود تحت الهيمنة الاستعمارية مثلما يروعهم موقف حليفهم التاريخي الأمريكي الذي لا يخفي أطماعه في الاستحواذ على نصيب أوروبا في مناطق نفوذها التاريخية ، في أوروبا ما بعد الاتحاد السوفييتي، أو في العالم الثالث. و رغم ذلك فكل ما خلص اليه القوم من درس العولمة المريع هو التفاكر مع"زعماء" مزعومين لأفريقيا لاقناعهم بالحفاظ على قيودهم الاوروبية الصنع بدلا من استبدالها بالقيود الجديدة التي يعدهم بها الامريكان.طبعا لا أحد في أوروبا يفكر في تشريك شعوب أفريقيا في البحث عن أفضل المخارج نحو تنمية حقيقية و عادلة لأفريقيا و لأوروبا معا.ربما لأن الأوروبيون ـ على نهج "شيراك" مقتنعين بأن الشراكة في تنمية العالم لا تناسب الثقافة الأفريقية.و ربما لأن القوم ـ على نهج "روكار" يتوجسون من أن يغمرهم بؤس العالم لو خاطروا بتشريك الأفارقة ( وغير الأفارقة) في مشروع تنمية يليق بفداحة الأسئلة التي يطرحها واقع العولمة على الناس هنا و هناك.

القسمة الضيزى :
و مع ذلك فـ " الحذر واجب" على حد عبارة "مارتان" الذي ينبهنا الى ضرورة " الحذر من التبطيق التبسيطي الذي يملك أن يطمس التعقيد و التركيب اللاحق ببعض الوضعيات المحلية"، بيد أن " الجمل
، كما يعبر أدب الغبش، ضارب طناش و ما شايف عوجة رقبته" ، لأن "الحذر" لا ينفع مع صاحبنا. فبعد مرور احدى عشر سنة على معرض "سحرة الارض"، يعود"مارتان" ـ عودة حليمة لقديمه ـ لموضوعه المفضّل: عرقنة العالم.عالم مسكون ، حسب رأيه،بأعراق أوروبية و أعراق غير أوروبية تتبادل النظر فيما وراء الميراث الاستعماري و الواقع النيوكولونيالي.عالم تكون فيه " كل ثقافة اكزوتية بالنسبة للثقافة الأخرى". و هكذا ففي مقابلة صحفية أجراها معه محرر " لوموند" بمناسبة معرض " قسمة الاكزوتية" الذي دبره "مارتان" لـ "بينالي ليون" للفن المعاصر
Le Monde,25/6/2000
يصرّح "مارتان"بـ " ان كل الثقافات تتساوى في قيمتها، و هي بذلك تملك القدرة على تبادل النظر ضمن علاقة ندية تكون فيها كل ثقافة في نظر الأخرى أجنبية و غريبة و اكزوتية".و في كتالوغ معرض " قسمة الاكزوتية"
ِ « Partage d’ Exotisme »,Catalogue d’ exposition, 5e Biennale d’ Art Contemporain, Lyon/Paris RMN,2000
يتمتع "مارتان" بلقب "قومسير ضيف"
« commissaire invité »
بلا شك لأنه استجاب لدعوة منظمي بينالي مدينة" ليون": " تيري برات" و "تيري راسباى" و هما يتوليان أمر متحف الفن المعاصر بليون.و " برات " و "راسباي" يعتبران نفسيهما من حواريي " مارتان" الذي يبجلانه كعَلـَم و كعالم رائد في الصناعة المتاحفية للفن المعاصر(الميوزيوغرافيا).و في الحقيقة فان صفة رائد "ميوزيوغرافيا"(يالها من عبارة) الفن المعاصر التي جاد بها "راسباي" و "برات" على معلّمهما لا تجانب الصحة تماما. و ذلك لأن " مارتان" من جهة يعد بين القلائل من منظمي المعارض ممن تجاسروا على خلخلة تقاليد الصناعة المعارضية الأوروبية. و من الجهة الأخرى فان " ميزيوغرافيا" الفن المعاصر تنطرح اليوم كمعرفة حرفية ، و قيل كـ" علم" يتخلّق عفو الخواطر و المساهمات المتفرقة على تناقض المصالح و المطالح و تحت شروط اللبس المقصود و غيرالمقصود الذي يطبع مشهد الفن المعاصر. و بعبارة ، فان الصناعة المتاحفية للفن المعاصر صارت تلتبس ـ وعن عمد غالبا ـ مع موضوعها نفسه.بل أن" الميوزيوغرافيا" تجور في بعض الحالات على موضوعها لتبذل نفسها فنا بدلا عن الفن نفسه.و هذا جور يشهد عنه ذلك النفر من مشاهير منظمي المعارض المعاصرين الذين يتصرفون مثل" أم العروس" التي تتغوّل على محل العروس و تستولي عليه و تصبح عروسا بدلها.و "مارتان"و آخرين، من "منظماتية" المعارض العولمية ،هم اليوم في مقام الآلهة في مشهد العلاقة بين الفنانين و الرعاة.و العلاقة بين الفنانين المعاصرين و الرعاة من اهل" الميوزيوغرافيا" باب يستحق المزيدمن التأنّي و سأحاول أن اتفرّغ له ضمن براح آخر.
قلت أن"مارتان" في معرض " قسمة الاكزوتية" ينتفع بلقب" القوميسير الضيف"، ضيف الشرف الذي يستدعي الى الخاطر بدعة "النجم الضيف"
« Guest Star »
الواردة من تقليد سينما النجوم الهوليودية. و هو لقب منحه اياه أثنان من حوارييه المخلصين تعبيرا عن التبجيل الذي لا يخفيانه لـ "المعلم"، رائد سحرة الميوزيوغرافيا المعاصرة.و في مقدمتهما لكتالوغ معرض البينالي يعبر الرجلان عن اجلالهم باستعادة اطروحات مارتان الرئيسية في ميوزيوغرافيا الفن المُعَـرقـَن.
واذا حاولنا تجنّب طمس الاشتباهات المركبة اللاحقة بالوضعية المحلية لهذا المعرض، فمن الأولى التعامل مع معرض " قسمة الاكزوتية" بوصفه شهادة نجاح لمعرض "سحرة الأرض"، مثلما هو في الوقت نفسه شهادة وفاة لهذا النوع الوليد من أنواع الصناعة المعارضية المعنية بفنون غير الأوروبيين.أقول: المعرض شهادة نجاح لمعرض "سحرة الأرض" لأنه يستعيد الأفكارالرئيسية لمعرض"سحرة الأرض" و يبعث فيها الحياة بعد أكثر من عشر سنوات.و في نفس الوقت فمعرض "قسمة الاكزوتية" شهادة وفاة لمعرض "سحرة الأرض"، لأنه يحنّط مفاهيم "سحرة الأرض" في شكل تمرين أكاديمي مغلق على نفسه بشكل لا مجال فيه لأي اعادة نظر نقدية.و تجفيف مغامرة معرض "سحرة الأرض" انما يتم باسم النوايا الطيبة التي تمسخ احترام الحواريين لشيخهم الى نوع من التوثين العصابي الجائر الذي يجعل الحواريين يعانقون شيخهم بقوة فيكتمون أنفاسه حتى الموت. و من يدري؟ فربما انطوى اعجاب "راسباي" و "برات" المفرط بـ " مارتان"على شكل ملتوي من أشكال "قتل الأب"، و"كل شي في الحيا جايز"(رمضان زايد).أقول : لكي نتجنّب التبسيط المجحف الذي يملك أن يطمس الاشتباهات المركبة لموقف "مارتان" فيجدر بنا الاقرار بكون هذا النوع من المعارض انما يعيد النظر في ثوابت التقليد المعارضي الأوروبي الذي يعتبر الفن كممارسة ثقافية شأن يخص الأوروبيين دون غيرهم. و في هذا المنظور يمكن قبول فكرة أن الثغرة التي فتحها "مارتان" أمام الفنانين غير الأوروبيين تروّع حراس التقليد الثقافي الأوروبي أيّما روع.بل هي يمكن أن تعتبر محاولة رائدة لـ " ترحيل"( في معنى:
Délocalisation)
لمركز المبادرة الفنية المعاصرة الى خارج الحدود التاريخية/الجغرافية للتقليد الثقافي الأوروبي.أو كما عبّر "مارتان" في نفس مقابلة "لوموند" معترفا بالصعوبات التي تعترض فكرة عرض أعمال الفنانين غير الأوروبيين مع أعمال الأوروبيين على قدم المساواة:
"انها، بالضرورة، فكرة غير مقبولة هنا في أوروبا أو في أي مكان آخر". ذلك لأن فكرة ترحيل مركز المبادرة الفنية لا تزعزع حراس اليوتوبيا الاستبعادية من شاكلة "جان كلير" فحسب، و انما تتعدّاهم لتزعزع قطاعا معينا من غير الأوروبيين على صورة " بعض النقاد الصينيين " الذين روّعتهم فكرة "مارتان" لأنها تخلخل القناعات الجمالية النهائية و المريحة التي خلّقوها و صلّدوها بشكل لا رجعة فيه على المراجع و التصانيف الايديولوجية و الجمالية التي أورثهم اياها التقليد الثقافي الأوروبي.
و اذا كان هناك نفر بين الفنانين و النقاد الأوروبيين قادر على قبول فكرة الغاء مفهوم الفن و تبديله بمفهوم السحر، فما ذلك الا لأن المسألة في تحليلهم النهائي "كلها فن في فن".و هو موقف لا يصدر الا من طرف قوم فكرة الفن متأصلة و ثابتة في خاطرهم كـ "دوغما" دينية لا غنى عنها و كقدر لا فكاك منه.يعني فن أو سحر "كله عند الغرب صابون" و " زيتهم في بيتهم".المشكلة هي أن غير الأوروبيين من شاكلتنا، نحن الذين ورثنا التقليد الثقافي الأوروبي تحت شروط الهيمنة الكولونيالية و النيوكولونيالية بلا زيت أو بيت، لا نملك الا أن نرتاب بالمبادرات التي يبذلها الأوروبيون بسبيل اعادة النظر في مفاهيم هذا التقليد الذي صار تقليدنا بالتبنّي، كوننا بذلنا جهدا كبيرا في استيعابه و تمثيله و تملّكه ، و في زمن قياسي نسبيا.(و خير مثال يحضرني على الفارق الكبير بين الشروط التي استوعب فيها الأوروبيون مفاهيم الحداثة و الشروط التي استوعبنا فيها نحن نفس المفاهيم هو مثال المساواة في الحقوق السياسية بين الرجال و النساء.فالفرنسيون الذين يتفاخرون بكونهم أنجزوا " اعلان حقوق الانسان و حقوق المواطن" قبل قرنين من الزمان ، انتظروا قرن و نصف قبل أن يمنحوا النساء حق الاقتراع في منتصف اربعينات القرن العشرين.أقفل قوس الاستطراد في حقوق الانسان المؤنث هنا) و اعود للنقاد الصينيين الذين اعترضوا على فكرة " قسمة الاكزوتية". فهؤلاء " النقاد" هم أفضل قطعة في لغز" بزل"
Puzzle
التواء الحداثة المعاصرة كونهم في مركز وسط بين قطعة "مارتان" و قطعة "كلير". فهم يستنكفون الدخول من الثغرة التي يفتحها لهم" مارتان" لكن استنكافهم يمسخهم بالضرورة الى حلفاء ممتازين غير متوقعين لـ "كلير" الذي يرفضهم بالكلية.
و مع ذلك فان الشيء المثير للحيرة في أمر "مارتان" هو أن "الثغرة" التي فتحها في جدار التقليد المعارضي الأوروبي لا تتسع لتصبح بوابة مفتوحة نحو الحوار المزعوم بين الثقافات المتساوية اياها.و ربما وجد هذا الامر تفسيره في كون "مارتان" ـ بخلاف " ميشيل ليريس"ـ أراد لهذه "الثغرة" أن لا تتجاوز سعة " صمام الامام" الذي يمكن الأوروبيين من تجنّب الاختناق في سجن تقليدهم الجمالي المغلق عليهم بلا نوافذ أو مسارب للهواء.و هو تقليد منفعته الأخيرة تتلخص في تبرير امتيازات القلّة الأوروبية المترفة التي تهيمن على خيرات العالم المادية و الروحية و تقهر المستبعدين باسم امتياز وهمي اعتباطي أسّسوه على خصوصية حضارية بائدة تواطأوا على تسميتها بـ "الغرب".لا يا سادتي، لم يعد هناك غرب أو شرق تعولون عليه في استبعادنا، فنحن الغرب و الشرق و الشمال و الجنوب و الداخل و الخارج و الأعلى و الأسفل و الأبيض و الأسود و الحلو و المر و القوة و الضعف و الموت و الحياة معا، و انتم كذلك، شئتم أم ابيتم. و لو غاب علي بصائركم فهم واقع بهذه البداهة ـ و هيهات ـ فما ذلك الا لأن عواقب فهم هذا الواقع تعود بالضررعلى مصالحكم و امتيازاتكم .بل أن مجرد ورود خاطر الشراكة بيننا و بينكم في خيرات العالم الراهن المادية و الروحية صار خطرا يزلزل أمنكم الرمزي زلزلة تتصورون
معها قيامة العالم، في حين أن الأمر في الواقع لا يتجاوز قيامة عالم الامتيازات المذنبة الذي بنيتموه من بؤس المستضعفين في الأرض.

من إخترع الأفارقة ؟5

من اخترع الأفارقة؟
الحلقة الخامسة
صلاح الاثنولوجيا في اصلاح الآيدولوجيا

ان ساغ لي أن أعارض " جان كلير" بـ " جان هيبير مارتان " ـ رغم قناعتي بأن كلاهما خرجا " من
معطف " ميشيل ليريس، الأب الروحي للأثنولوجيا التقدمية في فرنسا، فذلك لأن معارضة الواحد بالآخر تتيح لي رسم خارطة اللبس المفهومي الذي يربط فن الأفارقة بما اصطلح الأوروبيون على تسميته بـ " الفن".
أقول " الأوروبيون" و أنا أتحدث عن شخصيتين فرنسيتين لأن الصورة السائدة لهذا " الفن الأفريقي المعاصر" تدين بالكثير لمؤسسات الرعاية الفرنسية الرسمية و شبه الرسمية و ذلك منذ عهد الاستعمار.
طبعا الأمر أكثر تشعبا و تركيبا من تبسيطي البائن.لكن الفن الأفريقي المعاصر عبر تشعبه و تركيب علائقه يطرح ـ بوصفه اختراعا أوروبياـ خصوصية مـُنغـّصة كونه أيضا أداة استبعاد تسحر المستبعَـد ين قبل المستبعدين .فمن جهة " جان كلير" ،الذي يلعب دور حارس الهوية الأوروبية للفن ، فالأمور تبدو بسيطة لمن يرغب في تبسيطها.يعني غير الأوروبيين ناس مختلفين و غرباء على مفهومنا للجمال و ليس في مقدورهم فهم ما نحن بصدده منذ قرون.أذا سمحنا لهم بالولوج في حرم ثقافتنا الأوروبية فقد يلحقون بنا الضرر مثلما قد يلحقون الضرربخصوصيتهم الثقافية.و بالتالي علينا أن ندعم حصوننا و استحكاماتنا و لنكثر من اجراءات الضبط و التمحيص على الحدود الثقافية بين عالمنا و عالمهم.
وضمن هذا المشهد لا يكتفي " ج . كلير" باسداء النصح أزاء ما يجب اتخاذه من اجراءات ، بل هو ينخرط بحمية في الجدال الدائر حول موضوع الهوية الثقافية.و هو جدال يواجه فيه " ج . كلير" خصم حميم من وزنه هو " جان هيبير مارتان" الذي يقف "كراع" في الاثنولوجيا و "كراع" في الصناعة المعارضية .و " مارتان" يطرح نفسه في الحلبة كـ" نقيض /مكّمّل" مستديم لـ " كلير ". و جدير بالذكر أن كلاهما موجود في الساحة الثقافية الفرنسية بشكل مستديم خلال العقدين الأخيرين على الأقل. " ج . كلير " كناقد فني و متحفي، و " ج .هـ . مارتان " كمتحفي مختص بالفنون غير الأوروبية.
في مقدمة كاتالوغ معرض " سحرة الأرض" يعرّف " مارتان" حدود المناقشة ـ لعناية " كلير" غالبا ـ بوصفها مناقشة حول هوية فن أوروبي غايته استيعاب فنون المجتمعات غير الأوروبية. و في أسلوب المناظر المطبوع بنبرة الناطق الرسمي الثقافي يطمئن " مارتان " السلطات السياسية التي خوّلته ليتولى عنها مشقة تدبير اشتباهات الشأن الفني المعاصر بين اشكاليات السياسة و علم الجمال.
يكتب " مارتان " في مقدمة كتالوغ معرض " سحرة الأرض "
".. ان الادّعاء الرائج بعدم وجود الابداع التشكيلي الا في العالم الغربي أو في المجتمعات المتأثرة جدا بالغرب ليس سوى أثر باق من النزعة الاستعلائية لثقافتنا.ناهيك عن أولئك الذين يعتقدون حتى اليوم بأن امتلاكنا للتكنولوجيا يجعل ثقافتنا أفضل من غيرها من الثقافات. و حتى أولئك الذين يصرحون بلا مواربة بأن لا مجال للمفاضلة بين الثقافات فهم يجدون صعوبة كبيرة في قبول فكرة أن أعمال فنية من العالم الثالث يمكن أن توضع على قدم المساواة مع الأعمال الفنية لحركاتنا الطليعيات.هذا الموقف يدل على أن المقاومة في مجال التشكيل أقوى منها في مجالات ثقافية أخرى كالموسيقى و المسرح و الفنون الاستعراضية أو الأدب. "
Jean-Hubert Martin, Magiciens de la Terre , Paris, Ed. Ce,tre Georges Pompidou, 1989, p.8
و ضمن تكاملهما النقدي يبذل كل من " كلير " و " مارتان " ـ كل بطريقته ـ يبذلان لقراءهما صورة لأوروبا باعتبارها طبق الغرب، ثم يسعى كل منهما ـ كل بطريقته ـ لترميم الحدود بين الثقافة الأوروبية و الثقافات غير الأوروبية ، و لو شئت قل بين المجتمعات النامية [ سمّها المتحضرة] و المجتمعات المتخلفة [ و سمّها البربرية ] .فمن جهته يقوم " ج . كلير "ـ في دور الأوروبي مالك الكون ـ يقوم بصيانة الحدود السياسية القائمة و يسقطها على واقع حركة الثقافة المعاصرة ،ليقوم بعد ذلك بنفي ثلثي الانسانية خارج التقليد الثقافي الأوروبي.لكن نفي غير الأوروبيين خارج التقليد الثقافي الأوروبي ما عاد ممكنا في العالم المعاصر الذي يتميز بكون التقليد الثقافي الأوروبي النصراني فيه قد تمكن ، ضمن منطق اقتصاد السوق، تمكن من أن يفرض مراجعه و أحكامه على أزمنة و أمكنة كل الضالعين في ثقافة السوق، يعني علينا كلنا على اطلاق العبارة. و سواء كنا أفارقة أو آسيويين أو أوروبيين أو أمريكيين فنحن نتغذى كلنا من نفس التقليد الثقافي، تقليد ثقافة السوق الرأسمالي و على ضروراته ندبر أمور ديننا و دنيانا. بلا شك فـ " جان كلير " أدرى بكون معاصريه ، أفغانا كانوا أو جزائريين ،غير قابلين للنفي خارج التقليد الثقافي المعاصر الذي يدعي الأوروبيون ملكيته.و بالتالي لا يبقى أمامه الا العمل على ترميم و صيانة الهوية الجمالية الأوروبية في بعدها الذي لا تطاله يد غير الأوروبيين، بعد" الماضي المجيد" لثقافة أوروبية سابقة على عهد التماس و التمازج مع المجتمعات غير الأوروبية. ان ثقافة أوروبا قبل الرأسمالية تصبح عند" جان كلير" مساحة ذات حظوة خاصة تسوّغ له أن يسقط عليها تمّيز الهوية الثقافية الأوروبية بالتعارض مع غيرها.و هي المساحة الوحيدة التي يمكن عليها رسم حدود ثقافية بين أوروبا و غير أوروبا، و لو شئت قل بين الحضارة و البربرية.ففي الزمان و المكان قبل الرأسماليين ، قبل اكتشاف " الدنيا الجديدة " ، قبل الثورة الصناعية ، قبل الاستعمار، قبل التجارة الكبيرة العابرة للقارات، كان في وسع أوروبا أن ترى نفسها في مرآة الآخرين ككيان غربي متميّز و كامل بلا قسمة أو نزاع في المواريث و الغنائم.كان بوسع الأوروبيين أن يعبروا ببراءة حقيقية عن دهشتهم الكبيرة أمام" الآخر " على نحو التساؤل الشهير" كيف يمكن للمرء أن لا يكون أوروبيا ؟". و في هذا المشهد يمكن لـ " جان كلير " أن ينتقد ـ و عن حق ـ عواقب الضلال النيوكولونيالي على ثقافات ما قبل رأس المال في المجتمعات غير الأوروبية ، و في نفس الوقت ينتهز فرصة هذا الالتباس النيوكولونيالي ليتمركز ـ و عن باطل ـ كأفضل حراس الثقافة الغربية في وجه البرابرة الوافدين من العالم الثالث.
و اذا كان " جان كلير " يسعى لبناء الأسوار العالية لتحصين الثقافة الأوروبية و فصلها عن الثقافات الأخرى ، فان " جان هيبير مارتان" يتبع أسلوبا مغايرا فحواه صيانة حدود الآخرين على مزاعم المساواة و التعارض و التساند على حق الاصالة. " جان هيبير مارتان " يرى غير الأوروبيين كأنداد قابلين للمقارنة و للمعارضة مع الأوروبيين. بل هم قمينون برد النظرة التي يلقيها عليهم الأوروبيون بنظرة ندية معاكسة.و فكرة " رد " النظرة الأوروبيةفي نظري[ الضعيف ]، ليست منزّهة تماما من شبهات العرقية ، بالذات حين يحاول الأفارقة رد النظرة الأوروبية العرقية بنظرة افريقية عرقية معاكسة.و قد وجدت هذه الفكرة الغريبة بعض الصدى في شعار" عكس البخار" أو" رد البخار "
« Renverser la vapeur » « reversing the steam «
الذي رفعه منظموا معرض أول بينالي في جنوب أفريقيا ما بعد الأبارتايد فكأنهم يبشرون العالم بأبارتايد معاكس.
ان منطق " مارتان " ـ و الذي لا يقل تعقيدا عن منطق " كلير " ـ انما يعتمد على فكرة " عرقنة " الثقافة الأوروبية مثلها مثل غيرها من الثقافات غير الأوروبية التي لا يراها الأوروبيون الا " مـُعَـرقنة" . و أنا أستخدم عبارة " عرقنة الثقافة " في معنى اختزالها الى أصل عرقي " اثني"
Ethniciser
و فكرة " عرقنة " الثقافة الأوروبية تسوّغ لـ " مارتان"تأسيس مفهوم المساواة بين كافة الثقافات بلا استثناء على طموح انساني نبيل فحواه تحقيق وحدة الأعراق و الثقافات المتعددة سعيا الى اليوتوبيا العالمية [ و قيل " العولمية"].وفي هذا الأفق تكتسب كل ثقافة مشروعيتها من رغبتها في الاندغام في اليوتوبيا الأوروبية ، تحت رعاية أوروبا ، التي، باسم حظوتها التاريخية الموروثة من عهد الاستعمار، ترى نفسها بشكل طبيعي كصاحبة المبادرة[ اقرأ" مالكة المبادرة" ] و من ثمّ فهي تعطي نفسها حق احتكار ادارة المشروع الطوباويي و تعريف الشروط التي يتحقق على هديها.
و عرقنة أوروبا بذريعة النظر المعكوس الصادر من طرف غير الأوروبيين هي فكرة قديمة عزيزة على " ميشيل ليريس "، الأب غير الشرعي للفن الأفريقي المعاصر. و كان" ليريس" قد أطلق ما يمكن أن نطلق عليه مفهوم" النظر الراجع" لمعالجة الوضعية المذنبة للباحث الاثنولوجي المبعوث الى المستعمرات من قبل مؤسسات السوق الرأسمالي.و في خصوص علاقة الباحث الاثنولوجي بالدولة الاستعمارية يقول " ليريس "في كتابه" خمس دراسات في الاثنولوجيا"
" مهمتنا الاثنولوجية ما هي الا تكليف من طرف الدولة.و نحن آخر من يتبرّأ من عواقب السياسات التي تمارسها الدولة و ممثلوها على هذه المجتمعات التي اخترناها نحن كموضوع للدراسة ".
Michel Leiris, Cinq Etudes d’ Ethnologie, Paris ,Denoël/Gonthier, 1969,p.87
و رغم ذلك فـ " جان هيبير مارتان ـ كما سنرى ـ " لا يتّبع خطى الأب الروحي للفنأفريقانية الفرنسية باخلاص" الحافر على الحافر".ان فكرة " ميشيل ليريس " ـ اذا صرفنا النظر مؤقتا عن طموحها الانساني الطوباوي ـ تبدو ، من منظورعلاقة الاثنوغرافيا و الاستعمار ،فكرة ثورية " مخرّبة" بقدر ما هي فكرة مغرقة في الغشامة السياسية. و لا عجب فمن غير " ميشيل ليريس " ـ الاثنولوجي و الشاعر السوريالي ـ من غيره قمين باطلاق مثل هذه الفكرة السوريالية التي تطعن في مبدأ الاثنوغرافيا كمبحث استعماري و تجعل الرجل يبدو كمجنون على شجرة مشغول بقطع الفرع الذي يجلس عليه.
يقول " ليريس "
" اذا نظرنا للاثنوغرافيا كأحد العلوم التي ينبغي أن تساهم في تأسيس فكرة انسانية حقيقية ، فنحن ، بلا شك ،نصاب بالحسرة على كون هذا العلم الاثنوغرافي يبقى آحادي الجانب .أعني أنه اذا كانت هناك اثنوغرافيا غربية تدرس ثقافات الشعوب الأخرى فان العكس غير موجود ".."و من وجهة نظر معرفية فهناك نوع من اختلال في التوازن يزيّـف منظور البحث ويؤمّن على ميلنا الاستعلائي.و هكذا تجد حضارتنا نفسها بعيدا عن متناول الفحص و الدراسة الذين يمكن أن تباشرهما تجاهها هذه المجتمعات التي نجعل منها موضوعا لبحثنا".
و هكذا يبدو أمر " ليريس " في حقيقته أمر اصلاح طموح، اصلاح مزدوج يستهدف صيانة الكفاءة المنهجية للعلم الاثنولوجي مثلما يستهدف صيانة الكرامة الانسانية لطرفي الظاهرة الاثنولوجية.و في هذا المشهد يطرح " ليريس " مفهوم " قسمة العلم الاثنوغرافي " بالتساوي بين الفرقاء.وذلك في مطلع الخمسينات كما يشهد بذلك خطابه أمام " جمعية العاملين العلميين، قسم العلوم الانسانية" و المعنون " الاثنوغرافيا أمام الاستعمار".
و فكرة " القسمة" العادلة في مشهد " ليريس" تقوم على " أن يتم تدريب باحثين اثنوغرافيين في البلدان المستعمـَرة و اتاحة الفرصة لهم كي يبعثوا عندنا في أوروبا ليدرسوا و يبحثوا في أساليب حيواتنا ".لكن "ليريس" الشاعر الألمعي و المناضل التقدمي المعادي للاستعمار [الـ " واقع من السما سبع مرات"]، أدرى بأن الأمر، أمر القسمة العادلة ، ليس بالبساطة التي يبدو عليها ، كون مجمل العلائق بين المستعمـِرين و المستعمَرين تبقى ملغومة بواقع الهيمنة و أحكامه.و لذلك فهو يقول مستدركا
"المشكلة هي أن هؤلاء البحّاث سيعملون وفق المناهج التي علمناهم اياها و أن الاثنوغرافيا التي سينتجونها تبقى أسيرة نظرتنا و مناهجنا "
Leiris pp. 106-111
ما العمل ؟
ترى هل يستقيم هجران الاثنولوجيا لانقاذ الأفارقة ؟
" كـُـس أم" الاثنولوجيا ان كانت صيانتها تمدّد من واقع قهر العباد في أفريقيا أو في واق الواق..
[ و عبارتي لا بد ستخد ش حياء الأخ الدكتور محمد عبد الرحمن أبوسبيب الباحث العاكف على فن الأفارقة في بلاد تموت من البرد حيتانها . لكن انت حياءك دا يا زول، هو الفنأفريقانية بتاعتك خلّت فيه حاجة يخدشوها؟؟] ، طبعا دا رأيي أنا ، لكن رأي " ليريس" شنو؟
" ليريس " أكبر طموحا مني، فهو ينوي انقاذ الأفارقة بالاثنولوجيا . ربما لأن الرجل على يقين من كون وجود الأفارقة نفسه يستحيل في خاطر الأوروبيين خارج المبرر الاثنولوجي.فالأوروبيون لا يرون الأفارقة الا داخل اطار النظر الاثنولوجي.و عليه ففكرة هجران الاثنولوجيا تروّع الخواطر الأفريقانية في أوروبا و في أفريقيا معا.فمن جهة أولى ، هي تروّع خاطر باحثي الاثنولوجيا الأوروبيين والسلطات الأوروبية التي بعثتهم و خوّلتهم تفسير أقوام القارة ، كون هجران اطار النظر الاثنولوجي يموضع القوم أمام صورة لا تطاق لقارة تخلّقت و تتخلّق كل يوم في ظلام الفشل الانساني للنسخة الأوروبية المسيحية لحداثة رأس المال .و من الجهة الثانية ففكرة هجران الاثنولوجيا تروّع خواطر كل الأفارقة الذين تعلموا أن ينظروا لقارتهم بمنظار اثنولوجي أوروبي.و بما أن لا أحد يرغب في هجران صورة افريقيا الاثنية" المعرقنة" ذات المنافع الأنية العديدة ، لا يبقى أمام " ميشيل ليريس " ، بصفته كاثنولوجي انساني تقدمي و معاد للاستعمار، لا يبقى أمامه سوى أن يتولى مهمّة مداواة الاثنولوجيا من مرض الاستعمار.هذه" المهمة المستحيلة" ستشغل " ليريس " لغاية نهاية حياته الحافلة.و الحق يقال ، فقد حاول " ليريس " مخارجة هذه الهدية المفخّخة المسمّاةبـ " علم الاثنولوجيا" و التي عهدت بها اليه السلطات الاستعمارية ، حاول مخارجتها من حقل ألغام الشرط الاستعماري ،متجنبا المزالق و الفخاخ الكثيرة الأخلاقية و المنهجية و السياسية، التي تتربّص بهؤلاء و أولئك من الرجال و النساء المقيمين على طرفيي ممارسة متحقّقة في مشهد المجتمع الطبقي المعاصر.أن الاثنولوجيا غير الأوروبيةـ و الاثنولوجيا بطبعها غير أوروبيةـ ليست سوى مرآة أوروبية اخترعتها أوروبا لتتأمل على أبعادها الأفريقية أو الأسيوية الخ، أحوال صورتها و صيرورتها بين تناقضات الوهم و الحقيقة.لكن هذه المرآة العجيبة تتميز بكونها ذات وجهين ، و على وجهها المعاكس يمكن لغير الأوروبيين مشاهدة صورة أوروبا و صيرورتها من زاوية نظر مخالفة مثلما يمكنهم رؤية صورتهم و صيرورتهم هم أنفسهم في هذه المرآة التي يبذلها لهم الأوربيون لأسباب بعيدة عن البر المسيحي اياه.و حين أقول أننا نملك فرصة مشاهدة صورة أوروبا و صيرورتها في نفس الوقت الذي نملك فيه فرصة مشاهدة صورتنا و صيرورتنا في مرآة الاثنولوجيا الأوروبية فهذا لا يعني أن الأوروبيين محرومين من مشاهدة الصورتين و الصيرورتين في آن معا.لكن النظر يبقى رهين المصلحة . و قد تعود الأوروبيون على فكرة أن لا مصلحة لهم في النظر نحو الآخرين و هي بلا شك " عوجة كبيرة " عواقبها لا تخص الأوروبيين وحدهم.و في هذا الأفق تبقى مهمة " انقاذ " الاثنولوجيا من عقابيل الثقافة الاستعمارية أصعب المهام التي تصدى لها الرجل.فـ" ليريس " يفترض " أن تدريب عدد كاف من الاثنولوجيين من أهل المستعمرات ".." يمكن أن يكون نافعا على أساس أن هؤلاء البحّاث الخارجين من المجتمع المستعمَر، بقدر ما ينسلخون عن عاداتهم ـ و هم فاعلون لا محالة ـ فهم قمينون ، على الأقل، بحفظ شيء أكثر حياة من ثقافة ذويهم في الذاكرة و ذلك لكونهم يشاركون الناس موضوع بحثهم نفس التجربة المعاشة ".و هكذا يخلص " ليريس " الى نتيجة متواضعة و بعيدة عن طموح " القسمة" الطوباوية الأولى.و مع استحالة توفر الأثنولوجيين الوافدين من المستعمرات ليدرسوا المجتمع الأوروبي على شرط المساواة في النظرالاثنولوجي، فان " ليريس " ينصح بأن يتولى الاثنولوجيون المحليون من رعايا المستعمرات أمور البحث الاثنولوجي وسط ذويهم من" السكان الأصليين" ، يعني " من دقـنـُه و افتل لـُه "، و لا يهم كثيرا ما اذا كان هؤلاء البحاث الـ " أصليون " سيطبقون على مجتمعات ذويهم المناهج الاثنولوجية التي درّسها لهم الأوروبيون.هذا المنطق يردنا ـ رغما عن أنف أنسانية " ليريس " ورغما عن معاداته للاستعمارو تقدميته ـ الى شعار " فرز المويات " العزيز على الجنرال " ديغول " و " جان كلير " و من لف لفهم من العنصريين على تباين الألوان.و من الآن فصاعدا سيتمكن الاثنولوجيون الأوروبيون من أن يواصلوا طبخاتهم الأوروبية فيما بينهم دون أن يتطفل عليهم اثنولوجي من بلدان العالم الثالث. و على كل حال فالبحاث الأثنولوجيون من أهل العالم الثالث سيكونون في شغل شاغل عن ما يحدث في اثنولوجيا الأوروبيين بحكم انقطاعهم المفترض لتدبير اثنولوجيا ذويهم.
و هكذا ينمسخ " ميشيل ليريس " بقدرة قادر الى نفق سريّ يستطيع" جان كلير" التوسل به ـ تحت أرض التناقضات الظاهرة ـ للقاء غريمه الحميم " جان هيبير مارتان " و بالعكس. يصبح " ميشيل ليريس " مناسبة للقاء الأخوة الأعداء كلما شعرت أوروبا بأن هناك خطر يتهددها من الخارج ، و بالذات من جهة الثقافات غير الأوروبية. ذلك أنه حين يتطلّب الأمر التعاطف مع المعذبين في الأرض فليس هناك أفضل من التلويح براية " القسمة " الطوباوية مع " سحرة الأرض" من كل الألوان.و هذه الصنعة يحذقها " جان هيبير مارتان" أكثر من غيره في فرنسا المعاصرة التي لا يغمض لها جفن عن مراقبة مصالحها في العالم الثالث الأفريقي، في هذا الوقت الذي بدأ الخصوم الأمريكان يتحسسون فيه موضع قدم لهم في القارة المظلمة، و بالذات في بعض مناطق النفوذ الفرنسي.[ ساحل العاج، الكونغو..]. أما حين يتعلق الأمر بترميم الهوية الأوروبية في بلد كايطاليا التي لم يعد عندها ما تخشى فقدانه في المستعمرات السابقة أو في أي مكان من العالم الثالث، فان السلطات الايطالية تجد في شخص الفرنسي " جان كلير "ـ أول مدير غير ايطالي لمعرض بينالي البندقية ـ خير مدافع عن هوية ثقافية أوروبية عمادها الماضي الفني المجيد لايطاليا، بالذات في هذه اللحظة التاريخية الراهنة التي انمسخت فيها شعوب العالم الثالث الى جحافل بربرية تهدد بتدمير كنوز الحضارة الأوروبية كما دمّر الطالبان الأفغان آثار الحضارة الآسيوية في حادثة تماثيل " بوذا باميان " و كما يدمر المتعصبون الاسلاميون مظاهر الحضارة الأوروبية كوجه في الجهاد ضد البدع و الضلالات .
و اليوم ،انقضى أكثر من نصف قرن من الزمان منذ أن أطلق " ليريس " قولته المشهودة بضرورة القسمة العادلة للنظر الأثنولوجي.لكن لا أحد يفهم لماذا لا يزال جل الاثنولوجيين الأفارقة عاجزين عن انتاج اثنولوجيا تعانق أولويات الواقع الأفريقي؟ لماذا لم يفلح الأفارقة في تأسيس اثنولوجيا فاعلة وجهة التنمية الاجتماعية والاستقلال الاقتصادي و السياسي ؟هذا سؤال الاجابة عليه تتجاوز سعة هذه الورقة المتفائلة.لكن يبقى أن الممارسة الاثنولوجية في تحليل نهائي ما، هي شكل من أشكال التعبير عن علاقة الهيمنة المادية على أزمنة و أمكنة الآخرين. و صاحب المبادرة الاثنولوجية انما يتخذها وسيلة لاحكام هيمنته على الآخرين مثلما يتخذ منها دليلا على واقع هذه الهيمنة.أقول ربما كان تقاعس الأفارقة عن انتاج اثنولوجيا أفريقية يتفسر بكون الممارسة الاثنولوجية تظل غير واردة خارج اطارالصراع بين مصالح السوق الرأسمالي الذي ليس للأفارقة فيه ناقة و لا جمل.
" مصالح السوق " هذه العبارة السحرية التي تفتح مغاليق الاشكالية الفنأفريقانية على هاوية سوء التنمية كانت ضمن متاع " ليريس " النقدي منذ زمن طويل.كان " ليريس " على يقين من أن الاثنولوجيا لا تفلت من قانون مصالح السوق.و كان يعرف أن أحتمال تخلّق اثنولوجيا انسانية تحت شرط السوق هو أمر مستحيل مثلما كان يعرف أن مساعي الخلاص الفردي للبحاث الاثنولوجيين تنطوي على مخاطر التهلكة الأكاديمية. نعم كان " ليريس " يعرف
" ..ان الباحث الاثنولوجي الذي يجاهر بتضامنه التام مع الناس موضوع بحثه ".." انما يعرض نفسه ببساطة لخطر أن تسحب منه السلطات التخويل الذي منحته له كباحث..". و في مواجهة هذا النوع من المخاطر تنمسخ أرض البحث الاثنولوجي الى ساحة حرب طبقية لا يطيقها سوى البحّاث من أهل المراس أو من ذوي الروح الاستشهادي.و رغم يقيننا بأن " ميشيل ليريس" ليس " شي غيفارا" الاثنولوجيا الا أننا نظلم الرجل لو اختزلناه لمجرد " نفق سرّي " لمنفعة عملاء السلطات التجارية و السياسية، و ذلك لأن الرجل بفطنته وبرهافة حسه الشعري و السياسي و بتاريخه الشخصي الحافل بالمواقف المشرفة في النضال ضد الاستعمار ، دون أن ننسى مواقفه الأثنولوجية الأفريقانية التي لا تنجو من اللبس المفهومي العرقي، أقول أن " ليريس " بكل ما يمثله انما ينطرح كنصب لسوء الفهم في مسار الحوار المستحيل بين الأوروبيين و "أفارقتهم" الذين اخترعوهم اختراعا من وحي مصالحهم . بل أن الرجل لينفع أيضا كنصب لسوء الفهم المستديم في حوار " بعض " الأفارقة" المتأوربين" و ذويهم من " السكان الأصليين ".
ميشيل ليريس كان على يقين من كون الأفارقة قد تحولوا عن الميراث الثقافي للأسلاف ـ و لو شئت قل " انمسخوا " ـ بشكل حاسم لا رجعة فيه ، و ذلك تحت ضغوط حضارة السوق الرأسمالي الغربي التي استوعبتهم في هامشها الاثنولوجي المتحفي الذي يسع كل أهل الحضارات البائدة بدون فرز.و في كتابه " أفريقيا الشبحية" الذي يحكي وقائع " حملة داكار/جيبوتي" ، سجل" ليريس" أبلغ الشهادات عن البذاءات العرقية البالغة العنف التي لجأت لها الدولة الاستعمارية بسبيل اخضاع أهل القارة و تربيتهم على قبول نظام الهيمنة .
و فيما وراء التعقيد و التركيب اللاحق بمواقف " ليريس " الأفريقاني فان هناك سؤال يبقى بلا اجابة حول دوافع " ليريس " الشاعر المتمرد الذي تفتح في قلب الحركة السوريالية أيام عزّها الفني و السياسي.ما الذي يجعل هذا الشاعرالعارف بالأدب و موسيقى الجاز و الناقد الفني الذي كان بين أصدقاءه نفر من سدنة الحداثة الفنية في القرن العشرين، ماالذي يجعل صديق " ماكس جاكوب " و " جان دوبوفييه " و "أندريه ماسون " و " خوان ميرو " و" تريستان تزارا " و بابلو بيكاسو" ، ما الذي يجعله ينخرط في مغامرة الاثنولوجيا الأفريقانية في رفقة الفسالة من موظفي الادارة الاستعمارية ؟
و حتى بعد عودته من حملة " داكار /جيبوتي" ، في مطلع الثلاثينات، فهو يسجل نفسه كدارس في " معهد الاثنولوجيا بجامعة باريس ". و من حينها سيكرّس " ليريس" جل جهده لمشروع اصلاح الاثنولوجيا و انسنتها حتى و لو أدّى به الأمرلتأييد مبدأ الكفاح المسلح لتحرير الشعوب المستعمرة و هو موقف نادر في أوساط الاثنولوجيين الفرنسيين و حتى في أوساط المثقفين عامة في تلك الأيام.يكتب " ليريس" في " خمس دراسات في الاثنولوجيا": " ان كان للباحث الاثنوغرافي أن ينشط في دعم أهل المجتمعات المستعمَرة فان الخدمة التي يمكن أن يؤديها، سواء من خلال التعبير بصراحة عن معاداته للاستعمار ،أو من خلال تقديم علمه و خبرته للمناضلين من أجل الحرية،ليست بذات بال في مشهد المستعمَر.و ذلك لأن التحرر المادي ـ الذي هو شرط أساسي لمواصلة كل دعاوى المشروع التحرري ـ لا يتحقق الا عن طريق وسائل أكثر عنفا و أشد نجزا من ما هو في متناول يد البحّاث و العلماء".
و لعل أكثر جوانب شخصية " ليريس" اثارة للاعجاب ـ وللعجب ـ هو قدرته على التطور و تجاوزحظ النفس التي تربت في شعاب الأنانية العرقية الأوروبيةو امتيازات الاستعمار. اذ بين اللحظة التي كان الاثنولوجي الأفريقاني يكيل فيها الصفعات لخادمه السوداني " ماكان"، أثناء مرور حملة " داكار/جيبوتي" بجنوب السودان في مطلع الثلاثينات[أنظر" مرآة أفريقيا" ] ،و اللحظة التي يعلن فيها موت الاثنولوجيا أمام الاستعمار في مطلع الخمسينات ، فان " ليريس " يكمل دورة كاملة من التحولات الفكرية و السياسية و النفسية جعلته يكتب ـ في مطلع الستينات أبان حرب الجزائرـ مدافعا عن حق الباحث الاثنولوجي في التمركز " كمحام طبيعي " للشعوب المستعمرة. و مواقف " ليريس " التقدمية أدت به للوقوف أمام "مجلس تأديب اداري" عقده " المجلس الوطني للبحث العلمي "[ سي. ان .ار. اس]. كان المجلس، الذي يعتبر أهم مؤسسة بحثية رسمية في فرنسا يأخذ على " ليريس" توقيعه لوثيقة سياسية معارضة لسياسة فرنسا الاستعمارية اشتهرت بـ " بيان المئة و واحد و عشرين " و فحواها حث الشباب الفرنسي من مجندي الخدمة العسكرية الالزامية على العصيان ومعارضة الحرب الاستعمارية في الجزائر.[" مرآة أفريقيا " ].
و على الرغم من موقفه الناقد للاثنولوجيا فان " ليريس " لم يفكر لحظة في هجران الاثنولوجيا. و ربما يتفسر هذا الموقف بكون الرجل الذي اكتشف العالم غير الأوروبي كما اكتشف الاثنولوجيا ، معا ضمن ملابسات الاستعمار، كان يرى في اصلاح الاثنولوجيا و أنسنتها فرصة للتمركز بعدل ضمن الزمان و المكان الذين يتقاسمهما مع" الآخرين" .و أظن أن المنطق الذي أسس عليه الرجل موقفه من العالم يمكن أن يحال لتجربته الفنية كسوريالي و تجربته الاثنولوجية الشخصية كأفريقاني، و هي تجربة ساعدته على تجاوز أغلب رفاقه من الفنانين السورياليين الذين وقف اهتمامهم بالعالم عند تخوم العصيان الفني الطليعوي ضمن التقليد الأوروبي.ذلك ان كانت العلاقة مع أهل العالم غيرممكنة خارج الاثنولوجيا فمن باب أولى اختراع اثنولوجيا جديدة تسع فداحة المشروع الثوري الطوباوي الذي يقوم في مشهد " ليريس " على مصالحة ـ و قيل تهجين ـ الثقافة التقليدية مع التكنولوجيا الحديثة.و بين حدب الباحث الاثنولوجي على الثقافة التقليدية و توجس الفنان السوريالي من التكنولوجيا الحديثة يورّثنا " ليريس" مشروعه الطوباوي في شكل هدية مسمومة سيتلقفها بفرح كبير رهط الفنأفريقانيين الفرنسيين من نوع " جان هيبير مارتان" ليبنوا عليها الاطار الآيديولوجي للصناعة المعارضية المتخصصة في الفن المعاصر غير الأوروبي.